الطريق إلى بغداد
عرضت قناة الجزيرة مؤخراً على حلقتين فيلما وثائقيا من إعداد وتقديم ياسر أبو هلالة وإخراج منتصر مرعي بعنوان "الطريق إلى بغداد"، كانت حلقته الأولى بعنوان "مغرب الأرض"، والثانية بعنوان "مشرق الأرض".
الفيلم الذي بدا من الزاوية المهنية بمستوى أفلام البي.بي.سي والوثائقيات الغربية كان فريداً من ناحية المضمون، إذ أبحر في ملف شائك لا يحب أحد الاقتراب منه لأنه بكل بساطة يقع بين نقيضين: يميل الأول إلى شيطنة تلك الفئة من الناس الذين يطلق عليهم اسم المقاتلين العرب، في حين يميل الثاني إلى وضعهم في مصاف الملائكة الذين لا يخطئون، على اعتبار أن أهل الثغور هم الأقرب إلى الله، أو إلى الصواب عندما تلتبس المواقف، كما في تلك المقولة التي تنسب إلى العالم المجاهد عبد الله بن المبارك، في حين يعلم الجميع أن أخطاء الحروب عادة ما تكون كبيرة، ولا يكفي مجرد القتال أو حتى الموت في سبيل الله عنواناً لصواب الرؤية والمسار. مع أن واقع اقتراب المجاهد من الله عز وجل لا مراء فيه، فمن ينتظر الموت لا يكون حاله كمن يغرق في الملذات.
ما يدفعني إلى الكتابة عن فيلم "الطريق إلى بغداد" هو أنني كنت واحدا من متابعي هذه الظاهرة والمهتمين بها وتحديدا في الحالة العراقية، إذ تابعتها في ذات المحطات التي تابعها الفيلم الذي نحن بصدده، وهي محطات ثلاث: أولاها مرحلة ما قبل اندلاع الحرب، وثانيها بعد السقوط، وثالثها بعد ذلك بعام أو أكثر.
قبل الحرب وأثناءها تابعنا ذلك الزحف من لدن آلاف المتطوعين العرب والمسلمين الذين سافروا إلى العراق من أجل الدفاع عنه في مواجهة الهجمة الأميركية، لاسيما بعدما تأكد الجميع أن الهجوم الأميركي واقع لا محالة، وكما قال أحد هؤلاء في الفيلم فإن أحدا منهم لم يفكر أنه ذاهب من أجل الدفاع عن صدام حسين، أو أن مشاركته في الحرب تعني تأييدا لسياساته المتعلقة بالداخل العراقي، بل إن كثيرا منهم لم يكونوا يدركون تناقضات الواقع العراقي باستثناء واقع الأكراد في الشمال.
"
المتطوعون في حرب العراق أصناف متعددة وقراءة فاحصة لهم تؤكد أن أكثرهم شبان عاديون، ورغم تدين معظمهم فإن ذلك لم يكن يعبر في الغالب عن انتماءات حزبية أو أيديولوجية
"
كان هؤلاء أصنافا متعددة، لكن قراءة فاحصة لهم تؤكد أن أكثرهم من الشبان العاديين. صحيح أن كثيرا منهم كانوا متدينين، إلا أن ذلك لم يكن يعبر في أكثر الأحيان عن انتماءات حزبية أو أيديولوجية.
وإذا صح القول فهم من خريجي مدرسة انتفاضة الأقصى الفلسطينية التي دخلت ثقافتها كل بيت في العالم العربي والإسلامي، إلى جانب كونهم من المتأثرين بمدرسة الرفض والكراهية للولايات المتحدة في طبعتها الأكثر انحيازا للدولة العبرية، وبشكل أكثر دقة، طبعتها فيما بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001، حيث كشرت عن أنيابها وأخذت تتحدث عن الإسلام والمسلمين بوصفهم أعداء ينبغي العمل الحثيث على تركيعهم بكل الوسائل.
هؤلاء الذين رحلوا إلى العراق هم أنفسهم الذين كانوا يملؤون الشوارع بمسيرات الدعم لفلسطين والرفض للحصار الجائر على العراق، وهم أنفسهم الذين كانوا يرفضون احتساء البيبسي والكولا لأنهم مقاطعون للبضائع الأميركية، وهم ذاتهم الذين كانوا يوزعون الحلوى مع كل عملية استشهادية كبيرة في فلسطين.
من المؤكد أن تجربة هؤلاء كانت مريرة إلى حد كبير، فقد ذهبوا إلى بلد يتوق الكثير من أهله إلى لقاء عدوهم، ليس بصيغة القتال، وإنما بصيغة الخلاص من الواقع الراهن، ولا نتحدث هنا كما يفعل كثيرون عن سني وشيعي وكردي، فقد شملت تلك المشاعر أكثر العراقيين.
صحيح أن الشيعة والأكراد كانوا أكثر كرها، لكن ذلك لا يغير من حقيقة أنه لم يكن أحد ينوي القتال بالمعنى الحقيقي للكلمة، مع فارق التعامل مع المتطوعين الذي تفاوت بين متعاطف معهم وبين كاره لهم بوصفهم أعوانا لصدام حسين ولابد -تبعا لذلك- من الانتقام منهم بدل مساعدتهم أو استقبالهم على نحو حسن.
بعد ثلاثة أسابيع فقط من سقوط بغداد رحلنا إليها، نحن الذين لم نكن نجرؤ على ذلك أيام صدام لاعتبارات القمع على خلفية الموقف السياسي، وقد فعلنا ذلك أيام لم يكن هناك من يسأل عن هويات أو جوازات، فقد اجتزنا الحدود الأردنية العراقية من دون سؤال ولا جواب في الجانب العراقي.
قبل الذهاب إلى هناك، كنت قد كتبت مقالا بعنوان "المقاومة العراقية متوقعة ونماذجها فلسطينية لبنانية أفغانية"، وقبله مقالات أخرى قبل اندلاع الحرب تبشر بها بعد السقوط أو الهزيمة العراقية المتوقعة أمام القوات الأميركية، لكن المفاجأة كانت أكبر، إذ إن المهلة التي قلنا إن الناس سيحتاجونها من أجل التقاط الأنفاس -وكانت في حدود ستة أشهر- لم تتوفر، إذ بدأت المقاومة سريعا. وفي الفلوجة التي ذهبنا إليها كان المجاهدون قد بدؤوا فعلهم على الأرض، وفي اليوم الذي وصلنا فيه كان الجيش الأميركي يغادر المدينة بعد اشتباكات مع أهلها قبل أن يعود إليها من جديد بعدما لاحقه مجاهدوها إلى مواقع تمركزه على مشارفها.
"
بطولات المتطوعين العرب الذين رفضوا الاستسلام بعد سقوط بغداد كانت تستفز مشاعر العرب السنة رغم فرح الكثير منهم بسقوط النظام وانتظارهم لليوم التالي وما يحمله، قبل أن يدركوا أن ما كان خير مما هو كائن فضلا عن الأسوأ القادم
"
في بغداد سمعنا الكثير عن بطولات المتطوعين العرب الذين رفضوا الاستسلام بعد سقوط المدينة، وأصر بعضهم على القتال حتى بعد وضوح الصورة، وسمعنا عن معركة نفق الشرطة كما عرفت في أوساط العرب السنة في بغداد، وعن ذلك الذي ربط نفسه في أحد الأعمدة من أجل أن لا يستسلم، كما أخبرنا أحد السياسيين العرب السنة كيف أقنع هو وآخرون طائفة من أولئك المقاتلين بأن ثمة معركة لا تزال مندلعة في مكان آخر سيأخذونهم إليها، ثم حملوهم إلى الحدود السورية وطلبوا إليهم الرحيل لأن البلاد قد سقطت، الأمر الذي استفز دموع الكثير منهم بسبب حرمانهم من شرف الشهادة التي تمنوها.
