فضاء الحرية.. الافتراضي السوري مقيد بغياب القانون

09-06-2006

فضاء الحرية.. الافتراضي السوري مقيد بغياب القانون

الجمل : تساءلتْ وهي تسمع من خلال راديو سيارة التاكسي، عن اسم الإذاعة التي تبث برنامج "نكتة لايف"، لشدة ما أزعجتها  رواية نكات مبذولة، تستعاد عبر دراما إذاعية بدائية سمجة، لكن على ما يبدو كان لسائق التاكسي رأي مختلف بدليل ما كان يطلقه من قهقهات عالية بين الحين والآخر، وكأنما يضحك نكاية بوجهها المتجهم، وحين سألته ما الذي يضحكه في هذا التنكيت المصطنع، فاجأها بالقول: كله علاك مصدي، لكن إذا لم نضحك فسوف نبكي. فيما كان فاصل إعلاني يقطع بث النكات، ربما لزيادة نسبة الدراما في هذا المشهد، يشير: "هذا البرنامج برعاية علكة أجيال". حينها فقط ضحكت ومن كل قلبها، ووافقت السائق على رأيه وأضافت، إنه علاك لكل الأجيال ..
تلك السيدة لم تكن سوى زميلة إعلامية فضلت عدم ذكر اسمها صراحة، لأن دلالات هذه الحادثة سوف تنسحب لا محالة على المشهد الإعلامي السوري المستقل، فالإعلام الحر الذي انتظرناه أكثر من أربعين عاماً ثبت أنه ليس أكثر من علاك (من العلكة والتعليك) أو هكذا يراد له أن يكون، وحسبنا نظرة سريعة على أي كشك صحف في دمشق لنرى نوعية المجلات والصحف المستقلة المرخص لها خلال السنوات الخمس السابقة: إعلانية ـ طبية ـ رياضية اجتماعية ـ غذائية .. إنها صحافة كل شيء ولا شيء.
ربما لا يستحق الإعلام المستقل الوليد في سوريا هذا الرأي القاسي، رغم ما ينطوي عليه من تصحيح، لكن دون التمتع بصحة جيدة، فلا يمكن لأحد ان ينكر أن هذا الإعلام ولد في أرض يباب، بعد أربعة عقود من المهنية الرسمية جعلته غير قادر على مواكبة تحولات ثورة الاتصالات.
عدا العودة المتأخرة للإعلام السوري المستقل إلى الحياة، وضعت عصي كثيرة بين عجلاته، بدأت بقانون المطبوعات الذي وصف بقانون العقوبات، أو قانون الممنوعات ـ لا فرق ـ  ولم تنته بآلية منح الرخص ونوعيتها. فخلال السنوات الماضية تم منح أكثر من  154 رخصة لمطبوعات أسبوعية ونصف شهرية وشهرية وفصلية وسنوية، معظمها ذو طابع ترفيهي إعلاني منوع،  ورغم وجود  أكثر من عشرة طلبات لإصدار صحف يومية سياسية، إلا أنه لم يتم الترخيص لأي مطبوعة سياسية سوى  صحافة الأحزاب المنضوية في ائتلاف الجبهة الوطنية التقدمية،  ومجلة "أبيض أسود" الأسبوعية، ليبقى باب السياسية موصداً بإحكام  بوجه الصحافة المستقلة وأيضاً أمام الإذاعات، فقد تم الترخيص لسبع إذاعات FM  ، جميعها تجارية، بدأ أربع منها بالعمل، أولها كانت "المدينة" في عام 2004 ، ومن ثم  "صوت الموسيقا العربية" و"ستايل" و"سوريا الغد". بينما تستعد للبث  إذاعة "ميلودي"  و"الفرح" و"أرابيسك". دون ان يتم الترخيص بعد لأي قناة تلفزيونية، مع وجود أكثر من عشرين طلب ترخيص لقنوات  فضائية في أدراج وزارة الإعلام بانتظار صدور قانون، أو قرار يتيح منح رخص للقنوات التلفزيونية.

 

مشكلة القانون


يبدو أن مرور خمس سنوات من تحرير قطاع الإعلام في سوريا، لم يكن كافياً لوضع قوانين تنظم العملية الإعلامية، فقانون المطبوعات الذي صدر عام 2001 كنسخة معدلة عن قانون 1949، جاء معيقاً لعمل الصحافة والصحافيين، أكثر منه قانوناً لتنظيم المهنة وحمايتها، وبعد عشرات المقالات التي انتقدته وفندته وطالبت بتعديله، تم الوعد قبل سنتين بإصدار قانون ناظم للإعلام وليس فقط للصحافة، ومنذ أسبوع تم تسريب الفقرات المنوي تعديلها في قانون المطبوعات دون ذكر لقانون الإعلام الموعود؛ التعديلات المقترحة تعتبر مكسباً حقيقياً للصحفي السوري إذ تلغي عقوبة السجن، وتعطيه الحق بالحصول على المعلومات والتكتم على مصادره، وتخفف الى حد ما شروط منح أو إلغاء تراخيص، إلا أنها تعديلات تبقى قاصرة، إن لم تشمل كافة أركان المهنة كصناعة، من عمليات التحرير والطباعة إلى التوزيع والإعلان. وكما هو معروف، القانون الحالي يأتي على ذكر التوزيع والإعلان، وكأنهما عمليتان محررتان كما كانتا قبل احتكارهما وفق مرسومي إنشاء مؤسستي العربية السورية للإعلان وتوزيع المطبوعات، الصادرين بعد احتكار السلطة للإعلام عام 1963، ولدى تعديل القانون عام 2001  لم يلغ ما صدر قبله من قوانين أو قرارات تتناقض معه!! فظلت المطبوعات السورية الوليدة محكومة بنصين قانونيين متناقضين، أحدهما يلغي الآخر، ولا يستفيد من هذا التناقض سوى أصحاب الحظوة بواسطة استثناءات حكومية، فحين تحوز مطبوعة على رضا المسؤولين، يُغض النظر عن قيام أصحابها بتوزيعها مباشرة دون المرور عبر مؤسسة التوزيع، ويمكن أن تعامل وفق قانون المطبوعات، وإذا نالها غضب فلان أو فلان لسبب أو لآخر، فتضبط متلبسة بتوزيعها بشكل مباشر ويقع عليها عقاباً ليس أقله الإغلاق لمخالفة قانون مؤسسة التوزيع، وهذا ينطبق أيضاً على الإعلانات التي تمسك بحنفيتها مؤسسة الإعلان؛ جرى ذلك مع جريدة "الدومري" التي رُخص لها عام 2000 قبل إصدار قانون المطبوعات، ونالت حفاوة استثنائية من قبل السلطة والجمهور، كأول جريدة مستقلة بعد أربعين عام من الغياب، لكن ثمة ما حدث وانقلبت الحفاوة الى جفاء، وتم الحكم على الجريدة بالتماوت لمخالفتها القوانين!!  ولا تبتعد كثيراً جريدة "المبكي" التي أغلقت العام الماضي، بعدما سارت على خطى "الدومري" من حيث شكل ومضمون الصحافة الشعبية، وما أن تجاوزت واحداً من الخطوط الحمراء، حتى تم إلغاؤها بحجة مخالفتها لقانون المطبوعات لتناولها موضوعاً سياسياً، فيما هي مطبوعة اجتماعية ثقافية منوعة، علماً أن قرار إغلاقها تم وفق قانون الطوارئ، ما يعني أولاً وأخيراً أن أي قانون للمطبوعات أو الإعلام، حتى لو كان أفضل قانون في العالم  يساوي الصفر، حين تصدر السلطة حكماً بإعدام صحيفة ما.
هاتان التجربتان المخفقتان، رسمتا  ملامح وحدود المساحة التي يمكن للصحافة المستقلة في سوريا التحرك فيها، وهما الملامح والمساحة اللتان أتاح التقيد بهما الاستمرار لصحيفة "الاقتصادية" الصادرة بالتزامن مع "الدومري". وتدفق نتيجة تلك الدروس القانونية البليغة، دكنجية الصحافة إلى المشهد الصحافي، وبدل ظهور مؤسسات صحفية تم فتح دكاكين إعلانية، كان من أهم تجلياتها، إلغاء حوالي خمسين ترخيصاً، من أصل 154، إما لعجز عن الاستمرار لأسباب مالية، وإما لانتهاء مدة الشهور الثلاثة التي تمنح للمطبوعة كي تصدر بعد منح الترخيص، ما لم يطلب أصحاب المطبوعة تمديد المهلة لأسباب تقنع وزارة الإعلام. ومهما يكن.
 ومع ذلك فإن وجود نص قانوني  يفسح المجال لمناقشته سواء بطرحه للمعالجة أو التعديل وفق ما يمليه تطور مهنة الصحافة. لأن غياب هذا النص كما هو الأمر بالنسبة للإعلام التلفزيوني كفيل بخلق نوع من الارتباك.
 فقد خلق غياب قانون يسمح بترخيص عمل القنوات الفضائية المستقلة، نوعاً من البلبلة بين رغبة السلطة ووعودها بتحرير الإعلام التلفزيوني، وبين غياب قانون يجيز ذلك، فالوعود أغرت أكثر من عشرين جهة بتقديم طلبات تراخيص،  وقد أمتلك السيد أكرم الجندي الشجاعة للمغامرة  بإطلاق البث التجريبي لقناة "شام"  كأول فضائية سورية مستقلة، تبث من الأمارات العربية، بانتظار صدور قانون الإعلام السوري، أو إنشاء المدينة الإعلامية الحرة الموعودة.لتبث من دمشق، والمفارقة الفاقعة، أن تتحدث الحكومة عن نية إنشاء مدينة إعلامية حرة، وفي الوقت ذاته تعد بوضع قانون شامل للإعلام، إذ ما الحاجة للمدينة الحرة، إذا كان هناك قانون محلي سيصدر بهذا الشأن؟ إنها أحد الأمور الإشكالية التي تزيد الغموض في توجهات الحكومة، وفيما إذا كان لديها نية حقيقية بتحرير الإعلام. وقد كان لافتاً العام الماضي إطلاق قناة فضائية باسم "سما الشام" بثت من قلب دمشق، سرعان ما توقفت، لعدم حصولها على إجازة قانونية تُمكنها من الحصول على مساحة في أقمار البث الفضائي، بعد انتهاء الفترة التجريبية.!!

