خرافة العلمانية التركية
الجمل- ديفيد بوياجيان- ترجمة: د. مالك سلمان:
تركيا دولة علمانية. هذا ما تدعيه حكومتها ومعظم وسائل الإعلام الغربي الرسمية. لكنهم على خطأ.
في البلدان المتحضرة الديمقراطية, لا تعني العلمانية فقط نوعاً من الفصل المحترم بين الكنيسة والدولة بل تنطوي كذلك على الحرية الدينية. وكما سنبين هنا, طالما كانت السياسات التركية مناقضة للعلمانية.
تدعم الحكومة التركية الإسلامَ وتمَوله على نطاق واسع – وخاصة الإسلام السني – داخل البلاد. وفي الوقت نفسه, تعمل تركيا على قمع ديانات مثل العلوية, كما تطارد وتقمع المسيحيين المحليين الذين قامت بتصفية معظمهم في مجازر جماعية في القرن العشرين. وفوق ذلك, فهي تستخدم الإسلامَ بهدف استعراض القوة السياسية التركية في أوروبا وآسيا وأماكنَ أخرى. ولذلك فإن التسمية الأكثر دقة للنظام التركي هي "إسلام الدولة".
هذه المقالة ليست نقداً للإسلام أو المسلمين. فنحن نكن كل الاحترام للاثنين معاً. لكن العلمانية التركية تستجدي نوعاً من التعرية.
إسلام الدولة
"مديرية الشؤون الدينية" – المعروفة باسم "ديانت" – هي الجسم الحكومي الذي يمثل ويوجه الإسلامَ السني في تركيا. إن "ديانت", التي تم تأسيسها في سنة 1924 – أي بعد سنة واحدة من تشكيل "الجمهورية التركية" – منصوص عليها في المادة 136 من "الدستور التركي". و مؤسسة "ديانت" ضخمة وذات نفوذ كبير. إنها تعمل تحت إدارة رئيس الوزراء وتضم أكثر من 100,000 موظفاً. كما أن جميع رجال الدين السنة هم عبارة عن موظفين مدنيين مأجورين تابعين لمؤسسة "ديانت".
تتجاوز الأموال المخصصة لمؤسسة "ديانت", والبالغة 2 مليار دولار سنوياً, ميزانيات وزارات الخارجية والطاقة والبيئة معاً. وينص القانون على إمكانية حَل أي حزب سياسي في حال تجرأ على المطالبة بإلغاء "ديانت".
حتى وقت قريب, كانت "ديانت" تكتب جميع الخطب الدينية لرجال الدين التابعين لها, ولكن يشاع الآن أنها تسمح لهم بكتابة خطبهم, مع مراقبة محتواها.
هل كانت الولايات المتحدة – أو أي بلد غربي ديمقراطي – ستسمى "علمانية" في حال كانت تمول وكالة حكومية مسيحية ضخمة توظف رجال الدين المسيحيين وتتحكم بمواعظهم الدينية؟ بالتأكيد لا.
من يملك المساجد التي بلغ عددها 80,000 في تركيا؟ الأمر ليس واضحاً تماماَ. حتى أن الكثير من الأتراك يتساءلون. من المؤكد أن "ديانت" تتحكم بجميع المساجد. (يمثل المسلمون الشيعة 3% فقط من السكان البالغ عددهم 80 مليوناً, وهم مستقلون تماماً عن "ديانت".)
هناك مشروع لبناء مسجدين ضخمين على "تل كامليكا" و "ساحة تكسيم" بإشراف رئيس الوزراء إيردوغان. ويبدو أن الحكومة ستدفع معظم التكاليف, وهذا ليس شيئاً يمكن لدولة علمانية أن تفعله.
لا تعمل "ديانت" في تركيا فقط بل تنشط في كافة أنحاء العالم. فالسياسة التركية الخارجية و "ديانت" متشابكتان. حيث تعمل الثانية على ترسيخ النفوذ السياسي للبلاد في الخارج.
