مدينة حلب... الجريمة والعقاب
خرجت حلب من حصارها الثاني في الشهر الماضي والذي استمر قرابة الشهر. حصار فرضته قوى إسلامية متطرفة اجتمعت لأول مرة بهدف قطع الشريان المغذي للمدينة والقادم من الجنوب. تندر الحلبيون، فأسموا الحصار الأخير بحصار البندورة أو البندور حسب التدليع الحلبي للثمرة التي وصل سعر الكيلو منها لحوالى 500 ليرة سورية، حيث كانت المادة الأكثر ندرة في أسواق الخضر.
كانت لدى أهالي حلب ثقة كبيرة بأن هذا الحصار فاشل وسيفك قريباً، إذ أن عجلة التقدم الميداني لقوات الجيش السوري وحلفائه كانت في زخمها الأقصى متجهةً لفرض كسر استراتيجي للمشروع التركي في محيط حلب والشمال. يدرك معظم الحلبيين أن هذا حاصل مهما طال الزمن لذا فهم يتجرعون الصبر كدواء وشفاء.
أسواق المدينة عرضت في الهواء على جوانب الطرقات التي أصبحت كمدينة تسوّق مفتوح، تستعيض عن تعطل أطول سوق مسقوف في العالم أخرجته الحرب عن الخدمة، ودمرت جزءا منه مع ما دمرته من المدينة القديمة وأسواقها الشعبية الفريدة. العدد الكبير من هذه المحال المستحدثة في شوارع حلب المتبقية والمزدحمة مؤشر بدلالتين اثنتين:
- الأولى، أن حلب تدافع عن نفسها ولأجلها سقط كثيرون من أبنائها بما يملئ شوارعها بهذه المحال الحديدية الصغيرة المصنوعة بشكل صندوق مكعب والمطلية بألوان العلم السوري ذي النجمتين الخضراوين.
- والدلالة الأخرى هي في ذلك التعويض العشوائي السخي الذي ينتثر على أرصفة المدينة بعد أن رقد أصحاب هذه المحال ومستحقوها من الشهداء وضحايا الدفاع عنها، وملؤوا بأجسادهم عشرات الحدائق العامة والأراضي الجانبية لبعض محلقات ودوارات المدينة.
من مدينة جميلة صاخبة سعيدة لا تنام لمدينة منكوبة تلملم جراحها النازفة وتقتات صمودها بصبر العابدين، وتعيش الخطر والموت الحاضر على مدار ثواني ودقائق الساعة. تغيرت حلب وأصابتها الحرب بجنونها وهوس وحقد الذين يعاقبونها. تعرضت المدينة لموجات نزوح وهجرة انتشرت كعدوى في الصيف المنصرم حيث تركز قصف المسلحين على أحيائها بالهاونات والقذائف وما اصطلح على تسميته "مدفع جهنم" وما تطلقه من جرات غاز بقوة تدميرية كبرى وعشوائية في القصد والهدف، رافق ذلك إهمال وتقصير حكومي واضح جعل المدينة تتحول من قرابة السنتين إلى نظام التغذية الكهربائية عبر مولدات صغيرة يقدمها القطاع الخاص وينشرها بين الأحياء. وتعرضت المدينة لموجات عطش وندرة مياه بسبب تحكم المسلحين القادمين إليها بمصادر حيوية للمياه داخل المدينة وخارجها في الريف المجاور، ما برر حملات خارجية أطلقها مغتربون من أبنائها لحماية حلب ولتأمين المياه لها وعدم استخدام المياه كعنصر عقاب للمدنيين في الحرب الجارية.
لبست حلب المظاهر المسلحة والألبسة العسكرية المبرقعة والمخططة، وما زالت تنبض بالحياة والبناء، حجزت أرصفة الشوارع للسوق المفتوحة بينما ارتصت بعض الحدائق بقبور الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن حلب في وجوه المسلحين القادمين لها من الأرياف ومن حُشد لغرض إسقاط الدولة السورية بخاصة تلك المشاريع الخارجية.
أصبحت شوارعها المكتظة وأزقتها الضيقة لا تترك مساحة كافية للعاشقين فينزوون إلى خلوة في حديقة أو بين سيارتين ليتبادلا قبلات مسروقة بين الشهوة والخوف والموت المنتظر. تعرضت المدينة للاجتياح المسلح في 20 تموز 2012، ودخل المسلحون الأحياء الشرقية من المدينة حيث النطاق الفقير العشوائي وتسبب ذلك في نزوح أعداد كبرى إلى الجزء الغربي الواقع تحت سلطة الدولة. وهنا يجب التوقف عند نقطتين اثنتين:
- الأولى، يجب عدم المبالغة مطلقاً في توفر البيئة الحاضنة للمسلحين في هذه المناطق الفقيرة، فلقد بذلت هذه الفئات جهد عمرها لتملك بيتاً صغيراً أو محلاً تجارياً تطلب الرزق فيه، فمن غير المعقول أن تمارس المغامرة به في جولة مكررة ودرس فاشل ظهر فشله في المحافظات الأخرى طوال أكثر من سنة في حمص ودرعا وغيرها، وهذا ما يفسر أعداد النازحين الكبيرة التي رفضت الانخراط في هذه التحركات وآثرت الذهاب إلى أماكن لجوء مختلفة. وكم كان ساخراً ومؤلماً حدَّ البكاء أن تجد مسلحاً من بلدة ريفية فوق ركام خرابٍ على مبنى مهدمٍ في حي منكوب في مدينة حلب وتسأله: ماذا تفعل هنا؟! وهو لا يكف عن الترديد: نحن هنا نحمي المدنيين وبيوتهم.
وهي صورة شاهدها كل العالم... رآها المغترِب "فشعر بالحنين"، وبأن هذا المسلح يدافع عن كرامته بجو مأساوي مؤثر فتعاطف مع هذه الثورة وسماها "ثورة الكرامة"، لكن المواطن فقد شاهد الواقع كما هو وكما حدث، فأتخذ موقفه الخاص بعيداً عن المؤثرات العاطفية والنفسية التي تفرضها متابعة الحدث في المغترب أو عبر اليوتيوب أو عبر الصورة المفترضة التي تحتاج إلى تحقيق.
- الثانية: ما هي الجدوى والأهداف التي حققتها "الحركة المسلحة" من دخولها وتمترسها في هذه الأحياء الفقيرة؟ وتسببها في إطلاق سلسلة رهيبة من القتل والتخريب والبكاء على السوريين.
تعرضت المدينة لحصارات قاسية وظروف عيش لا انسانية، صادف أقساها شدةً شهر رمضان 2013، ومورست على المدينة محاولات اجتياح طوال السنوات الثلاث صُدت جميعها، وتكبدت المدينة فيها تخريباً وتهديماً كبيرين جراء تفجير أنفاق في أماكن مهمة في قلب المدينة القديمة بجانب قلعتها الشهيرة، ما يهدد بزوال معالم أساسية فيها.
لم تراع منشآت الفقراء ومكتسبات الطبقة الوسطى في محاولات الاجتياح، فتم تفجير مشفى الكندي ومقر المشفى الوطني القديم واستوطن "فقهاء" المحكمة الشرعية في مشفى العيون الذي كان يجري عشرات الجراحات الدقيقة أسبوعياً، بينما راحت تُصدر فيها فتاوى الاستملاك وأحكام القتل بشكل يعبر عن العبث التي عاشته سوريا طوال فترة الفوضى في الربيع العربي. وخرج كثير من مصانع الدولة والخاصة عن الخدمة، ولم يعد تفجير السيارات أمام مبنى الأيتام وجامع النبي الأعظم في حي الزهراء يجلب انتباه أحد من الحلبيين لكثرة تكرارها وعدم جدواها. يستظرف أحدهم بقوله: بعد أن دخل المسلحون "مشفى ابن خلدون" للأمراض العقلية والنفسية في حلب و"حرروا" مرضاه، فلم يعد مستغرباً أيَّ تصرفٍ من الثورة السورية في عقاب حلب، فالثورة فقدت عقلها ودخلت مشفى المجانين وصار متوقعاً منها أي تصرف مجنون، أصابتها الشيزوفرينيا بين القول والتصرف.
لم تقم المعارضة الداخلية والخارجية بإجراء أي عملية نقد ذاتي موضوعية خلال سنوات من الثورة المزعومة، سواء على مستوى الفكري الاستراتيجي أو على مستوى الممارسة التكتيكية، فاكتفت بشيطنة الدولة بمؤسساتها المختلفة وأسبغت على تصرفات الثوار وإجرامهم صفة القداسة، فكثرت على أرض الواقع خطاياها وكوارثها من تقطيع الطرق بين البلدات والمدن، وعمليات الخطف وطلب الفدية والقتل في عمليات مُمنهجة لتقسيم سورية وتقطيع أوصالها وتحويلها إلى مقاطعات تحكم بأصحاب سوابق أو متعصبين دينيين من دون علم فقهي، فما رفعت كوادر الثورة عن نفسها هذه التهم ولو ببيان صحافي مقتضب، فكانت كمن يغطي المجرمين أو يستخدم المجرمين في صفوفهم وهو الأرجح، فخسرت الثورة الجزء الأوفر ممن يوافقها الرأي بهدف إسقاط النظام واختلفوا معها على الأسلوب الإجرامي الملتوي.
أما "الثورة" بوجهها الداخلي وتأثيرها المباشر فهي أهم أسباب فشل هذا الحراك وانكشافه أمام أهالي حلب، فسرعان ما تحول إلى "مؤسسات تبيض" صحفاً وسيرة لكثير من المجرمين وأصحاب السوابق، ومواقع لطلب غفران من ذنوب سابقة من أناس مرتكبين، ومهمشي الطبقات الاجتماعية من الأرياف السورية قبل أن ينضم لهم خليط غير معقول من أصقاع العالم تحت تسمية "المهاجرين للجهاد في بلاد الشام".
عانى معظم الناس من تكميم أفواه وقتل على الهوية بتهمة "شبيح" أو منتسب إلى الدولة أو موظف حكومي، على أساس "كافر ومؤمن" بعد ما أمُنت فتاوى ذات مرجعيات إسلامية خارجية كبرى (القرضاوي ومستجمع العلماء المسلمين في الدوحة). فأصبح أهالي حلب يستطيعون أن ينتقدوا النظام بكل رموزه (وهو الذي زاد قدرته على تحمل النقد بل وحتى الشتم)، وهم عاجزون عن توجيه أي انتقاد لممارسات تصل حد الجريمة يرتكبها مجرمون وأصحاب سوابق تحت مسمى "حكم الثورة". فكانت المقارنة والمفاضلة بين "الاستبداد والدكتاتورية" من جهة والتكفير والقتل من جهة أخرى، فاختار أغلب السوريين الحال التي عرفوها وعاشوا في ظلها طوال عقود لأنها تؤمن لهم الحماية من القتل والتعذيب والخطف وتزودهم بقدر مشهود من الأمن والآمان يمارسون في ظله قدرتهم الخلاقة في صنع الحياة والمناورة عليها.
في المدة الأخيرة، وفي موازاة هجرات الغربة والسفر والرحيل ستجد في حلب من يمارس قرار الصمود رافضاً المغادرة. ما زال كثير من السوريين في حلب يدافعون عن قيم العيش الحضاري الطويل بين مختلف الأعراق والإثنيات والعقائد، في مدينة اعتادت على الانجاز والبناء والسعادة والفرح. رفضت المدينة وأهاليها المشاريع الوافدة (التركية العثمانية) التي طالما نظرت إلى حلب وكأنها من مناطق نفوذها، وأنها ستعمل على ضمها لنطاق هيمنتها وسيطرتها، واستخدمت لذلك مختلف الأساليب، حيث تم الإضرار الممنهج بالصناعة الحلبية وضرب مصانعها وتخريبها لخلق كتلة بطالة كبيرة من عمالها لضمهم في ما بعد إلى "الثوار" والناقمين على الدولة لتتبع ذلك سرقة موصوفة لمصانع حلب المنافسة إلى تركيا ما دعا الحلبيين لوصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بلص حلب.
إنها الحضارة في حلب تتجذر من جديد وكمثال تزيده التجارب بريقاً ولمعاناً، وكنموذج فريد في احترام التنوع والتعايش. وقفت حلب متشككة من أحداث سوريا وراحت تراقب لأكثر من سنة، وشعرت بفطرة البسطاء أن الزرع الطيب تلزمه بذرة نظيفة من أرض خصبة، تزرع بيد ابن بلد مخلص، وأن تسقى بعناية المحبين وماء البركة. النتيجة أنها بذرة فاسدة عاطلة مستوردة صدرت من بعيد تلقفها الجُهال والضلال والمرتزقة وزرعتها الأيدي الآثمة، وسقتها بدماء محرمة فخرجت نبتاً شيطانياً مراً علقماً أجبروا شعبنا الطيب المسكين على أن يأكل منه حتى الشبع. حلب تقف اليوم بعد أن اجتازت امتحانها الصعب تنتظر بثقة الصابرين خلاصها القريب وفرج سوريا الكبير.
عبد المعين زريق
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد