الحداثة في شعر ويليس بارنستون

24-03-2008

الحداثة في شعر ويليس بارنستون

يبتكر الشاعر الأميركي ويليس بارنستون قصيدة ميتافيزيقية فريدة في شعر الحداثة اليوم، تقوم على الدّمج الفعّال بين الخطاب الفلسفي والرؤيا الشعرية، وخلق تناغم سلس بين جدلية الفكر وجماليات المجاز. ولعلّ هذا الدرس جاءه من شعراء القرن السابع عشر في إنكلترا (جون دَن، كراشو، هربرت، ومارفل)، الذين اكتشفهم ت.س. إليوت، في بدايات القرن العشرين، وقال فيهم إنّهم يشمّون «الفكرة» كما تُشمّ الزهرة، فعالم المثل بالنسبة لهم يكاد يكون مرئياً وملموساً، ويمكن القبض عليه بواسطة ما سماه الاستعارة الميتافيزيقية (metaphysical conceit)، كأن يشبّه، مثلاً، أندرو مارفل، الرّوحَ بقطرة الندى. وبارنستون سليل شرعي لهذه الحساسية، يستقي أفكاره من الفلسفة اليونانية والأناجيل المقدّسة، ويبحث عن مصادر إلهامه في نصوص دانتي، وخوان دي لا كروز، وماتشادو، وبورخس. هذه الصلة بين الفكر والشعر، يؤكدها الشاعر في اقتباس من بورخس يصدّر به غلاف ديوانه الجديد «أحلمُ بالصّينيةِ»، يقول: «إذا نظرتَ إلى الفلسفة أو اللاهوت بصفتها أدباً خارقاً، ستراهما أكثر رسوخاً من الشّعر. وهل من عملٍ شعري يضاهي في دهشته إله سبينوزا؟».

ولد بارنستون في ولاية مين الأميركية عام 1927، وتلقّى تعليمه في جامعات كولومبيا، والسوربون، وييل. عمل مدرّساً في اليونان، عقب نهاية حربها الأهلية (1949-1951)، وفي الأرجنتين، خلال فترة ما يُسمّى الحرب القذرة. ذهب إلى الصّين إبان الثورة الثقافية، وعمل في جامعة بكين بين عامي 1984 و 1985. شغل كرسي الدراسات المقارنة في جامعة إنديانا الأميركية لسنوات، وشارك في مؤتمرات وندوات أدبية وشعرية. صدر له كتابان بالعربية، ترجمهما صاحب هذه السطور، وهما كتاب مذكّراته في عنوان «بورخس: مساء عادي في بوينس آيرس» عام 2002، ومختارات من قصائده في عنوان «ساعة حياة»، 2003.

احتفل الشاعر بميلاده الثمانين، قبل أيام، كاشفاً عن روح شابة متوثبة، وعطش فاوستي لفك المزيد من شيفرات الكتابة والعالم، هو المسكون بشغف الكشف، المولع بالحروف التي ترقص في المتاهة القصوى للوجود. وأكثر ما يدهشنا في الحوار معه معرفته الموسوعية بآداب الكثير من البلدان، قديمها وحديثها، ومنها الأدب العربي القديم، وخاصة (ألف ليلة وليلة)، حتى ليخيل لنا أنه خارج لتوّه من إحدى قصص بورخس. وشعره يكشفُ عن تأثر عميق ببورخس، خاصة في بحثه الدؤوب عن أسئلة الوجود الكبرى كالحياة والموت والخلود، عبر قصائد فلسفية تستعير روح المناجاة الصوفية (soliloquy)، وتمزجُ المعرفي بالشخصي، والتاريخي بالأسطوري. وبارنستون يستلهم النصوص الغنوصية الصوفية، اليهودية والمسيحية والإسلامية، ويكشف، في الوقت ذاته، عن شغفه الأدبي بأبرز كتّاب القرن العشرين، مثل أكتاوفيو باز وروبرت فروست وجورج سيفريس، وجاك كيرواك، وجون آشبري، وسواهم. فضلاً عن علاقته الفريدة بملهمه الأول، خورخي بورخس، الذي ظلّ صديقاً مقرباً له لأكثر من تسع عشرة سنة.

صدر له حتى الآن خمس عشرة مجموعة شعرية، بدأها عام 1951 بديوان «قصائد للتبادل»، ثم ديوان «من هذه الجزيرة البيضاء» عام 1960، و «وجوهٌ جديدة للصّين» عام 1973، مروراً بديوانه «أبجدية الليل» 1981، الذي رُشّح لجائزة بوليتزر، و «ساعة حياة» عام 2003، وأخيراً ديوانه الجديد «أحلمُ بالصينية»، 2008. كما أنجز كتباً أخرى في النقد والشعر والسيرة والدراسة، وترجم شعراً من اليونان واسبانيا والصين والمانيا، منها ترجمته لقصائد رينير ماريا ريلكه «سوناتات أورفيوس»، 2004، وتقديمه مختارات من قصائد الشاعرة اليونانية سافو في كتابه «قصائد سافو»، 2006، إضافة إلى عمله الفذ في إعادة ترجمة وصوغ كتاب «العهد الجديد» عن اليونانية، بأناجيله الأربعة، وقد ظهر عام 2002، في عنوان (الميثاق الجديد The New Covenant-). أمّا أعماله الشعرية الكاملة فظهرت عام 1999، في عنوان «جَبْرُ اللّيل».

في حديثه عن مجموعته الجديدة «أحلمُ بالصّينية»، يشير بارنستون إلى أنه استفاد كثيراً من مناخات الشاعر الإسباني الكبير سان خوان دي لا كروز (1542-1581) الذي كتب قصائده عن «الليل القاتم للروح» noche oscura del alma، وكان من الشعراء المفضّلين للوركا. ومثل كروز، يرى بارنستون أن الشعر هو وسيلتنا الأمثل للارتقاء بالرّوح، والتحليق فوق ذرىً يصعب وصفها، عبر تسليط الضوء على قلق الإنسان الوجودي، وصراعه المستمرّ مع الحقيقة. في قصيدة «صلاة»، من مجموعته الجديدة، يتجاوز المتكلّم يأسه الراسب عميقاً في نفسه، ويدعو إلى معانقة ضوء داخلي، ينقذ الأنا من خطر الفناء المحدق: «سلامٌ بطيءٌ مثل قمرٍ مكتملٍ،/ ينزلقُ من غيومٍ تشبهُ جوارب صوفية،/ أحتاجُ إليكَ،/ولكن لا تتوهّج سريعاً،/ أنا حرّ، أصارعُ جدريَ الموت،/ وأتمسّكُ بالشّمسِ التي تمشي.» وفي قصيدة «إله» يعودُ الشاعر إلى ينابيع طفولته، ويرى فيها ملجأ يستعيد من خلاله قوة الحلم، متكئاً على جماليات الترجيع الغنائي: «أختاه،/ إنّي أشقّ طريقي./ يا حلمَ اليقظةِ،/ دعنا نذهب إلى مسقط رأسي في «مين»،/ سريري الأوّلُ سروٌ، وطيورٌ زجاجيةٌ،/ وأزلٌ يتلاشى.» هذا الخطاب الوجداني للأخت، رمز الطفولة النائية، يعيدنا إلى اقتباس آخر يستعيره بارنستون من «إنجيل توما» يقول: «أحبّ أختكَ مثل روحِكَ/ واحمِها مثلَ بؤبؤ عينكَ.» وكما نلحظ، يحاول الشاعر أن يبتعد عن النبرة اللاهوتية النافرة، مكتفياً بالغنائية الشجية التي يستقيها من بلاغة «الكتاب المقدس»، ومن إيقاعات المكابدة الروحية في «نشيد الإنشاد». ويتجلى هذا الشجن بوضوح في قصيدة «ضوء داخلي»، التي تلامسُ رؤيا فلسفية عميقة، حيث يحلم المتكلم بتجاوز المتناقضات، والعيش في النور الداخلي للأشياء، عبر ابتكار ضوء لغوي يتخطّى ثنائية الجحيم والفردوس: « أفكّرُ بمعجزةٍ،/ تولد في إفريقيا السّوداء،/ يشتلُ فيها التفكيرُ ضبَابَه الداخليَ/ حول الجنّةِ والجحيمِ،/ بمقدارٍ واحدٍ من الضّوءِ اللّغوي/ الذي سقطتُ في براثِنِه.» وفي قصيدة أخرى يسهب بارنستون في الحديث عن التجلّيات الحسّية لهذا الضوء، الذي ينصهر فيه المرئي باللامرئي: «كنتُ نجمةً/ في صباحِ كتابهِم،/ ذبابةً في الظهيرة،/ وحشاً في صدورِهم،/ ملاكاً بين أضلاعهمِ،/ قبعةً أرجوانيةً./ كنتُ مَلِكاً،/ شمساً، ضفدعةً،/ زنبقةً تزهرُ في الشّتاء.» لكنه ما يفتأ يؤكّد على قوة المحسوس، معبراً عن ابتهاجه بأشياء الطبيعة، ومعترفاً، في إحدى حواراته، بأنّ المرئي هو العتبة الوحيدة التي تقودنا إلى فلك المثل العليا: «أجل، الشاعر يفكّر بواسطة الأشياء، والتي هي أكثر مباشرةً في العقل، والأسهل نقلاً عبر الشعور، والأكثر رشاقة من خطاب الأفكار. لا بأس بالتاريخ الذهني، غير أن كلمة «حب» أقل إقناعاً من لحظة القبلة، وكلمة «جمال» لا تستطيع أن تتطابق مع شكل ورائحة النرجس.» في قصيدة «بوذا الضاحك» يجد الشاعر سلواه في الشيء ذاته، لا ظلّه، وفي الحجر المنحوت، لا صداه، مقاوماً إزميل الفناء، ومواجهاً عقله المنشطر نصفين، أملاً بتخطّي زمانية الزّمن ذاتها: «أحاولُ أن أجدَ حجراً ضاحكاً/، أو بوذا، ليدلّني/ كيف أحمي عقلي من عقلي،/ لأتدفّقَ وأتلاشى/ في ثلوجِ أنابورنا».

وفي زيارة قصيرة قام بها إلى مدنية أوديسا، في أوكراينا، يشير الشاعر إلى أنه أنجز بضع قصائد هناك، وقد ضمّها إلى مجموعته الجديدة: «أنجزتُ قصائد يبدو أنها تحدثُ كلّ يوم، وأضفتها إلى مجموعتي الجديدة (أحلمُ بالصينية)، وبينها القصائد الثلاث الأخيرة التي كتبتها قبل أيام في مدينة أوديسّا، هذه المدينة القديمة الرائعة، التي يعود بناؤها إلى القرن السابع قبل الميلاد، حيث كانت مستوطنة إغريقية على الساحل الشمالي للبحر الأسود، لكنها تبدو اليوم مسلوبة الروح.» في قصيدة «مدير الحلم» يستلهم بارنستون أجواء هذه المدينة القديمة، ويتحدّث عن أحد أشهر كتّابها، وهو الكاتب الرّوسي المنشق إسحق بابل (1894-1940)، الذي أُعدِم في سجنه، رمياً بالرصاص، بتهمة التجسّس. ويعبر بارنستون عن صدمته للمصير المأساوي الذي لحق ببابل، فيكتب مرثية يتبادل فيها الأدوار معه: «كينونتي مصبوبةٌ من فولاذ،/ لكنني أنهارُ،/ أمام إسحق بابل، في الرّابعة بعد الظهر.» وكان بابل قد التقى الكاتب الشهير مكــسيم غوركي عام 1936، وقدّم له هذا الأخير الرعاية والحماية، بعد أن اكتشف موهبته الكبيرة. ويرى بارنستون أنه كان بإمكان بابل أن يترك الاتحاد السوفيتي، وينجو بجلده، لكنه، فضّل أن يواجهَ قدرَه، مثل أخماتوفا، وباسترناك، وماندلستام، وتسفيتيفا، عاقداً صفقته مع الموت: «غابَ صبي أوديسّا المقتول برصاصة،/عقدَ صفقتَه مع الموت،/ وأنتَ عقدتَ صفقتكَ مع الحلم.» ونرى كيف أن الشاعر يهرب من حتمية التاريخ أو الموت، ويلتجأ إلى وهم الحلم أو القصيدة، في محاولة لتخطّي قانون السّقوط الأول، وتجاوز الزّمانية ذاتها: «السّماءُ تهوي! أعودُ إلى الأرض/ أحتاجُ الحلمَ كحذاءٍ أمشي به العالم».

وللإبقاء على حلم القصيدة، شفافاً ومضيئاً، يعترف بارنستون بأنه يعتمد شعرية الدفقة الأولى، المعززّة بمهارة الصّنعة، إذ أن كتابته «سريعة وخاطفة. وكما لدى ريلكة وموزارت، تأتيكَ الومضةُ أولاً، ومن ثمّ التداعي والتذكّر. أصبحُ عندها ناسخاً، ورّاقاً، أسجّل ما يُملى عليّ. هذا لا يعني أنني لا أصفّي أو ألمّع العمل. أحياناً أبقى أسبوعاً بحاله عالقاً عند بيت شعري واحد.» والحق أنّ ميزة التدفّق السمفوني هذه تبهرنا ببريقها، لكنها لا تخفي مهارة الصّقل أيضاً، فالشاعر يبتكر قصيدةً طيفية، ميتافيزيقية، تعرف كيف تمزجُ الحسّي بالرّوحي، والفكر بالشعر، فيتناغم الهاجسان وينصهران، انصهارَ العطر بالوردة.

عابد اسماعيل

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...