«التنزيل» مجموعة علي الخلف الشعرية
صدر للشاعر السوري خلف علي الخلف مجموعة شعرية حملت عنوان "التنزيل". عن داري جسور (دمشق) – الكندي (باريس)؛ وجاءت في 104 صفحات من القطع المتوسط.
وقد قسمت المجموعة الى ثلاث اقسام؛ القسم الاولى ضم خمسة نصوص طويلة نسبيا ( وريث البراري – صبوات السيف – ندب على قبور الجهات – سَدْو الغياب ) والقسم الثاني ضم ستة نصوص (حجر الليل – العاشق – مات هناك – شمس الناحل – المردو والمكحلة - الجسد سؤال اليابسة) جاءت أقصر من السابقة؛ بينا جاء القسم الثالث تحت عنوان رئيس (مآتم الذاكرة) وعناوين فرعية لنصوص قصيرة. كتبت نصوص المجموعة كما هو مدون أسفل النصوص بين عامي 2000- 2004؛ وفي أماكن متفرقة توزعت بين أثينا والرياض وحلب؛ وهذه المجموعة هي الثانية للشاعر إذ أصدر قبل ذلك مجموعته الأولى " نون الرعاة " في عام 2004؛ مما يشير الى قلة اصداراته وتباعدها.
وصدّر الشاعر مجموعته بمقولة للحلاج "لو ألقي مما في قلبي ذرة على جبال الأرض لذابت وإني لو كنت يوم القيامة في النار لأحرقت النار ولو دخلت الجنة لانهدم بنيانها"
وبشكل عام تنحو نصوص المجموعة الى المزاوجة بين الذاكرة- التي تنهل منها النصوص – وبين رؤاه للوجود ولذاته؛ كفردٍ أعزل طحنته الهجرات وهي توزعه على جهات الأرض؛ إذ كلما (مشى على الماء نقر الطير خطاه). وعبر محاولته اجتراح لغته الشعرية الخاصة يعلو بما هو شخصي وجوّاني الى مصاف الاساطير؛ وكذلك يعجن ماهو خارجه بماء وحشته ويخبزه على ناره الداخلية ليكون رغيفاً يدل عليه وعلى أقرانه.
ومن أجواء المجموعة هذا النص :
وريث البراري
الهفوةُ تغفو
يسترها الناحلُ مستبشراً خلاصهُ من حواف الخَواتم لا الأصابع ترتوي من خِصل التورية ولا الشفاه تلثم البلور ومثلها الفارس
عيناهُ معصوبتان ويداهُ ترنيمةٌ للأسى
التباريحُ تجهشُ
النبوةُ تغتسلُ بعطش ِالإبل
الذبّاحون طافوا ببياض ِالقبورِ، تركوا نِسوتهم معلقاتٍ
على حبلِ الدهر كعمرٍ تجففهُ الخطيئةُ
الأقواسُ تظهر في سماءِ الله مثخنةً بدم الابن والترانيمُ تسبحُ في نهره وهو يَشْرَقُ بالأسى.
الناحلُ
على ضفاف الأبد ينزع السلاسل، مرتجلاً مهدهُ، حافراً قبره عند وسادته
يقرأ الرؤيا كما وردتْ على لسانِ يوحنا يسرق الكتابَ من رُفة العرش، يفضُّ أَختامهُ
المروءةُ تتزينُ بكحلِ الهند وخلاخيل الفصاحة وزوجة ابن الورد تُدَفِئ فِراشها بِشَبهِ الناحل
تعرفهُ البراري
عابراً مثل دم ٍيسيل
يرتِّلُ الخُطى مزاميراً
يُضرمُ الغفوةَ بِريقهِ
يلوثُ الريحَ بأنفاسهِ
ويروي النشيدَ بماءٍ يسيلُ
من حَلمةِ الموت
ظل يبكي الرُّحَّل
وعيناهُ ترنوان للقبور
بلّل الهاجس بمقاماتِ الصبا
وعليهم كان يبكي
من عينيهِ كان الطوفانُ
من أَضلعهِ صنعَ نوح الفُلكَ
غير أنَّه ظلّ على اليابسة يعصمهُ النشيدُ
وحين مشى على الماءِ
نقر الطيرُ خُطاه
حملته الأوهانُ عارجة ًعلى ساقِها، سَرَتْ به إلى ليلٍ
خجول
عبدتهُ المآذن، أصغتْ إليه الأجراسُ وهو يحفرُ قبرَ امه على كتف البليخ*
آلف القطا، عَصَرَ لهُ الماءَ من أرْدُن العاشقات
( منذ الطفولة كانت خطاهُ تصير قُبَرَات وهو يركض خلف "مْلَهِيَة الراعي"* )
في الرمق الأخير من ليله، يشتل الأناشيد، يطوف حول قبور الألفة يلقنها الوصايا كما رواها شيوخ الشريعة
أبصرهُ يحيى بن زكريا يأكل من شجرِالصدوقيينَ نَهَرَهُ قالَ:
الصائمُ يأكل قَرنَ الغزال
رأى الثلجَ على بياضِ المرايا فابْتَهَلَ
أضاءَ مِحرابه بالشموعِ التي خطفها من ورثة تيمو ثاوس
شيّدَ من نُخالةِ اللغة وثناً لم يعمّدهُ يوحنا ولم يعطه الربُّ اسماً وظل يجوب البراري باحثاً عن إلهٍ ينسبُ إليـه أبناءَه
يعجِنُ طحينَ الفِطرة بدم السنونو ويفرقهُ عن روحِ الحبيبْ
المرايا ناءَتْ بصورتهِ
هو الذي تحسده الملكات على تاجه
الأطفال يصيحونه: ملك الملوك والقطا يدعوه الراعي قاده تموز إلى ظُلمتهِ وأخرجَهُ مجدولاً كصيفِ العذراء
تَرحلُ إليه المدارات الجهاتُ تلتفتُ إليه
يسندُ جَرَتَهُ إلى حضن الثاكلة و ينوحُ:
مثلكِ رائحة الأزل تفوح من أرْدَانِ الخالق...
أجدل ضفائركِ بأصابعِ الشغف وأهجو المدنَ التي أنجبتني
لم أفتحْ أزرارها، لم أمد يدي إلى أشجارِها غير أنها أخرجتني من مَلكوتِ الفاطرِ، الذي تُسَبِّحُ باسمه الديدان وعاشقةٌ تنامُ على حبلٍ من مَسَد
على شواطئ حفرها بائعو الخيل وقراصنةُ الدمعِ وعاهراتٌ يضاجعنَ رملاً لم يندمل
تهجرهُ العاشقاتُ وتفرُّ منه النبوءةُ، يحبس دمعهُ في زنازين عينيه ويُخَلِِّدُ الصوتَ
ضحكتُها ترنُّ كأجراس الوالهِ غير أنَّه لا ينام يشرب الليلَ من أصابعها، يخطُّ صِباه على راحة اليد مهيئاً طريقَ اللذةِ ويُشْرِقُ في برِّ الشامِ
منيراً مراعي الحوريات وشاهداً على صبرِ الضحية وهي تذبحُ بالسيف العاري
مَنْ يضفرِ الأناشيدَ ؟
يربطني إلى برِّ الشآم حيث نسيتُ نبيذي
تُشرق الصباحاتُ وأنتَ تذوي مثل صدى هجا صوتهُ ومحزوناً تبكي كمن أضاع اسوارة العرس، أو كريحٍ أضاعتْ نسلها بين الجبال
سفح البابليون دمكَ في كؤوسِ الغواني، اضطهدكَ نسلُ داوود، ومازالتِ الخيلُ تُصهلُ عند تخومكَ وقد أرْدَتْ فرسانها في حروب الرِدة
تنادمُ السُلالات التي تعبرُ صحراءَكَ وتنسى أنَّكَ أضَعتَ عباءتكَ عند تخومِ الربع الخالي
تحفرُ كل يومٍ قبرَ أثينا كي تَعُدَّ أصابعها
منشداً للجنائزِ عند سفح الأكروبول كسرابٍ أضاعَ أقرانهُ:
مَنْ يُريني نَعشي قادماً على إبلِ الروحِ في شروق اليمامة
لأغمسِ قلبي بعسلِ السّدْر تَدمَعهُ الملكاتُ في سهول تهامة
وأفرقه للعابرينَ صَوبَ أثينا....
تضفركَ الأنوثةُ بأطرافِ جدائلها؛ تحبس ابتهالاتكَ بجوار النهدين:
ما كانت الأنثى بدءاً
بل حطباً في تنور العاشق
وما أَردتُ الشجى لأغري نارَها ببيادري لكنها الروح تُشوى على جمرِ البصيرة أغرف الوجدَ من صرخاتِها وأفضح المكنونَ في رُطْبِ نفسي:
لم يغسل أحد قلبي بالثلج
وما سرحت بأغنام أبي
واحترقت بموقد البيت مراراً
غير أنَّ النشيد باغَتَني في صِباي
على ظلي هبطَ الوحيُ وسالتْ عليَّ النبوةُ
فزمَّلّتني العاشقات
(وصنع معجزاتٍ أكلها النمل :
غافلَ البائعَ وسرقَ إسوارةً لحبيبةٍ لم تجئ
لَحِقَ بابيه في الظلمة الى بيت الجمّال عَبرَ البليخ من المَخَاضَة ولم يرتجفْ من الماء
أمسكَ الأفعى من ذيلها وأخافَ أقْرَانَهُ ونساءُ أبيه بالعباءاتِ السود والمناديل البيض حمَلنه مسير سنين، كتعويذة في صناديق عرسهن، وما زال حياً)
على العتبة كسر كأسَ النبوةِ :
ماحاجتي للرسالة وأنا إلهُ الذنوب
هَا أنَا أوْلِجُ الليلَ فيْ صُبْحِهَا * وَأوْلِجُ صُبْحَهَا فيْ سَوَاْديْ * أغْمِسُ الأمْوَاْتَ فيْ ضَوْئِهَا * فَيَقْومون
عُشَاْقَاً ثَمِلِيـنْ
تُشْغَفُ بِصِغارِ القَطَا وعلى ظلكَ الكونُ يبكي
ياوريثَ البراري
ها أنتَ واحدٌ احدٌ هَجركَ الطير والخُلانُ ناموا
فأينَ تواري الألوهة
ياحَفيدَ الغزال
أثينا / كانون الثاني2002
* البليخ: نهر يمر بقلبي وينحدر للفرات يبسَ مثل خطاي
طويلاً إلا أن الأتراك يستخدمونه الآن مجرى لتصريف فائض الري في مشروع سد أتاتورك
* مْلَهِية الراعي: طائر صغير وجميل نسميه أحيانا مْحَني ذيله. يطير على مستوى منخفض ولايبتعد في طيرانه مما يجعلنا نمضي النهارات في مطاردته معتقدين أننا سنمسكه بعد قليل.
إضافة تعليق جديد