من أبي العز بدمشق إلى أبي حجر بسلميه: بؤساء لكن أحرار
الجمل- مصطفى علوش :يقول أفلاطون: (غايتنا من إقامة الدولة هي السعادة القصوى للجميع، وليس لأي طبقة معينة).ومهما اختلف الفلاسفة وعلماء النفس في تعريف السعادة فالأكيد أن شروط العيش الأساسية هي من مستلزمات أية سعادة ممكنة على هذه الأرض.
في بلادنا كل شيء في الحياة، مكشوف، العري، والبؤس، والشقاء، والظلم، والإحساس باللاجدوى. وملايين الفاسدين، وأملاكهم وسياراتهم وأخلاقهم، وهم يتبرمون من وجودنا نحن الذين وجدنا خطأ في عالمهم.. وبالتأكيد هناك سعداء لأنهم يملكون كل شيء.. الملايين وربما المليارات.. ونحن الذين ندّعي أننا عقلاء، نبتش في كتب التصوف لنقنع أنفسنا أن السعادة هي المعرفة فقط، ناسين أو متناسين أحوالنا وبؤسنا، وعرينا المكشوف، ولهاثنا خلف السترة، ويمضي العمر نحو نهايته وعبارة (بيفرجها الله) تلاحقنا كما تلاحق الشرطة الرشوة.
ولأن البؤس متكامل، والعدل متكامل، والحضارة متكاملة، فقد وجد بيننا (نحن العقلاء) بعض الذين يصفهم علم النفس بالمتخلفين عقلياً، ويطلق عليهم المجتمع (المجانين) هؤلاء المساكين، مثلنا لم يجدوا بيتاً يؤويهم ويرعاهم، أو مؤسسة صحية محترمة تأخذهم نحو الحياة ليعيشوا كبقية الخلق، لاسيما أن المجتمعات المتحضرة قد وصلت ومنذ زمن إلى مرحلة احتضانهم ورعايتهم والاستفادة ما أمكن من طاقاتهم العقلية الباقية وطاقاتهم الجسدية. وقد أغوت هذه النماذج الأدب العربي والعالمي فصوّرها في قصصه ورواياته وأشعاره.
في قصة (أبو سمرة) التي كتبها نور الدين الهاشمي وحوّلها ياسر العظمة إلى لوحة في مراياه. مثّل موت (أبو سمرة) موتاً للنخوة واندثاراً لقيم أصيلة كانت موجودة يوماً ما في حياتنا.
ومَن دَرَسَ في جامعة دمشق في ثمانينيات القرن الماضي سيتذكر (أبو العز) وهو يتحدث عن عشقه لفتاة تركته، وطبعاً لا ينسى أبو العز أن يقدّم لمستمعيه باقة من الأحكام والحكم عن النساء والحب والخيانة والحياة.
وفي كل منطقة وقرية في سورية عددا من هؤلاء الذين لَفَظَتهم الحياة فتشردوا في الشوارع والأحياء ليصيروا جزءاً من مشهد المدينة أو القرية أو المنطقة.
في مدينتي سلمية التي أنجبت محمد الماغوط وعلي الجندي وفايز خضور وتحمل في ذاكرتها كماً هائلاً من التمرد والرفض والعقل والإبداع، في هذه المدينة ثمة وجها آخر لا تريد الاعتراف به هو وجه مشرديها، ويحتلّ الزعامة بين هؤلاء (المجانين) المشردين (أبو حجر) وقد تحوّل ثوبه العجيب الغريب إلى (نملية) حيث يخبئ بين قماشه المتعدد الألوان طعامه من الفواكه والخضروات، والطريف أن الكثير من أهل المدينة تحدثوا عن (ارتباط) هذا المشرد بأجهزة الأمن، وهذا إن دل على شيء، إنما يدلّ على ثقافة الخوف المترسبة في نفوس الناس حيث كل شيء مراقب، تحليل الناس هذا ينتمي لثقافة الرعب المتوارث، وثمة قصة يرويها البعض عن سرّ جنون (أبو حجر) تحمل بعداً أخلاقياً، هذه القصة قريبة من بعض حبكات الأفلام الهندية، واتضح لاحقاً عدم صدقيتها.
(أبو حجر) مستعد لحرق قسم من شَعر ذقنه مقابل عدة ليرات، كما يروي هذه المشرد قصة صداقاته مع النجوم بعد أن يجلس في نقطة على جبل (عين الزرقا) ويحكي أيضاً قصة زراعته لمساكب من السكر والصابون والكبريت، ويتحدث عن ملكيته لقطيع من الكلاب وهو الراعي الوحيد له.
ويروي البعض أن امرأة غنية حاولت تخليصه من حالة التشرد، فأخذته الى بيتها وقامت بغسيله وألبسته لباساً جديداً، وعاش عندها عدة أشهر، لكن حنينه الكبير لحالته الأولى جعله يترك هذا العز ويعود لتشرده.
صداقة (أبو حجر) مع النجوم أخذتني نحو قول تراثي مفاده: (لولا أن الشمس تحرق والمطريغرق لما كن في الدنيا أحسن من شرف في الفضاء على وجه السماء) وأترك للقارئ التقاط الدلالات المشتركة بين الحالين.
(جندل) أهم صديق لـ(أبو حجر) وقد وثّقا هذه الصداقة في أكثر من صورة فوتوغرافية، جندل يحمل ابريق شايه ويمضي نهاره شارداً من شارع لشارع برفقة صديقه، (أبو علي) الذي يجيب عن سؤال إلى أين وصلتَ بالتعليم قائلاً :(وصلت إلى الأول ابتدائي ورجعت) مات منذ أكثر من عام بطريقة تراجيدية.
وتحكي المدينة أيضاً عن أسماء أخرى تعيش التشرد مثل (محمد، رابح، أبو القنص، محسن، الشامية، علي بديع، وأبو زيدان..) وهذا الأخير يهوى ارتداء اللباس العسكري بعد أن يضع رتبة مرموقة ويحمل عصاه ويمضي حاملاً معه خطبه الحماسية التي يلقيها على جمهوره المتعدد في الشارع أو في أي مكان آخر.
ومن حكايات هؤلاء ثمة حكاية مؤلمة حملها (احمد) في حياته، فقد أسرهذا الشخص في حرب 1967 وبعد إطلاق سراحه اكتشف أهله أن العدو قد عطب عقله عبر حقنه بمشروب أثّر على جملته العصبية، يشتغل أحمد على (عربة دفر) ويعيل أولاده من هذا العمل إضافة إلى ما يتلقاه من معونات من أهل المدينة.
وحتى كتابة هذه الكلمات مازال هؤلاء يجوبون شوارع سلمية، والمؤلم أن الكثير من أبناء المدينة يتندرون بقصص هؤلاءويضحكون على حياة وحوادث هؤلاء، ضحكاً يشبه البكاء.
لن نطالب أية جهة حكومية أو اجتماعية باحتضان هؤلاء، لأن خوفنا كبير من الإهمال المضاعف في أية مؤسسة صحية حكومية، لاسيما أن مصير معظم من حُوّل لهذه المؤسسات الموت.
عدسات المصورين الضوئيين رصدت تشرّد الكثير من هؤلاء، وأيمن الجمل أحد هؤلاء المصورين الذين التقطوا مأساة بعض المشردين في لوحاته الضوئية.كما صوّرت الفنانة الضوئية سوسن رجب عدداً من المشردين في دمشق فاقتنصت بعض لحظات حياتهم.
مرة أخرى نقول: إن معاناة هؤلاء جزء من معاناة مجتمع كامل، فالأساس الاهتمام بالإنسان، وحين يغيب هذه الأساس فالنتائج هي ما نشهده على أرض الواقع، من بؤس وتشرّد وجنون.
طبعاً لكل مشرد حكاية، (ليس كل مشرد متخلف عقلياً)، ولكل مشرد حزنه الذي أوصله لما هو فيه وفي كل مدينة سورية بعضاً من هؤلاء المشردين.
تبقى الأسئلة حارسة الحقيقة وتبقى الحياة في بلدنا عامرة بغرائبها، والأسئلة الباقية في البال تتحدث عن عقلاء كثر ينتظرون دخول بوابة الجنون هرباً من هموم الحياة ومطالبها، عقلاء تقتلهم الكآبة والاكتئاب ويذهبون سراً إلى الأطباء النفسيين للعلاج خوفاً من اتهامهم بالجنون، وإلى أن يأتي دوردخول بعضهم لذلك العالم، نُطالب بقليل من الحياة والكرامة لرعاية ما تبقى من أعمارنا خشية أن تزدحم الشوارع بالمجانين، أي تزدحم بنا نحن.
مشردو المدن والقرى هم الذاكرة السوداء لمجتمع مازال يخجل من التعبير عن عجزه وفساده وصمته، مجتمع يبرّر كل ما يعيشه من إهمال وبؤس.
المشردون في شوارع مدننا وبلداتنا أبلغ تعبير عن حياتنا في هذا البلد الذي يدّعي مُلاكه أنه حديث وحضاري وعتيق في تراثه.
الجمل
إضافة تعليق جديد