هذه الحكايات وسواها كانت تستفز مشاعر العرب السنة رغم فرح الكثير منهم بسقوط النظام وانتظارهم لليوم التالي وما يحمله، قبل أن يدركوا أن ما كان خير مما هو كائن، فضلا عن الأسوأ القادم.
بكثير من المشاعر الدرامية صار لهؤلاء المتطوعين حكاياتهم كما صارت لهم قبورهم، في بلد للقبور فيه مكانتها وقدسيتها في بعض الأحيان، كما للأولياء مقاماتهم التي يتصدرها الشيعة، فيما ينافسهم فيها السنة بشكل من الأشكال كما في مقام الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان أو معروف الكرخي.
الصديق الكاتب المبدع عبد العزيز آل محمود رئيس تحرير الجزيرة نت زار بغداد بعد زيارتنا بأسابيع، وعندما عاد كتب عن تلك المرأة العراقية التي كانت تبكي وتقرأ القرآن بجوار قبر في الأعظمية ببغداد، وعندما اقترب منها وسألها عما إذا كان الميت هو ابنها، ردت بالإشارة إلى قبر ابنها هناك، مضيفة أن صاحب القبر مجاهد عربي مجهول الاسم جاء يدافع عن العراق واستشهد ودفن في هذا القبر.
هكذا يمكن القول إن قلة من بين أولئك الشبان استشهدوا وإن الغالبية عادوا، ولم يبق غير قلة أصروا على البقاء وانتظار الموقف التالي إيمانا منهم بأن ثمة ما يمكن عمله بعد ذلك. وقد بقي هؤلاء في مناطق المثلث السني وبدؤوا عملهم على الفور، وكان هؤلاء أو بعضهم من النماذج التي عرفها القتال الأفغاني أو المؤمنين بخطهم، أي من نماذج المجاهدين المسيسين على طريقة السلفية الجهادية وما شابهها.
"
عبر مصطلح المقاومة العراقية بدأ المجاهدون يتدفقون من جديد على العراق، لكنهم الآن مختلفون عن معظم الذين قدموا قبل الحرب وأثناءها، ففي هذه المرحلة ثمة حاجة لقنوات اتصال ومعنويات أعلى وجرأة أكبر
"
هنا ظهر مصطلح المقاومة العراقية ومن خلاله بدأ المجاهدون يتدفقون من جديد على العراق، لكنهم الآن مختلفون عن معظم الذين قدموا قبل الحرب وأثناءها، ففي هذه المرحلة ثمة حاجة لقنوات اتصال ومعنويات أعلى وجرأة أكبر، لأن الطريق لم تعد سالكة والنتيجة قد لا تكون القتال والشهادة بالضرورة.
يتتبع الفيلم هؤلاء جميعاً، وهو وإن استغرق وقتا لا بأس به من الحلقة الأولى في تتبع سيرة "الانتحارية الحسناء" كما عرفت بعد ذلك، أعني البلجيكية مورييل التي أسلمت واستشهدت مع زوجها الثالث المغربي إثر تفجير نفسها في دورية أميركية بسيارة مفخخة، فإنه أطل أيضاً على سيرة الشبان القادمين من الغرب -ومعظمهم من عرب الشمال الأفريقي المهاجرين إلى هناك- ربما كي يقول إن الحياة الصعبة ليست هي الحافز على الشهادة، بل ثمة تأثيرات أخرى على نفوس هؤلاء البشر تدفعهم إلى التضحية بأنفسهم، وهي تأثيرات لا يدركها الغربيون الذي يمعنون في الحديث عن الظروف النفسية والاجتماعية وقضايا الفقر وسواها.
لا يغيّب الفيلم مثل هذه الآراء المتداولة في الغرب وأحيانا في بلاد العرب، ولكن المسار العام للأحداث وحركة الأشخاص الذين التقاهم المقدم ظلت تؤكد أننا إزاء ظاهرة سياسية ودينية في آن واحد، لكن السياسة هي الأصل. وكما كانت السياسة سبب مجيء جنود التحالف من وراء البحار كي يحتلوا بلدا لم يسمع به كثير منهم من قبل، فإن السياسة أيضا هي التي دفعت هؤلاء الشبان إلى التدفق من كل أصقاع الأرض للدفاع عن بلد يشكل عنوانا لعزتهم وعزة دينهم، لاسيما أن أكثرهم لا يرون أن خطوط الاستعمار في بلادهم مقدسة وتستحق الاحترام.
ثمة دوافع دينية لا شك في ذلك، وهؤلاء يبحثون عن الشهادة ونعيم الجنة، لا خلاف على ذلك، ولكنهم لا ينفجرون أو يفجرون هكذا من دون بوصلة، ولو صح ذلك لكان بوسعهم أن يفعلوا ذلك في أي مكان، لكنهم خاطروا وجاؤوا إلى بلد بعيد لأن بوصلة الجهاد فيه أكثر وضوحا بتوفر احتلال يجمع العالم على أنه كذلك.
صحيح أن بعضهم ينفذون أعمالا مرفوضة من الزاوية الشرعية والسياسية وربما الأخلاقية أيضا، لكنهم مقتنعون بها أو أن هناك من أقنعهم بها في نهاية المطاف، من دون أن يعني ذلك تبريرا لما يفعلون، علما بأن ذلك جزء من نشاطهم الذي يشمل قتال الأميركان، إن لم يكن ذلك هو الأصل. وفي العموم فنحن نتحدث عن ظاهرة نصر على أنها سياسية، بصرف النظر عن طبيعة الدوافع وحضور الدين بقوة في حيثياتها، ولو لم يكن هناك احتلال لما كانت المقاومة.
"
فيلم الطريق إلى بغداد كان مميزا، سواء لجهة المضمون أم لجهة الحرفية والمستوى الفني في موضوع ليس من السهل الحصول على معادل بصري لحيثياته
"
يبدع فيلم "الطريق إلى بغداد" في متابعة هؤلاء.. كيف يفكرون وكيف يجندون وكيف يصلون وكيف ينفجرون وكيف يفرحون بانفجارهم، في ذات الوقت الذي يتيح المجال أمام من يشيطنونهم كي يقولوا رأيهم، وذلك كله ضمن حرفية مميزة نجحت في تقريب المشاهد أكثر فأكثر من ظاهرة ليست هامشية بأي حال، إذ لولاها لما كانت المقاومة من الأصل. وحتى لو قيل إن معظم المقاومين اليوم عراقيون، فإن إشعال الفتائل الأولى كانت بتوقيع المقاتلين العرب، فضلاً عن حضورهم الفاعل في المراحل التالية.
ما ينبغي أن يقال في هذا السياق هو أن ثمة روحا استثنائية سرت وتسري في شباب هذه الأمة، وهذه الظاهرة التي برزت في العراق جزء من روح الغضب التي تسري في الشارع العربي والإسلامي بسبب الهجمة الصهيونية والغربية عليها، وقد تابعنا جزءًا منها في لبنان من خلال حزب الله. وفي العموم هي ظاهرة لا تستحق الإدانة بقدر ما تستحق الترشيد، خاصة أن إنجازاتها في لبنان وفلسطين والعراق كانت كبيرة، فبينما حررت جنوب لبنان وحشرت في فلسطين الدولة العبرية داخل "غيتو" الجدار بصرف النظر عن تداعياته القريبة، أفشلت في العراق المشروع الأميركي الذي كان يستهدف إعادة تشكيل المنطقة.
خلاصة القول، إن فيلم "الطريق إلى بغداد" كان مميزا كما ذهبنا من قبل، سواء أكان لجهة المضمون أم لجهة الحرفية والمستوى الفني في موضوع ليس من السهل الحصول على معادل بصري لحيثياته.
ياسر الزعاترة
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد