«الاجتياح»: أول مسلسل عربي يعترف به الغرب وينبذه العرب
قليلة هي الدراما التلفزيونية، لا سيما العربية، التي تقتحم وجدانك فتؤثر فيه أبعد من حدود الترفيه. ولعل هذا ما جعل النقاد المحكمين في جائزة »إيمي« السادسة والثلاثين للعام ٢٠٠٨ يختارون »الاجتياح« من بين ٥٠٠ عمل للوصول إلى التصفيات النهائية لفئة »تيلينوفيلا« مع ثلاثة مسلسلات أخرى من الأرجنتين والبرازيل وروسيا. والمفارقة أن هذا العمل الذي حصل على الاعتراف العالمي بجودته متخطيا أية تحفظات سياسية، لم يلق اهتماما يذكر في الوطن العربي. فهو لم يعرض خلال رمضان العام ٢٠٠٧ إلا على قناة فضائية واحدة هي »أل بي سي«. مفارقة تبدو صادمة في ظل سيطرة فكرة المؤامرة على العقل العربي الذي يرى دائماً الغرب مصدر التعتيم على قضايانا، في حين أن هذه المرة جاء التعتيم عربياً من كل الفضائيات التي رفضت عرضه لأسباب سياسية.
فالمسلسل إن كان يعري أي مؤامرة فهو يعري المؤامرة العربية التي مازالت تؤدي حتى اليوم الدور الأول في حصار الشعب الفلسطيني. ومن دون الابتعاد كثيراً في التاريخ نحو مأساة مخيم جنين التي يؤرخ المسلسل لها، يمكننا ببساطة النظر إلى ما يحصل في غزة والضفة الغربية اليوم وفي المخيمات الفلسطينية بشكل عام. فمن حاول ونجح في كسر حصار غزة مرتين؟ بالتأكيد ليست الأنظمة العربية.
لعل ارتباط العديد من الفضائيات بسياسات هذه الأنظمة هي التي ساهمت في إبعاد »الاجتياح« عن الجمهور العربي، مفضلة تقديم أشكال أخرى من الدراما التلفزيونية الترفيهية المسطحة في غالبيتها بدل الاتجاه نحو ما هو جاد وحقيقي.
فهذا المسلسل الذي كتبه رياض سيف، كاتب »التغريبة الفلسطينية«، وأخرجه التونسي شوقي الماجري هو أقرب إلى ملحمة تاريخية توثق تلفزيونياً لأحداث الاجتياح الإسرائيلي لمخيم جنين في العام .٢٠٠٢ لكنه ليس مسلسلاً وثائقياً. فقد استند إلى الأحداث الحقيقية وبعض الشخصيات الواقعية ليبني حولها دراما إنسانية تؤرخ لحدث غاب كثير من مشاهده عن الإعلام بسبب الحصار. فالصورة الوحيدة ربما للمخيم هي تلك التي رأيناها بعد سقوطه، لكن المسلسل استطاع بسيناريو متقن وشخصيات معقدة وصورة ساحرة (استعان المخرج بمصورين بولونيين) أن يعيد إحياء جدران وطرقات وبشر المخيم الذي حوّله الاجتياح إلى ركام.
لكن المسلسل أيضاً أثّر في كل من شاهده إلى درجة التمازج مع شخصياته وأحداثه فاختلطت الدراما بالواقع وأصبحت مشاهدة كل حلقة من المسلسل كمن يحفر عن سابق إصرار وترصد المزيد من الألم، بل والخزي في القلب مما حصل...
أعاد الماجري في هذا المسلسل الاعتبار إلى أبطال المقاومة في المخيم، المسلحون منهم والمدنيون. فرأينا الشهيد يوسف ريحان ولقبه »أبو جندل« وقد عاد إلى الحياة يقود المقاومين بين أزقة المخيم قبل أن يسقط وتعدمه القوات الاسرائيلية في الساحة. أصبح اسم »أبو جندل« حيا من جديد بالصوت والصورة بأداء عبقري للممثل السوري عباس النوري. أما قصة حب المقاوم »مصطفى« (الأردني منذر رياحنة) والإسرائيلية »يائيل« (فرح بسيسو) فقد أحيت قصة حقيقية انتهت بإعدام الحبيب أمام باب المنزل الذي تركته عائلته في حيفا في العام ١٩٤٨ واعتقال الحبيبة وسجنها بتهمة الخيانة. ولعل أجمل شخصيات المسلسل شخصية »بسيم« (السوري مكسيم خليل) التي تطورت من شخصية شاب مدلل طائش »متأمرك« إلى مقاتل شرس بعد أن وقع في حب فلسطين وقضيتها والمتجسدة في شخصية حنان (الأردنية صبا مبارك) الممرضة الفلسطينية المقاومة.
فإذا كانت الصورة الإخبارية قليلاً ما تظهر غير المقاتلين في حال المقاومة إلا أن المسلسل حوّل كل شخصية من شخصياته الفلسطينية تقريباً إلى مقاوم على طريقته. ولعله من الصعب إيصال أثر الصورة القوية التي قدمها المسلسل إلى قارئ لم يره، لكن كل مشهد من مشاهده يبقى حياً في ذهن من رآه. وتبدو قمة العمل الدرامي في مشهد موت رب عائلة على سريره تاركاً وراءه زوجة وطفلين، ومحاولة الزوجة طوال فترة الاجتياح أن تقنع طفليها بأن أباهما نائم في الغرفة الأخرى فتدخل عليه وتقرأ له القرآن حتى بعد أن بدأت رائحة الموت تخيم على المنزل بسبب عدم إمكانية دفنه.
»الاجتياح« مسلسل لم يأخذ حقه في الوطن العربي.. ربما لأنه الأكثر تعبيراً عن مأساتنا. هو يتنافس غداً الأحد على أهم جائزة للأعمال التلفزيونية. لعل الغرب يكون أكثر عدالة هذه المرة بحقنا مما نحن بحق أنفسنا.
زينب غصن
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد