نحن وتجربتنا حيال التسامح الديني
فكرة التسامح الديني في العالم العربي تكاد ان تكون كاريكاتيراً. يلهج بهذه الفكرة جل السياسيين، صدقاً، او تصنعاً، بحمية بالغة، او ببرود مدروس. وما ان يتفوه احدهم بـ «التسامح» حتى تتذكر الفيلسوف جون لوك واقانيمه الفكرية. او هكذا يخيل اليك. ولكن ما ان تحك جلد «المتسامح» قليلاً حتى تجد خواء. فالتسامح عند السياسيين العرب وبخاصة العراقيين منهم، ضرب من بوس اللحى، واللطف بل الكياسة واللياقة في السلوك، و»تمشية الأمور»، و»غض النظر»، نوع من ثقافة «معليش» و»ما في مشكل» وكلنا «اخوة»، «ابناء حواء وآدم».
لا ريب أن التسامح يتساوق مع قدر من الكياسة واللياقة، ونوع من الأخوة، وتمشية الأمور، لكنه في الاصل فكرة فلسفية ذات أبعاد سياسية، حقوقية وقانونية،ولاهوتية في آن، وبات الآن نظاماً حقوقياً وقانونياً.
ولم تتبلور فكرة التسامح إلا بعد قرون من سجالات فكرية، ومعارك سياسية، وانقلابات. وتكللت هذه ببلورة فلسفة التسامح عند جون لوك، الذي لخصّ اتجاها عارماً في عصره (القرن السابع عشر) لوقف الحروب الدينية، ومنع حرق الهراطقة (المخالفين في الرأي الديني) ووقف ذبح المخالفين، وهو ما يجري عندنا بحمية منقطعة النظير.
تقوم فلسفة التسامح على معمار دقيق، فلسفي، وسياسي، وحقوقي، ولاهوتي، يرسم حدود العلائق، واجبات وحقوقاً، بين الدولة، والسلطة الدينية (الكنيسة)، والفرد (المجتمع) وهذا التمييز الثلاثي (الدولة، الكنيسة، الفرد) هو ثمرة تطور المجتمعات الحديثة، كما هو ثمرة تطور الفكر الفلسفي الدارس لها.
تبدأ فلسفة التسامح، أول ما تبدأ، بتحديد جوهر وظائف الدولة، وتخومها. فالدولة عند واضعي نظرية التسامح، وبالذات جون لوك، جماعة سياسية تشكلت لغرض الحفاظ على ما اصطلح عليه بـ «الخيرات المدنية»، التي تشمل حق الحياة، حق الحرية، حق سلامة البدن وحمايته من الأذى، وحق التملك (ارضاً ونقوداً ومنقولات). وتجد صدى لهذه الوظائف في إجماع فقهاء مسلمين على تفضيل «حاكم غشوم» على «فتنة تدوم». فالحاكم لاجم للفوضى، والفتنة هي الفوضى التي تنهار فيها قواعد المدنية، كما هو الحال في الحروب الاهلية، او سيادة الميليشيات، المقدسة او المدنسة، او مزيجهما.
وإستناداً الى هذا التحديد الوظيفي، تنحصر سلطة الحاكم المدني في حماية حق الحياة ولواحقها، حماية الجسد، الحرية، وحق الملكية، وتطبيق القانون بالتساوي على افراد ومؤسسات المجتمع للحفاظ على «الخيرات المدنية». خارج هذا الميدان، لا يرى مفكرو فلسفة التسامح ان للحاكم المدني أي حق في امور الحياة الآخرة، ونجاة النفوس وصلاحها، فالخالق لم يمنح حاكماً مدنياً هذا الحق، وبالتالي فان تعدد معتقدات الحكام واختلاف آرائهم ينبغي ان يظلا شانا خاصاً بهم، لا يمس حق الآخرين في حرية الضمير.
أما الجانب الآخر في معمار فلسفة التسامح فهو سلطة المؤسسة الدينية، او الكنيسة في الاطار الغربي، تقابلها مؤسسة المرجعية (على الجانب الشيعي) المستقلة عن سلطة الدولة، ومؤسسة الافتاء، او مؤسسات الفقه (الازهر، الزيتونة) المندمجة بجهاز الدولة (على الجانب السني).
لقد اعتبر مفكرو التسامح ان «الكنيسة»، أي المؤسسة الدينية واتباعها، هم جماعة حرة تآلفت بارادتها لعبادة الخالق علنا على نحو تراه معقولاً ومقبولا وكفيلاً بضمان سعادة الدنيا وثواب الآخرة.
ولهذه الجماعة قواعد محددة تنظم شروط وموجبات عملها، والانتماء اليها، او الاقصاء منها. والجماعة الدينية، عند لوك مثلاً، تقوم على الانتماء الطوعي، الارادة الحرة. غير ان التنازع الدائم بين شتى الفرق يقسم الدين الواحد، ويضع طرق الخلاص الدنيوي والآخروي في تنازع. أما سلطة الجماعة الدينية في ظل هذا الانقسام فتنحصر في تحديد مفهومها للايمان، ومراعاة اتباعها لهذا المفهوم على قاعدة حرية الضمير لا القسر، او خروجهم على هذا المفهوم بشكل حرّ الى مفهوم آخر.
تنحصر الانقسامات والمنازعات هنا في اطار التفكير والعبادات، ولا تتعداه الى سلطة سلب الحياة والحرية وحق الامتلاك، فذلك شأن من شؤون الدولة، لا الكنيسة.
ويكتسي هذا المبدأ اهمية مطلقة. فالتمييز الحقوقي بين وظيفة الحاكم المدني، والسلطة المقدسة، يحصر كل واحدة منهما في اطار محدّد.
بوسع الدولة ان تعاقب كل اعتداء او تجاوز يقع على حق الحياة، حق حفظ الجسد من الاذى، حق الحرية، حق التملك، فتلك هي وظيفتها الاساس. ولكن ليس بوسعها فرض مذهب الحاكم او الحكام على افراد الجماعة السياسية. فالايمان والشعائر لا تنتمي الى ميدانه.
بالمقابــــل فــــان السلطـــة الدينيـــة لا يمكــــن ان تتولــــى وظائف الردع والعقاب في ميدان الدولة، فوظيفتها تقتصر على الشأن الروحي، وبوسعها اقصاء الافراد المخالفين لها من صفوفها دون ان يترتب على ذلك الاقصاء أي عقاب مادي او بدني او اعمال عنف، او حتى سلوك مهين.
واذ تؤسس فلسفة التسامح لحرية الضمير، وحرية الانتماء الى مذهب ديني محدد، فان هذه الحرية عينها تضع على الفرد مقيدات تلزمه بعدم التجاوز على حرية الافراد الآخرين، كما تلزمه بان لا تكون آراؤه الدينية مهددة للحقوق المدنية والسلم المدني للآخرين، افراداً او جماعة.
اساس حرية الضمير ان الايمان او اليقين واقعة باطنية، فالايمان مغروس في روح المؤمن، في عقله، ولا يمكن فرضه قسراً، لأن طبيعة العقل الانساني هي استقلاله. ولكن لهذا الايمان الباطني، في التطبيق، نتائج تخص في جانب منها الدولة، والمؤسسة الدينية، وبقية افراد المجتمع. بوسع الدولة ان تقتص من المؤمن اذا رأى ان ايمانه يبيح له ذبح الغير، وبوسع المؤسسة الدينية ان تطرد افراداً معينين من صفوفها ان خالفوها الرأي (كما يحصل في الاحزاب والجمعيات)، دون ان يحق لها المساس بشخصهم وحريتهم وممتلكاتهم.
هذا المعمار الثلاثي للعلائق بين السلطة المدنية (الدولة)، والسلطة الدينية (الكنيسة، المرجعية، الخ)، وافراد المجتمع، هو معمار حقوقي ولاهوتي، لا بد له من مؤسسات تحميه، ونظام قيم مدني يسنده، وبخلافه تسود الفوضى.
تدعي الدولة، عندنا، الايمان، وتتدخل بفظاظة، بل قسوة لا متناهية احياناً، لارضاء الاكليروس بفرض صيغة مذهبية معينة، او تأويل مدرسي معين، ولكنها لا تتورع عن مهاجمة دور العبادة بمجرد ان يمسها أحد من المتعبدين.
بتعبير آخر تضحّي الدولة بحرية افراد وجماعات المجتمع، لكنها تتنمر في الحفاظ على حريتها. ولا يختلف سلوك المؤسسات الدينية كثيراً عن هذه الازدواجية.
اما الحركات الاجتماعية الدينية، أي الاحزاب القائمة على تفسير محدد للمعتقد اياً كان، فانها تتبع قاعدة الخرق، السائدة على كل المستويات.
وتبدو المنطقة العربية – الاسلامية بحاجة الى انطلاق حركة مدنية للجم الدولة، ولجم المؤسسة الدينية، ولجم الافراد والجماعات في الاطار المجتمعي عن خرق الحقوق، وتأسيس حرية الضمير قانونياً ومؤسساتياً. انها رحلة شاقة، لكنها جديرة بالتفكير.
فاتح عبد الجبار
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد