هيثم حقّي: شيخ الدّراما السّورية... السينما حبّه الأكبر
هناك على الجدار المقابل لمكان جلوسه في غرفة مكتبه، صورتان متجاورتان لشخصيّتين لهما الأثر الأكبر في حياته. الصورة الأولى لوالده اسماعيل حسني حقّي، وهو من أوائل متخرّجي «أكاديمية الفنون الجميلة» في روما. والثانية للمخرج السوفياتي ليف كوليتشوف. عندما عاد الوالد من تلك الأكاديمية عام 1955، كان هيثم طفلاً صغيراً ينظر بإعجاب كبير إلى هذا الفنان التشكيلي، والمثقف الموسوعي، وعاشق السينما الذي جعل بيته ملتقى للأدباء والتشكيليين والمسرحيين. ولع والده بالسينما، بدأ في روما، في حقبة الواقعية الإيطالية الجديدة. «كان يعرف كلّ أفلامهم ويستطيع أن يرويها كأنّه يجعلك تراها».
المكتبة الهائلة في بيت الطفولة جعلت القراءة عادة يومية عند هيثم. «كان والدي ديموقراطياً وصديقاً»، سمح للابن بقراءة كل كتبه في وقت مبكر. تأثر هيثم بالوجودية، وبأفكار أبيه اليسارية التي جلبها معه من إيطاليا في عزّ صعود اليسار بعد الحرب العالمية الثانية.
درس حقّي في «ثانوية المأمون» في حلب، وفيها كان المخرج لكل حفلات المدرسة... ثمّ أخرج حفلة اتحاد الطلبة في كلية الهندسة على المدرج نفسه الذي سيشهد تكريم أسرة مسلسل «الثريا» بعد سنوات عديدة... «كانت لحظة مؤثرة جداً»، يقول.
مجموعه العالي في الثانوية العامة، جعل والده يقترح عليه دخول كلية طب الأسنان. «كان أبي يرى أن هذا الاختصاص سيجعل حياتي مريحة». بعد عام من الدراسة في جامعة دمشق، لم يستطع هيثم أن يتصالح مع فكرة مستقبله كطبيب أسنان. وقبل أن يستسلم لليأس، أعلنت وزارة التعليم عن بعثة في مجال الإخراج السينمائي إلى الاتحاد السوفياتي. كان ذلك قبيل حرب حزيران (يونيو) 1967. اشترك في البعثة، وسافر إلى موسكو، ليعيش أخصب مرحلة في حياته.
لقد درس في واحد من أفضل معاهد السينما في العالم... وهناك التقى صاحب الصورة الثانية على الجدار الدمشقي: المخرج الروسي ليف كوليشوف Lev Koulechov: «كان حظّي مدهشاً، إذ درست في المحترف الأخير لأحد أهم مؤسسي السينما السوفياتية (رحل في عام ١٩٧٠)، ومخترع تأثير المونتاج الشهير المعروف باسمه، ومعلّم فيسفولد بودوفكين، أحد كبار السينما العالميّة». كان صاحبنا في السنة الثانية، حين وقّع كوليشوف صورته لطالب السينما السوري الشاب قائلاً: «تعالَ لأوقّع لك أنك ستكون مخرجاً مهماً». كتب بالروسية «اللطيف والحبيب هيثم، من المعلّم ليف كوليشوف».
أمضى هيثم حقي ست سنوات (1967 ــــ 1973)، في بلد كلّ ما فيه فني وثقافي، وكانت المرحلة التي احتضنت العصر الذهبي للسينما السوفياتية. هكذا، تمكّن عشق السينما من قلب هيثم حقي ولم يبارحه حتى اليوم. كان لا بد من العودة إلى دمشق لممارسة هذا العشق. لكنّ للواقع حكايةً أخرى. منذ عودته من روسيا عام 1973 حتّى اليوم، بقي يقاتل ويناضل من أجل وجود سينما سورية كمّاً وكيفاً. «أحسست بأنه لا أحد يريدنا أن نصنع أفلاماً».
هيثم حقي إنسان حيوي ونشيط، يقول إنّه ورث هذه الصفات عن أمه. يعمل أكثر من 14 ساعة في اليوم، وبالتالي لم يستطع أن يؤدّي دور من ينتظر «غودو». السينما في سوريا تحتاج إلى انتظار طويل، لذلك اتّخذ أصعب قرار في حياته وهو الاتجاه إلى الدراما التلفزيونية. «لقد استعرت توصيفاًَ لهذا القرار من لينين: هي خطوة إلى الوراء في مجال السينما من أجل خطوتين إلى الأمام في مجال التلفزيون».