نفوذ عالمي
لدى "ديانت" قسم "علاقات خارجية" يقوم بإرسال مستشارين دينيين ليس إلى البلدان الإسلامية فقط, مثل بلدان آسيا الوسطى وأفريقيا, بل أيضاً إلى الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والسويد وبلدان أوروبية أخرى.
وفي الحقيقة, تحتوي بعض السفارات التركية على قسم للشؤون الدينية وملحقينَ يعملون مع ممثلي "ديانت" المحليين. فتركيا نشطة جداً, على سبيل المثال, في هولندة حيث تدفع مرتبات موظفي "المؤسسة الإسلامية الهولندية" المرتبطة بمؤسسة "ديانت".
بالتعاون مع "المؤسسة الدينية" التركية, قامت "ديانت" – خلال العقدين الأخيرين – ببناء أو تجديد المساجد في أذربيجان وبيلاروسيا والبوسنة وشمال قبرص واليابان وكازخستان وروسيا وتركمنستان وأوكرانيا وأماكنَ أخرى.
يتم حالياً تشييد "المركز الثقافي الحضاري التركي الأمريكي" – بكلفة 100 مليون دولار أمريكي وعلى مساحة 15 هكتاراً, ويحتوي على مسجد ضخم – في لانام/ماريلاند على بعد 14 ميلاً من واشنطن العاصمة. إنه "مشروع تابع للحكومة التركية" و "المركز الأهلي التركي الأمريكي". ويتبع المسجد القديم في هذا المركز إلى "الجمهورية التركية و ‘قسم الشؤون الدينية’ ["ديانت"]." وقبل عدة أشهر, وضع رئيس الوزراء إيردوغان حجراً تذكارياً في موقع بناء " المركز الثقافي الحضاري التركي الأمريكي".
لا توجد أية دولة علمانية حقة تقوم بمثل هذه الأشياء. كما أنها لا تقوم بالتضييق على أشخاص ينتمون إلى ديانات أخرى وملاحقتهم.
القمع الديني
في السنة الماضية, قامت "اللجنة الأمريكية للحرية الدينية العالمية" التي أسسها الكونغرس بإدراج تركيا في أسوأ تصنيف لها بصفتها "بلداً يثير قلقاً خاصاً", مع بلدان أخرى مثل بورما والصين وباكستان.
أشارت "اللجنة" إلى أن تركيا "تقيد الحرية الدينية, وخاصة بالنسبة إلى مجتمعات الأقليات الدينية غير الإسلامية – بما فيها الكنائس اليونانية والأرمنية والسريانية الأرثوذكسية, والكنائس الكاثوليكية الرومانية والبروتستانتية, والمجتمع اليهودي."
إن هذا الاضطهاد للمسيحيين, الذين لا يتجاوز عددهم 100,000, جدير بالإدانة الصارخة وخاصة أن تركيا قامت بإبادات جماعية بين سنتي 1915 و 1923 ضد الملايين من الأرمن المسيحيين واليونانيين والسريان المحليين, بما في ذلك العديد من الكاثوليك والبروتستانت.
استمر اضطهاد غير المسلمين حتى بعد نشوء الجمهورية التركية في سنة 1923. فقد هدف برنامج "الضريبة المالية" ("ڤارليك ڤبرغيسي") الشنيع خلال الحرب العالمية الثانية, على سبيل المثال لا الحصر, إلى فرض ضريبة عالية على المسيحيين واليهود غالباً ما كانت تتجاوز دخلهم. وكان يتم إرسال الرجال إلى معسكرات الأعمال الشاقة في الداخل في حال لم يتمكنوا من دفع هذه الضرائب العالية. كما أفلس العديد من العائلات. ولم يتوقف هذا البرنامج إلا بعد ضغط دولي شديد.
وضعت تركيا يدَها على الآلاف من الكنائس والمدارس والمشافي والمآتم والمدافن المسيحية والممتلكات المجتمعية الأخرى في العقود القليلة الأخيرة.
وعلى الرغم من أن تركيا أعادت مؤخراً بعض هذه الممتلكات تحت الضغط الدولي, إلا أن معظمها بقي مغتصباً وربما لن يعادَ إلى أصحابه أبداً.
إضافة إلى ذلك, تم تدمير العديد من الكنائس والأديرة الأرمنية القديمة, مثل "القديس مارك" ("ناشان") في سيڤاس, وأحياناً بواسطة المتفجرات. كما تم تحويل معابدَ أخرى إلى إسطبلات. وفي أوائل هذه السنة في مدينتي إيزنيك وطرابزون, تم تحويل كنائس يونانية قديمة إلى مساجد.
العلوية ديانة يبلغ عدد أتباعها 10 – 20 مليوناً في تركيا. وتشمل هذه الديانة, المعقدة والغامضة بعض الشيء, على عناصر من الإسلام الشيعي والصوفية والوثنية والتقاليد الروحية والدينية الأخرى. يمارس العلويون العبادة في دور تسمى "سيميڤيس", وليس في المساجد. ولا تعترف الحكومة التركية لا بالعلويين ولا بدور العبادة هذه. يشتكي العلويون من هذا الاضطهاد ولكن دون أي فائدة.
طالما كان العلويون ضحايا للتمييز الذي يصل أحياناً إلى الهجمات العنيفة, كما حدث في سنة 1993 عندما تم أقدم الرعاع على قتل 35 من الزعامات العلوية, وكما حدث مؤخراً هذه السنة عندما أطلقت الشرطة قنابل الغاز المسيل للدموع على العلويين المحتجين.
يقول عز الدين دوغان, أحد زعماء العلويين: "يمكن أن تبدو تركيا دولة علمانية على الورق, ولكن من حيث القانون الدولي فهي دولة إسلامية سنية في حقيقة الأمر." وهو على صواب, لكن معظم العالم الخارجي يتجاهل أصواتاً كصوته.
العلمانية الحَقة
يشعر بعض الأتراك أن بلدهم علماني لأن هيمنة "ديانت" تحافظ على الاعتدال الإسلامي ضد الميول المتطرفة. ويمكن أن يكون هناك بعض الحقيقة في ذلك.
ولكن بما أن العلمانية تنطوي على مسافة محترمة بين الدين والدولة, فإن تركيا لا ترتقي إلى مصاف الدولة العلمانية. فبالإضافة إلى القمع الديني الداخلي في تركيا, واستخدام "ديانت" في السياسة الخارجية, فإن ادعاء العلمانية مزيف ببساطة.
تمارس الحكومة التركية نوعاً من الإنكار التام فيما يتعلق بالعلمانية والحرية الدينية, كما هو واضح في زعم إيردوغان المتبجح قبل سنتين: "تركيا دولة علمانية تتساوى فيها كافة الديانات."
إذا أرادت تركيا أن تصبح علمانية فعليها أن تمنح الحرية لكافة الأديان – بما في ذلك الإسلام – وتضمنَ حرية المتدينين ضد القمع والاضطهاد. كما يجب أن يكون اعتراف الحكومة التركية بجرائمها في الماضي والحاضر, وخصوصاً بحق المجتمعات غير التركية وغير الإسلامية, والتعويض الحقيقي عن هذه الأفعال الشائنة, جزأ من هذه العملية.
حتى ذلك الوقت, وخاصة في الغرب, يجب على الإعلام الرسمي والقادة الدينيين والأكاديميين والمحللين السياسيين أن يتوقفوا عن ابتلاع الادعاء التركي المزيف بالعلمانية.
http://dissidentvoice.org/2013/12/the-myth-of-turkish-secularism/
تُرجم عن ("ديسيدنت ڤويس", 16 كانون الأول/ديسمبر 2013)
الجمل
إضافة تعليق جديد