فوضى


 المتابع لكواليس الإعلام السوري لابد أن يحيره تمسك السلطات السورية بسياسة الباب الموارب، المتبعة في تحرير الإعلام، الأمر الذي يفرض حالة انتظار وترقب جعلت الإعلام يراوح في مكانه، وهو ما دفعه نحو فضاء العالم الافتراضي الرحب ، حيث لا قانون يحكمه ولا وعود معلقة، وكانت البداية مع نشرة "كلنا شركاء في الوطن" الالكترونية التي أنشأها المهندس والخبير الاقتصادي أيمن عبد النور بجهد فردي، منذ أكثر من ثلاث سنوات في محاولة لتقديم وجبة يومية من المقالات والأخبار والتحليلات المتعلقة بالشأن السوري، ترسل عبر البريد الإلكتروني الى المشتركين مجاناً، وقد لاقت رواجاً كبيراً  نظراً لجرأة المقالات المختارة والمعاد نشرها، والجهد الذي توفره على المهتمين بالشأن السياسي المحلي، من خلال انتقاء تراه ضرورياً للإطلاع دون أية محاذير، وسرعان ما تجاوز رقم المشتركين أثني عشر ألف مشترك، داخل وخارج البلاد وتمكنت من تشكيل رأي عام حول العديد من القضايا السياسية الحساسة، بالتزامن مع إطلاق مشروع الإصلاح الاقتصادي والسياسي ومكافحة الفساد.  وعلى الرغم من الانطلاقة القوية المبشرة، إلا أن صاحبها لم يتمكن ولأسباب مالية من إنشاء موقع لها على شبكة الانترنيت، وباءت بالفشل محاولته بالحصول على اشتراكات مدفوعة، ويقول بهذا الخصوص للشرق الأوسط: "دخل النشرة  يساوي الصفر، أنا انفق عليها من مورد عملي كخبير اقتصادي، والاشتراكات لم تنجح، لان عدداً قليلاً جداً ممن تصلهم النشرة أدركوا أهمية دعمها، وهم لا يتجاوزون الـ 600  مشترك، لذا اخترنا الاستمرار بشكل مجاني حتى لا نخسر 16 ألف مشترك باتت تصلهم النشرة الآن، بينهم غالبية المسؤولين في الدولة، وأيضاً كي لا تخسر تأثيرها ومكانتها التي حققتها خلال أربع سنوات من العمل، فقد أصبح لها كتابها، ولم تعد تعتمد 100 % على إعادة النشر، بل أصبح هناك أكثر من 50% من المقالات تُكتب خصيصاً للنشرة" .
تأتي أهمية "كلنا شركاء" بفتحها مساحة للحوار التفاعلي بين النخب السياسية والثقافية والاجتماعية، من خلال نشر الرأي والرد عليه، وقد أثير على صفحاتها العديد من القضايا الراهنة والشائكة، عموماً استطاعت أن تسد جزءاً من الفراغ الكبير الذي خلفه غياب صحافة سياسية فكرية مستقلة، وهو أمر لم يكن من السهل هضمه على سلطة مرتاحة لبث خطاب واحد، وقد عانت النشرة من الحجب ومعوقات تقنية، مع أن صاحبها بعثي، لكن اتجاهه الإصلاحي واجه معارضة ملموسة من قبل بعض البعثيين الذين يصطلح عليهم باسم الحرس القديم، وهناك مصادر رفضت الكشف عن اسمها قالت للشرق الأوسط: أن النشرة فتحت أعين السلطة السورية على أهمية الصحافة الالكترونية، وألهمتها طرق  مبتكرة لمواجهة هذا النوع من الصحافة المرشح للتنامي، فثمة ساعة أو ساعتان قد يمنحها  متصفح الانترنيت لمطالعة نشرة مثل "كلنا شركاء" والسبيل الوحيد لجعل القارئ ينصرف عنها هو قتل وقته بسيل من المواقع المشابهة يضيع فيها المعيار بين المحتوى الجاد والمحتوى المثير، بحيث يتبدد الوقت في التنقل بين موقع وأخر، خاصة وأن سرعة التحميل ما تزال بطيئة في سورية، بالإضافة إلى تشتيت ذهن القارئ في أخبار سريعة مثيرة عن الحوادث والجرائم والغرائب، مما يُفقده الرغبة أو القدرة على قراءة مقال أو رأي تحليلي ثقيل، فتضيع نشرات ومواقع جادة في زحمة المواقع الترفيهية، بتمييعها الرأي والرأي المخالف، والنقد والرد عليه. وحتى إذا تم حجب موقع أو عشرة مواقع، لا يترك ذلك أثراً يذكر لدى القطاعات الواسعة من الشباب، تدفعها للتحايل على الحجب، فسياسة الإغراق التي تعتمد مبدأ العملة الرديئة كفيلة بطرد العملة الجيدة، وهي أكثر جدوى من الحجب.
مازن بلال  صاحب نشرة  "سورية الغد"  يرى أن: "الصحافة الإلكترونية السورية ظهرت على أمل التغلب على عدم وجود ثقافة صحافية تفاعلية، وربما استطاعت المواقع السورية الإعلامية تحقيق هذا الأمر. لكن "الصحافة الإلكترونية" عادت من جديد لتواجه غياب الثقافة الإعلامية، على الأخص ونحن نتعامل مع تقلب العالم الافتراضي، وسرعة التحول من موقع لآخر، وربما تبدل الاهتمامات بالتعامل مع الإنترنيت".
بعيداً عن دقة وصحة المعلومات السابقة، فإن مجرد طرح هكذا فكرة بحاجة الى تدقيق بالاستناد إلى قراءة ما يتم على الأرض، وقد تكون صحيحة من حيث السيطرة على محتوى العديد من المواقع عبر الدعم المالي والإعلاني المقدم لها، وأيضاً من حيث إتباع غالبية المواقع الالكترونية الإخبارية المبدأ ذاته الذي اتبعته نشرة "كلنا شركاء" في إعادة نشر المواد التي تتناول الشأن السوري في الصحافة المحلية والعربية والعالمية، مع نسبة ضئيلة من المواد الخاصة، وهو ما جعل غالبية المواقع السورية تتشابه وتبدو وكأنها موقع موحد مع تمايزات من حيث الشكل،  لكن لا يمكن التسليم أن الظهور الكثيف للمواقع الإخبارية يأتي ضمن توجه لإغراق عالم السوريين الافتراضي، بعالم افتراضي مغاير وزائف يضيع السياسة لحساب طرائف اجتماعية مسلية؛ هناك فراغ هائل في الحياة الإعلامية يعمل المجتمع السوري على سده تلبية لحاجة ملحة للمشاركة في الشأن العام، باستغلال هوامش منحت في السنوات الأخيرة مع إطلاق مشروع الإصلاح، وهي هوامش واسعة أتاحتها تقنيات الاتصال وغياب قوانين مقيدة، ما جعل الحيز الافتراضي هو البيئة الأكثر صلاحية لأن يعبر المجتمع السوري عما يمور في داخله، فظهرت عشرات مواقع  مثل "شام برس" و"ثروة" و"سيريانيوز" و"مرآة سوريا" و"سورية الغد" و"سيريا نوبلز" و"الجولان"  و"زمان الوصل"  و"الجمل" الى جانب العشرات من مواقع  أحزاب وتجمعات المعارضة "المواطن" و "الرأي"  ومواقع جمعيات حقوق الإنسان والمجتمع المدني، ناهيك عن مواقع إخبارية مناطقية  خاصة بمدن وبلدات وحتى قرى نائية، منها "قامشلو" و"مرمريتا دوت كوم" و"زيدل"  ... إلخ

 

سورية الافتراضية


إن المتجول في المواقع السورية  سيلمس أن وجه سورية الافتراضي يكاد لا يشبه وجه سورية الذي تكرس في العقود الماضية، كما يكاد يختلف عن وجه الشارع كما ألفناه، حتى لنكاد نحتار في معرفة أي تلك الوجوه أكثر حقيقية أو اقرب الى الواقع!  كما لا يمكن تجاهل الواقع الإعلامي الذي خلقته الصحافة الالكترونية، فقد تشكلت أعراف وتقاليد مهنية، ومنها ما بدأ يُشكل مؤسسات إعلامية قائمة بذاتها،  مثل "سيريا نيوز" التي حققت انتشاراً واسعاً خلال عام واحد من صدورها، وهي كمشروع إعلامي ارتأى صاحبها نضال معلوف أن يبدأ من حيث وصلت إليه الصحافة في العالم، إذ لا يفكر بأن يصدر صحيفة ورقية لو سُمح له بذلك، لأن المستقبل هو للصحافة الالكترونية، وقد استطاعت كل من سيريا نيوز و شام برس من اجتذاب كتلة تمويلية من الإعلان تغطي نفقاتهما، تكاد تعادل الكتلة التي تحصل عليها أي مطبوعة ورقية وربما أكثر. لا بل أن الصحافة الالكترونية السورية، أثبتت أنها أكثر فعالية من نظيرتها الورقية، فالتكاليف الضئيلة وعدم الحاجة لترخيص جعل الكثير من الشباب السوري يقبل على صناعة صحافته المعبرة عنه دونما تعقيدات.
 وقد ظهر تأثير ذلك واضحاً في السنة الأخيرة، إذ تجاوز الحيز الافتراضي باتجاه الكشف عن الرأي العام وحتى توجيهه، تمثل ذلك في أوج تأزم العلاقات السورية ـ اللبنانية، حيث وقع على كاهل الصحافة الالكترونية مواجهة الحملة الإعلامية الشرسة التي شنتها وسائل إعلام لبنانية وعربية على سورية، دفعت السلطة السورية إلى مواجهة مأزق في ظل غياب وسائل إعلام مستقلة قادرة على مواجهة تلك الحملة، وجاءت الصحافة الالكترونية  بصيغتها التفاعلية  طوق إنقاذ حقيقي، مكن الجمهور السوري من إيصال رأيه عبر  التعليق على الأخبار والتحليلات، وضحت إلى حد ما توجهات الشارع السوري، وأفسحت له حيزاً لتنفيس الاحتقان الكبير الناجم عن  خطاب عدائي بثته وسائل إعلامية على مدار سنة، وما جعل الأمر أكثر سوءاً أن الجمهور السوري خلال أربعين عاماً من غياب الإعلام المستقل كان يتابع الإعلام اللبناني، وفجأة وجد نفسه في خانة المستهدف بهذا الإعلام، ما ولد رد فعل سلبي برز في مواقع الانترنيت التي حفلت بتعليقات لا يمكن أن ترى النور لولا غياب القانون عن العالم الافتراضي.
تفاعل الجمهور مع الصحافة الإلكترونية، رفع سقف التنافس فيما بينها، فظهرت مواقع جديدة حاولت أن تخط لنفسها طريقاً آخر في الازدحام، من خلال التخصص  كموقع "جدار" الذي اختص بالشأن الثقافي، وموقع "ألف" الذي عني بالكشف عن الفساد الثقافي، و"الجمل" كجريدة  إخبارية حاولت اعتماد صيغة الصحافة التقليدية من حيث العناية بالتحليل وخلفيات الحدث وتقنين الحيز التفاعلي مع الجمهور الذي أخذ شكل التنفيس، لتسجل بذلك خطوة متقدمة نحو توجيه وصناعة الرأي العام، ليضاف جهدها إلى ما تقوم به المواقع الأخرى من عملية كشف للرأي العام، وخلال أقل من شهرين من انطلاقتها سجلت جريدة " الجمل" الالكترونية عدة نقاط على هذا الصعيد، وثبت أن مراسلي العديد من الصحف العربية يأخذون أخبار من "الجمل" دون ذكر المصدر، وقد افتضح ذلك تماماً عندما أثارت "الجمل" مؤخراً التساؤلات حول ماهية التسجيلات التي ضبطت مع المهاجمين الذين حاولوا اقتحام مبنى الإذاعة والتلفزيون، مؤخراً وتبين أنها تسجيلات لرجل دين يدعى أبي القعقاع، ونشرت تقريراً أُعد من مواد إعلامية سبق ونشرتها صحيفتا الشرق الأوسط والرياض قبل نحو عام، إلا أن جريدة "الحياة" التي استفادت الى حد كبير من تقرير "الجمل" لم تشر الى المصدر وأظهرت أن القصة خاصة بها، ما جعل غيرها من الوسائل العربية تتناقل التقرير كل واحدة عن الأخرى دون ذكر للمصدر أيضا، وبقي الحدث يتفاعل لمدة أسبوع، باتجاه معرفة من هو أبي القعقاع الذي قد تكون قصته مشكوك بصحتها. هذا المثال وغيره يبين مدى اعتماد المراسلين الصحفيين على المواقع الالكترونية كمصدر للمعلومات، كما كان هذا واضحاً إلى حد بعيد مع نشرة " كلنا شركاء" فكلما نشرت خبراً خاصاً عن القيادة القطرية لحزب البعث أو تعيينات وتنقلات في مناصب الدولة، تظهر الصحف العربية في اليوم الثاني ناشرة الخبر نقلاً عن مصادر مطلعة دون أي ذكر صريح للنشرة، كي لا تقلل من مصداقية الخبر، فالمصداقية التي تتمتع بها المواقع الإخبارية السورية لدى الجمهور السوري، ليست كذلك لدى الجمهور العربي، لأن الجمهور السوري وبالأخص العاملين في حقل الإعلام يعرفون بشكل شخصي القائمين على تلك المواقع، ويستطيعون تقدير مصداقية ما يحصلون عليه من معلومات بحكم علاقاتهم الخاصة.
ومما لا شك فيه أن الانترنيت مكنت السوريين من كسر الاحتكار المفروض من قبل السلطة على تداول السياسة، وبات بإمكان كل شخص نشر ما يصله من معلومات في مدونته الخاصة، أو في منتديات الدردشة التي انتشرت في سوريا كجزء من انتشارها في العالم، وظهرت مواقع شبابية مثل: شبابلك دوت كوم، وأخوية، وسورية دوت كوم. ومنتديات مثل:  سيريانز3، وكشكول،  وعشتار، وزنوبيا وسواه من المساحات الافتراضية التي أفردت  للحوار في الشأن العام ، عوضت الى حد كبير الافتقاد الى منابر إعلامية حقيقية، وهو ما أثر سلبياً على  واقع الإعلام المستقل، إذ ترك هذا المجال لصغار المستثمرين، أو للطامحين الى  تزيين برستيجهم الاجتماعي بمجلة أو مطبوعة  أنيقة، بعيداً عن متاعب وإشكاليات السياسة.


مشكلة الاعلان


 علي الظاهر مدير تحرير جريدة "الدبور" الانتقادية الساخرة، شكى من تمنع كثير من رجال الأعمال والممولين عن الإعلان في "الدبور" بحجة أنها جريدة معارضة، وهم لا يريدون مشاكل مع السلطة! ويقول الظاهر: مع أن نسبة 75% من الإعلانات في جريدتنا للقطاع العام، لا أدري من أين جاءهم انطباع أننا جريدة معارضة. مع أننا أكدنا العكس مراراً. 
تعتبر مشكلة الإعلان أحد أهم مشكلات الصحافة السورية المستقلة، وفي هذا المجال يذكر ايمن الدقر رئيس تحرير مجلة "أبيض أسود" الأسبوعية السياسية، أن جزءاً كبيراً من المشكلة سببه منح تراخيص لأكثر من عشر مطبوعات إعلانية امتصت غالبية الإعلانات، والمشكلة الأكبر أن مؤسسة الإعلان تتعامل مع الصحف الإعلانية التي تتقاضى ثمن كل حرف تنشره،  مثلما تتعامل مع الصحف والمجلات العادية التي تدفع ثمن كل حرف يكتب فيها، فتفرض الضرائب ذاتها على الطرفين. ولا يأمل الدقر بتحسن وضع الصحافة السورية المستقلة، طالما لم يتم تحرير عمليتي الإعلان والتوزيع. مشيراً إلى سوء سياسة التوزيع، حيث يتم منح مكتبة في شارع جانبي ومنزو عشرة أعداد، ومكتبة أخرى في منطقة نشطة تجارياً عددين فقط، وإذا طلبت المزيد فقد يمتنعون عن تزويدها نهائياً، هذه الفوضى والعشوائية تؤثر على مبيعات المطبوعة، ناهيك عن امتناع المؤسسة عن رد  الأعداد المرتجعة، وبالتالي لا يمكن التحقق فعلاً من رقم المرتجعات، إلا أن مصادر في مؤسسة توزيع المطبوعات،  رأت أن هناك إجحافاً كبيراً في كلام أصحاب الصحف، دون نفي إمكانية حدوث أخطاء نتيجة كثافة العمل في المؤسسة، وأكدت تلك المصادر أن الصحافة السورية المستقلة سوقها بمنتهى التردي، فأفضل المطبوعات وأكثرها أناقة لا يتجاوز توزيعها 2000 عدد، ما عدا استثناءات لا تتجاوز أصابع اليدين،  كالصحف الرياضية والتي توزع إحداها حوالي 60 ألف عدد ، لكن علي الظاهر وأيمن الدقر تحديا هذا الكلام وطالبا بالسماح لمطبوعاتهما بالتوزيع الحر، وأكد الظاهر أن جريدة الدبور  يتجاوز توزيعها الآن الـ 25 ألف نسخة، ولو وزعت عن طريق شركة خاصة لتضاعف هذا الرقم ثلاث مرات.
لكن وحسب السرعة البطيئة جداً التي يتم من خلالها تطوير واقع الإعلام المستقل،  قد لا تصل الصحافة المستقلة إلى مطالبها إلا بعد أن تكون الصحافة الورقية قد انقرضت، وإذا كان قرار ما اتخذ بعدم السماح لإذاعات ومحطات تلفزيونية سياسية، فلا نافذة أمام السوريين سوى الانترنيت مجالاً لم يطله القانون بعد، وإن طالته يد الرقابة والحجب وحتى الملاحقة، وهو الحيز الوحيد الذي يُمَكِّن المجتمع السوري من اختبار حراكه الثقافي والسياسي كسبيل لبلورة تيارات واضحة تشكل حاملاً لحركة التغيير المطلوب، دون انتظار قرار يعترف بحاجة المجتمع لإعلام مستقل يتيح له فرصة الكشف عن نفسه، ودفعه لتحسين واقعه، عبر المشاركة الفعالة. وإلا فإن كل ما نقوم به لن يتجاوز في تأثيره برنامج نكات سمج، ترعاه شركة إنتاج علكة، وتبثه إذاعة لا عمل لها سوى تمويت جمهورها ضحكاً.


 

سعاد جروس

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...