كرَس هيثم حقي كل جهده للعمل التلفزيوني مؤجّلاً معركة السينما من دون أن يتركها تماماً. استغل تجربته السينمائية للارتقاء بلغة التلفزيون والخروج بها من طور «البدائية». في مقدّمة مؤلّفه «بين السينما والتلفزيون» (1998)، كتب الشاعر والمسرحي الراحل الكبير ممدوح عدوان: «هيثم حقي أسهم في تطوير حسِّنا الجمالي من خلال أعماله المتقنة».
في الحقيقة، كانت السينما وتبقى حلم هيثم حقي وحبيبته الأولى. حماسته لم تخفت بعد 35 عاماً من العمل في مجال الفن. ينطلق اليوم، بكامل تجربته نحو تحقيق بعض هذا الحلم من خلال شركة «ريل فيلمز» التي يديرها. «أتاحت لي هذه الشركة فرصة إنتاج أفلام سينمائية على سويّة عالية، وفيها حرية تعبير فكري وفني، وسمحت لي بأن أحقق جزءاً من أحلامي».
إنجازاته في التلفزيون تستحق وقفة تقدير: من «دائرة النار» و«هجرة القلوب إلى القلوب» إلى «خان الحرير» و«الثريا»... وغيرها من الأعمال التي تركت بصماتها على مسار الدراما السوريّة. «لقد حققت في الفن ما استطعت إليه سبيلاً. أنا سعيد لإنجازي فيلم «التجلّي الأخير لغيلان الدمشقي» (2008)، إضافةً إلى سيناريو «الليل الطويل» الذي أنهى تصويره أخيراً المخرج حاتم علي. وما زال في جعبتي الكثير إذا سمح لي الوقت». هل حقق ما يصبو إليه، نسأل، المال والسعادة والنجاح؟ يجينا بسؤال: «هل هناك أجمل من أن يعمل الإنسان في مجال هوايته ويُمنح أجراً عليه؟». على جدوله اليومي مكان للقراءة، ومشاهدة الأفلام، ومتابعة الحركة التشكيليّة. إذ إنّه قارئ محترف للوحات الفنية، إذ يحتاج الإخراج في رأيه إلى ثقافة موسوعية... وبعد كل ذلك يجد وقتاً للتنس والسباحة.
لا يستطيع المرء فصل مهنة هيثم حقي عن حياته الشخصية، فكل زوجاته كنّ على علاقة بالفن والثقافة. زيجاته كانت قصص حب عاشها، وانتهت مع انتهاء الحب. «إن لم أكن سعيداً فما الداعي للاستمرار! الزواج يجب أن يكون مصدر السعادة، وعندما يتحول إلى عبء، من الأفضل الانفصال بمودة». لكنّ زواجه من الشاعرة هالة محمد، أكثر من حالة حبّ. إنّه صداقة عمرها 25 عاماً. «هناك حالة من التكامل في هذه العلاقة القائمة على الصداقة والاحترام، كلّ واحد يحترم تجربة الآخر بكثير من الديموقراطية».
حتّى علاقته بابنته المخرجة الشابة إيناس، وبابنه سعد، قائمة على الديموقراطية. عندما اختارت إيناس دراسة الباليه، كان هو مقتنعاً بأنّ في داخلها مخرجة وكاتبة، فقد طبعت مجموعتها القصصيّة الأولى «رقصات قلب فتي» وهي في الثانوية. عندما أنهت دراسة الباليه، ثم درست الصحافة، لكنّها في النهاية عادت إلى والدها، حاملة أحلامها واستعدادها للعمل تحت إدارته. وجدت الأب والأستاذ في انتظارها ليعلّمها ويخرّجها من مدرسته التي خرّجت قبلها عدداً من المخرجين السوريين الشباب، منهم مَن عمل معه مباشرةً مساعداً مثل سيف الدين سبيعي، والليث حجو، والمثنى الصبح... ومنهم من أعطاه حقّي فرصته الإخراجية الأولى من موقعه منتجاً، يكفي أن نذكر في هذا السياق حاتم علي. يقول حقّي «أنا أفخر بحاتم علي كثيراً». يرى غالبية من عمل مع هيثم حقي أنّه شيخ الدراما السورية، ويعترفون له بأنّه الأستاذ والمعلم الكبير.
5 تواريخ
1948
الولادة في دمشق عام النكبة
1967
سافر إلى موسكو للدراسة عشيّة النكسة
1973
عاد من دراسته وبدأ حياته المهنية خلال حرب تشرين
2008
أخرج فيلم «التجلّي الأخير لغيلان الدمشقي»
2009
يعدّ سيناريو فيلم «حي الورد»، ويحضّر خمسة مسلسلات تنتجها شركة «ريل فيلمز»: ثلاثة في سوريا وآخران في مصر ولبنان
إيمان جابر
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد