كمال الصليبي: أنا أشكّ إذاً أنا مؤرّخ

02-09-2011

كمال الصليبي: أنا أشكّ إذاً أنا مؤرّخ

رحل أوّل من أمس، المؤرّخ اللبناني المعروف الذي سيوارى في ثرى بلدته بحمدون السبت، بعد أن يصلّى على جثمانه في الكنيسة الإنجيلية الوطنية في وسط بيروت. هكذا، طوى صاحب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» سيرة غنية اعتمدت على زعزعة اليقينيات ومقارعة الرواية الرسمية في التاريخ

كمال الصليبي (1929 ـــــ 2011) أحد أكثر المؤرخين العرب إثارةً للجدل. نظرياته التاريخية تبحر عكس تيّار الذاكرة الجاهزة التي فرضت نفسها على المدونات الرسمية. فكّك المسلمات في ذاكرتنا، وأسس لمنهجية حديثة في التحري عن الحقائق عبر ربط اللغة بالجغرافيا.
لا ينتمي مؤرخنا السجالي إلى أولئك الذين اعتادوا الثوابت. تتخطى هويته المعرفية الأنماط التقليدية في تدوين التاريخ. بدءاً من «منطلق تاريخ لبنان» (1979) أعلن السير عكس التيار، ورغم أن كثيرين استهجنوا خلاصاته، وخصوصاً أطروحته «التوراة جاءت من جزيرة العرب» (1985) التي تفنّد الرواية الدينية عن تاريخ اليهود في فلسطين... تابع صاحب «طائر على سنديانة» (2002) أبحاثه التي عُدّت بمثابة الانقلاب.
في «البحث عن يسوع» (1988)، أكمل المنعطفات التاريخية، مزعزعاً الرواية المتوارثة عن ولادة المسيح في بيت لحم، وظهوره في الناصرة ثم القدس. توصل إلى أنّ ثلاثة من الناس كانوا يكنّون بـ «المسيح»: عيسى بن مريم، ويسوع الذي من آل داود، المطالب بعرش جده ـــــ وهذا ولد في وادي جليل في منطقة الطائف، وصُلب في القدس ـــــ وإله العيس في الحجاز، أي إله الخصوبة. وأكد أنّ مريم اسم خالة المسيح لا اسم أمه. ونقل عن وهب بن منبه في كتابه «التيجان في ملوك حمير» أنّ قبر عيسى بن مريم كان موجوداً حتى القرنين الأولين من ظهور الإسلام على رأس جبل جمناء جنوب يثرب.
ولد كمال الصليبي في بيروت، عام 1929. دخل الجامعة الأميركية في بيروت حيث درس التاريخ، وبعدها سافر الى بريطانيا لينال الدكتوراه في تاريخ الشرق الأوسط، على أطروحته «المؤرخون الموارنة وتاريخ لبنان في العصور الوسطى» (1953). ثم عاد الى لبنان أُستاذاً للتاريخ في الجامعة الأميركية، ودرّس فيها بين 1954 و1997، حيث كان رئيساً لدائرة التاريخ، ثم انتقل إلى الأردن، حيث عُهد إليه تأسيس المعهد الملكي للدراسات الدينية، وبقي فيه رئيس شرف مدى الحياة.
أهمية المؤرّخ اللبناني الراحل، تكمن في المناهج التي اتبعها. عمله كمؤرخ ارتكز على دراسة التاريخ وتفكيكه، وربط اللغة بالجغرافيا. درس النصوص التاريخية المارونية المتعلقة بتاريخ لبنان في «العصور الوسطى». ليست هناك من حقيقة نهائية أو يقينية بالنسبة إليه. هذا المنهج النقدي البنّاء طبّقه في دراسته للنص التوراتي فوضع «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، حيث أكّد أنّ التوراة الموجودة حالياً عبارة عن مجموعة من الكتابات الأدبية لشعب من شعوب العرب البائدة اسمه بنو إسرائيل، وأن البيئة التاريخية للتوراة لم تكن في فلسطين، بل في غرب شبه الجزيرة العربية، بمحاذاة البحر الأحمر، وتحديداً في بلاد السراة بين الطائف ومشارف اليمن، وبالتالي فإن بني إسرائيل من شعوب العرب البائدة، أي من شعوب الجاهلية الأولى.
التاريخ مع كمال الصليبي له مذاق آخر. هو تدقيق وتنقيب وحفر، واستقراء النص عبر لغته وأخذه الى أصوله. قطع صاحب «تاريخ الجزيرة العربية» (1980) مع التاريخ المقدس، فالشك أساس المعرفة. وقد نجح في التمييز بين الأساطير والوقائع. أصابنا المعلّم الراحل بجراح معرفية متسارعة، ما دفعنا الى قلب المعادلة الديكارتية التي أصبحت معه «أنا أشك إذاً أنا موجود». هذه المعادلة طبقها الصليبي عبر التحري عن أمكنة اللغة وتطوراتها، وقد تجلى منهجه في كتابَيه «التوراة جاءت من جزيرة العرب» و«البحث عن يسوع، قراءة جديدة في الأناجيل». فهل يعني ذلك أن كل التاريخ الديني للديانات التوحيدية أصله من الجزيرة العربية؟ طرح السؤال يكفي لهدم ما هو سائد.
القلق عند الصليبي أساس المعرفة. وعلى هذا الأساس كتب التاريخ الديني والسياسي، فقد انقلب على التراث المكتوب وسعى الى أنسنة الوقائع والأحداث التاريخية، فبدا نصه خالياً من الأساطير والمقدسات، وأقرب الى الحقائق الجرحية التي تريح العقل أكثر من الايديولوجيا. ينتمي صاحب «بلاد الشام في العصور الإسلامية الأولى» (1979) الى جيل مبدعي الفكر العربي المعاصر أمثال هشام جعيط ومحمد أركون. ورغم اختلاف المشروع المعرفي، يبقى الجامع بينه وبين من عاصرهم نقد التاريخ والكشف عنه بسواده وإشعاعه.كان الراحل شديد الاعتزاز بعروبته. ولطالما أكد أنه يفتخر بانتمائه الثقافي الى العرب والإسلام. ورغم أنه مسيحي، فقد كان يعدّ نفسه مسلماً بتوحيده.
اختار هذا العالم والمؤرّخ العزلة الطوعيّة، ولم يتزوج. ربما لأن الوقت لم يسعفه، بعدما أمضى الجزء الأكبر من حياته في التدريس والتأليف باللغتين العربية والإنكليزية (مؤلفاته العربية صادرة عن دار «الشروق» الأردنية، و«نوفل» و«نلسن»، و«قدمس»).
مع رحيل الصليبي، الذي اتهمه ذوو العقول الضيقة بالضلال، خسر العالم العربي أحد أهم مؤرخيه ممن تصدوا للتاريخ الرسمي، وتركوا وراءهم إرثاً علمياً، قد تدرك أهميته الأجيال المقبلة شريطة أن تعلم «أنّ الشك مفتاح المعرفة».

الألمع في جيله
«قلبه بسيط وعقله معقّد»، هكذا وصف الأكاديمي والكاتب طريف الخالدي صديقه الراحل كمال الصليبي الذي زامله في دائرة التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت ابتداءً من عام 1970. وقد قال الخالدي في حديث لـ«الأخبار» إنّ الصليبي «أهم مؤرّخ لبناني معاصر، والألمع في جيله الممتد من أواسط القرن العشرين حتى الآن». ورأى الخالدي فور تلقّيه نبأ الرحيل، أنّ هذه الأهمية تبرز أكثر في كتابيه «تاريخ لبنان الحديث»، و«بيت بمنازل كثيرة» الذي «أرّخ فيه كتابة التاريخ، إضافةً إلى أعماله التوراتية وغيرها». وأضاف الخالدي أنّ الصليبي آمن بأنّ «التاريخ قصة يجب أن تروى، وتمتّع بنفس الراوي الذي يسرد الحكايات».
أما المؤرخ والاقتصادي والكاتب اللبناني والوزير السابق جورج قرم، فقال لوكالة «فرانس برس» إن «الصليبي احتل موقعاً كبيراً في مجال التأريخ. ورغم أن بعض أعماله كانت مثيرة للجدل، إلا أنّه احتلّ مركزاً مرموقاً في الحياة الفكرية اللبنانية والعربية. وقد أغنى المكتبة العربية واللبنانية بأبحاث معمقة ومكتوبة بأسلوب مشوّق وجميل»

آخر إصداراته: كرونولوجيا الهويّة المارونيّة
ليس جديداً على كمال الصليبي كتابة التاريخ عبر جغرافيا اللغة والمكان، وآخر إصداراته عن «دار نلسن» ليس إلا ترسيخاً لهذا المنحى وتتويجاً له. ينتمي الصليبي إلى جيل أحدث ثورة حقيقية في مناهج التأريخ، ويمكن اعتباره من المؤرخين الذين عاينوا الأحداث والوقائع عبر رصد التفاصيل، والبحث الأركيولوجي عن مجريات تاريخية بدت بمثابة الانقلاب في نظر كل الذين يعتمدون الرواية الرسمية.
«الموارنة ـــ صُورة تاريخية»، أحدث إصدارات الراحل عن «دار نلسن»، هي عبارة عن دراسة كُتبت عام 1969 وعادت الى الضوء بعد أكثر من 40 عاماً. فيها يقدّم صاحب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» بانوراما خاطفة عن تاريخ الموارنة في لبنان، بدءاً من هروبهم من وادي العاصي، وصولاً الى تحقيق الحلم الماروني بإعلان دولة لبنان الكبير عام 1920.
يبدأ الصليبي دراسته بتعقب نشوء الموارنة كطائفة في وادي العاصي، أي في حمص وحماه. ويؤكد صاحب «البحث عن يسوع؛ قراءة جديدة في الأناجيل» أن نزوح الموارنة الأوائل من وادي العاصي الى الجزء الشمالي من جبل لبنان، مرده الى الهرب من «جور الروم» بسبب الخلاف العقائدي معهم حول طبيعة المسيح. استقرار الموارنة في جرود لبنان الشمالي أدى الى عزلتهم عن العالم الخارجي، وترافق مع طرد الخلفاء الفاطميين للروم من بلاد الشام التي عادت الى سيطرة المسلمين.
ويعيد المؤرّخ أول عملية اضطهاد للموارنة، من قبل الفاطميين والسلاجقة، الى بدايات القرن الحادي عشر. إذ يعتبر أن موجة «الاضطهاد» تلك كانت الأولى منذ الفتح الإسلامي. يرسم صاحب «حروب داوود» كرونولوجيا الهوية المارونية ولو باقتضاب، فيصفهم بالشعب الصلب الغيور على كيانه ودينه، الماهر في القتال. ولعل وعورة البيئة التي هربوا اليها أكسبتهم هذا الزخم من الصلابة، من دون أن ننسى الصعوبات التي تعرضوا لها إثر التحولات السياسية منذ اندحار بيزنطيا، وصولاً الى انتقال الخلافة الإسلامية الى العثمانيين.
الحدث التاريخي الأساسي الذي يضيء الصليبي عليه يتمثّل في زحف الفرنجة أو الصليبين عام 1096 الى المشرق بحجّة حماية الأمكنة المقدسة. ويذكر أن جزءاً من الموارنة تعاونوا معهم واستقبلوهم «وفي ربيع 1099، وصل الفرنجة الى عرقا قرب طرابلس، فنزلت وفود الموارنة لاستقبالهم هناك يوم عيد الفصح في 10 نيسان، وهكذا تمّ اللقاء الأول بين الموارنة والفرنجة».
احتلال الفرنجة لأجزاء من بلاد المشرق سمح للموارنة بالإفصاح عن هويتهم، فأنشأوا الكنائس والأديرة في مختلف قرى جبل لبنان، وبدأوا بدق النواقيس من النحاس بدل الخشب للصلاة والقداس. وأسباب ذلك أنّ الدول الإسلامية منعت المسيحيين من استعمال الأجراس النحاسية والاستعاضة عنها بالنواقيس الخشبية.
لم يستقر بطاركة الكنيسة المارونية في حيز جغرافي واحد. ورغم أن زحف الفرنجة الى المشرق سمح بانتعاشهم، إلا أنّ حملات المماليك على كسروان أصابهتم بنكسة. وفي هذا السياق يلفت الصليبي الى أنهم لم يتعرضوا في البداية للاضطهاد من قبل المماليك الذين «ركزوا اهتمامهم على اضطهاد النصيرية والشيعية الإسماعيلية والاثني عشرية في منطقتي الضنية وكسروان».
وحالما أغار فرنجة قبرص على الإسكندرية، تعرّض المسيحيون، وبينهم الموارنة، لـ«اضطهادات عنيفة» من قبل المماليك. مع الخلافة العثمانية قسمت الممالك الى إيالات، ما أدى الى ضم الموارنة في جبة بشري وبلاد البترون الى ولاة طرابلس العثمانيين. وحدث هنا تحولٌ مهمّ في تاريخ الموارنة كما يلفت الكاتب. تعززت علاقتهم مع آل عساف، التركمان السنيين، وهؤلاء أتت بهم السلطنة لتدبير شؤون ولاية طرابلس، واستعان بهم الأمراء العسافيون لمناوأة خصومهم من الشيعة «سكان كسروان الأصليين».
يرصد صاحب «المؤرخون الموارنة خلال العصر الوسيط» تنامي حضور الطائفة المارونية، سياسياً وديموغرافياً، في حقبات تاريخية مختلفة. قوة هذا الحضور ترسخت بفعل عوامل عدة، بينها حركة النزوح الماروني الى المناطق الدرزية والشيعية في منطقتي الشوف وكسروان، والامتيازات التي تلقتها البطريركية المارونية من العثمانيين بضغط من فرنسا التي حققت لهم حلم إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920. ذلك هو آخر إصدار الصليبي، علماً بأنّ هذه الدراسة الموجزة كتبت قبل أربعة عقود ونيّف. ومن يدري، ربّما كان في أدراجه أو لدى ناشريه مخطوطات أخرى ستبصر النور بعد رحيله. ورغم كونها موجزة، فإن هذه الدراسة تقدّم مفاتيح معرفية مهمّة في تاريخ الموارنة وبقية الطوائف. والمؤرّخ اللبناني، الذي غادرنا أخيراً، إن دلت مؤلفاته على شيء، فعلى الافتراق المنهجي الذي دشنه الكاتب بشكل تراكمي. ولا شك في أنّه أصاب التاريخ الرسمي بشظايا كثيرة، لا في المجال اللبناني فحسب، بل أيضاً في الجزء الأكبر من المواضيع التي تطرق إليها ودعمها بوثائق ومصادر.
ولعلّ أهمية المؤرخ الإشكالي أنه سار طوال حياته العلميّة وحيداً عكس التيار، ما أعطاه حيّزاً سجالياً قلّ نظيره مقارنة بمعاصريه من المؤرخين.

ريتا فرج

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...