«سلاح» الاقتصاد بديل أخير عن التدخل العسكري في سوريا؟
... ربما لأن السلاح الاقتصادي هو أقصى ما يمكن أن يشهره المجتمع الدولي ضدّ سوريا بعد أن أقرّ باستبعاده الخيار العسكري كـ«مغامرة محكومة بالفشل»، فيما بدا وكأنه استنفد كل جهوده وضغوطه الدبلوماسية لحلّ الأزمة.. ولأن أصوات غربية علت مؤخراً لطرح «خطط اقتصادية ضاغطة» تشكّل «السلاح الأنجع ضدّ دمشق»، كما وصفها السير مالكوم ريفكند الذي كان وزيراً سابقاً للدفاع ثم للخارجية في بريطانيا في مقاله في «الدايلي تلغراف» الأسبوع الماضي.. ولأن الحديث تجدّد عن فرض عقوبات إضافية أو تشديد عقوبات مفروضة بعيداً عن أي نقاش جدي حول فعالية هكذا إجراءات يؤكد سجلها بأنها «تضرّ الشعب أكثر مما تنفعه».. باتت مناقشة الفرضية التالية أكثر إلحاحاً: هل أصبح السلاح الاقتصادي البديل الوحيد عن التدخل العسكري لتغيير النظام في سوريا؟
ليست الإجابة عن سؤال بحجم الأزمة السورية مهمة سهلة، فالأخيرة مفتوحة على جميع الاحتمالات ولا يمكن لأحد ادعاء «فخر» التكهن بخواتيمها ولا بتداعياتها. في الجانب الاقتصادي قد يفترض البعض أن الأرقام والمعادلات قد تسعفه في الحكم أكثر من السياسة فيقول إن تدهور الاقتصاد السوري بفعل الضغوط الخارجية والداخلية وتراجع سعر صرف العملة والشلل المصرفي والاستثماري والسياحي نتيجته واحدة: نعم النظام لن يصمد أمام انهيار اقتصاده. ولكن في المقابل يسارع كثيرون للتأكيد بأن الاقتصاد السوري ما زال في دائرة الأمان وإن كانوا يقرون بصعوبة التحقق من الأمر لعدم شفافية المؤسسات الرسمية السورية فيبقى جوابهم على فعالية الاقتصاد كبديل عن العسكر: كلا، ولكن ربما قد.. أما جواب الجهات الرسمية فما زال حاسماً: الاقتصاد يتعرّض لضغوط صحيح، ولكنه سيتخطى الأزمة بفضل مقومات تميّزه كعدم الانكشاف والقيود التي يفرضها على الاستثمارات الأجنبية...كما بفضل الدعم الروسي الإيراني له حتى النهاية.
وعلى اختلاف تكهنات المستقبل، لا ينكر أحد أن الاقتصاد السوري في أزمة، المتضرّر الأكبر منها هو الشعب السوري الذي يرزح حالياً تحت وطأة ارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة ونقص السلع الأساسية، بما في ذلك الأدوية، ناهيك عن تسريح العمال بأعداد كبيرة وانقطاع التيار الكهربائي بين 4 و 10 ساعات يومياً في شتاء سوري قارس...
وتشكو إحدى السيدات في سوريا تضاعف أسعار السلع، وتركز شكواها على احتكار التجار، حليب الأطفال مثلاَ، مشيرة في السياق إلى أن المواد المستوردة من الخارج قد تضاعف سعرها مرتين، أما الرواتب كما أشارت السيدة فلم تعد تقبض بالعملة الصعبة، وحتى التحويلات من الخارج. في وقت تشير تقارير إلى توقف مئات الورشات وإغلاق عشرات المصانع، وإلى ارتفاع معدلات البطالة، التي كانت تقدر بـ 15 في المئة، إلى 25 أو 30 في المائة خلال الأزمة، وإلى تراجع القدرة الشرائية بنحو 25 -30 في المئة، قابلها ظهور حركة نشيطة لتبديل المدخرات بالذهب أو بالعملات الصعبة مما تسبب كثيرا في ارتفاع أسعار هذه الأخيرة. وعلى خط مواز نمت ظاهرة التهرب الضريبي، والفساد والامتناع عن تسديد قيمة فواتير الكهرباء.
ما سبق يؤكده المراقب الاقتصادي جهاد يازجي متحدثاً عن «وضع اقتصادي سيء من كل النواحي، انخفاض في الاستثمارات، نقص في الغاز والمازوت، تدهور سعر صرف العملة (70 في السوق الحرّ و58 في السوق الرسمي)، والأسوأ ما سببته العقوبات التي دخلت حيز التنفيذ في شهر تشرين الثاني حيث توقف شراء النفط السوري بنسبة 90 في المئة، ما أثر على دخل الدولة بالعملة الأجنــبية بشكل مباشــر، علماً أنه في العام 2010 شكلت صادرات النفـط نصف مجــمل الصــادرات بالقيمة السورية.
هذا الوضع لا يمنع يازجي من أن يجزم بعدم إمكانية الحديث عن انهيار حقيقي للاقتصاد، فـ«عندما نقول انهيارا، نقصد حصول هبوط هائل في سعر العملة حتى حدود 100 في المئة أو 150 في المئة». ويضيف «يبقى أنه لا يمكن تحديد مدى تأثير الضغط الاقتصادي على النظام، بسبب شحّ الأرقام الرسمية حيث لا نعرف مثلا حجم احتياط العملات الأجنبية لدى الدولة لتقدير الوضع الحقيقي».
استبعاد فرضية الانهيار يؤكده مراقب اقتصادي آخر، رفض الكشف عن اسمه، مشيراً إلى أن «الاقتصاد يتآكل». يشرح المصدر في حديثه عن تخبط واضح في سياسة الحكومة النقدية والمالية نتيجة الضغوط التي تمارس عليها.. هناك شحّ بالسيولة لدى المصارف وضعف في التحصيل من قبل المنشآت، وتراجع في عمليات الاستيراد والتصدير.
ويركز المراقب الاقتصادي على الجانب المصرفي والنقدي كونه «يشكل عنصراً حاسماً في مستقبل الاقتصاد»، موضحاً إلى أي حدّ تضرر الشارع السوري نتيجة توقف العجلة الاقتصادية وتوقف عمليات التسليف في المصارف بشكل شبه كامل (الأغلبية أوقفت 100 في المئة في حين أن البعض وضع قيودا بحدود 80 في المئة وبقيت التسليفات محصورة بفئة محدودة جدا).
ويضيف «العملة السورية في وضع حرج، لقد تدهور سعر صرف الليرة بمعدل النصف مقابل الدولار من 47 في بداية الأزمة إلى 73 في هذه المرحلة، مع الإشارة إلى أن موضوع العملة، كما الاقتصاد ككل، مرتبط بعوامل نفسية أيضاً»، مشيرا إلى أنه ليس بالإمكان تكوين صورة واضحة عن وضع المصارف الحكومية كونها لا تخضع لآليات التدقيق العالمية، فهي كالصندوق الأسود. وفيما اعتبر أن وضعاً اقتصادياً مماثلا يمكن أن يشكل ورقة ضغط قوية، استبعد كلياً أن تكون ورقة كافية لتغيير النظام.
الخبير الاقتصادي والمالي منذر خدام يؤكد من جهته أن «التجربة تثبت أن الحصار الاقتصادي لم يسقط نظاماً، فصدام حسين استمر في السلطة لسنوات رغم الحصار الاقتصادي الخانق عليه». سلاح العقوبات يتسبب بمعاناة الشعب السوري ليس أكثر، إنه «ذر رماد في الأعين لمداراة عجز المجتمع الدولي الذي يلعب بالنار»، على حدّ قول يازجي الذي شرح أن «الغرب يحسب انه إذا أوقف الصادرات النفطية سيؤثر بشكل مباشر على الدولة كون مداخيل النفط تدخل مباشرة الى خزينة الدولة، ولكنه ينسى أو يتناسى أن البنية التحتية للدولة والمستشفيات ومعاشات الموظفين وغيرها تمولها خزينة الدولة».
يطمئن خدام إلى أن «الاقتصاد السوري لا يزال بعيدا عن الانهيار، فلا تزال الحكومة تملك احتياطات كبيرة نسبيا من العملات الصعبة تقارب 17 مليار دولار، ولدى الدولة احتياطات كبيرة من المواد الغذائية، إضافة إلى أن الحصار الاقتصادي على سوريا ليس كاملاً. فهناك خط مفتوح مع إيران عبر العراق، إضافة إلى التعاون الروسي والصيني». ورغم ذلك يقول خدام إن الاقتصاد «لم يكن، من حيث الأساس، في وضع جيد قبل اندلاع انتفاضة الشعب السوري ضد النظام، فالرهانات التي كانت تعقدها الحكومة على الخطة الخماسية العاشرة لم تكن في محلها، وتبخرت بالتالي جميع الآمال التي كانت معقودة على ما سمي بالإصلاح الاقتصادي والإداري. فحصيلة النمو الاقتصادي في نهاية سنوات الخطة لم تصل إلى أكثر من 3.5 في المئة بدلا من 7 في المئة التي كانت تطمح للوصول إليها. لقد أكل الفساد والهدر نسبة كبيرة من الأموال الكبيرة التي رصدت للخطة والبالغة نحو 1800 مليار ليرة سورية، وهذا ما أشار إليه الرئيس في خطابه الثاني الذي ألقاه أمام الحكومة».
في الوقت الراهن، والكلام لخدام، يعاني الاقتصاد من مشاكل كبيرة، فتوقف الاستثمار بصورة تكاد تكون تامة، وهربت كثير من رؤوس الأموال إلى الخارج خصوصا تلك العائدة للمسؤولين وحاشية السلطة. تأثر كثيرا قطاع النفط نتيجة للعقوبات المفروضة على سورية فتراجع إنتاج النفط بمقدار الثلث بحسب وزير النفط، وبالتالي تراجعت العائدات من العملة الصعبة. توقف قطاع السياحة تماما، وتأثرت بالتالي جميع النشاطات الاقتصادية المرتبطة به. تأثر بالأزمة كثيرا قطاع التجارة فتراجع التبادل التجاري الخارجي بنحو 40 في المئة. وفي المقابل «ثمة تخبط وحيرة في كيفية إعادة سيطرة الدولة على النشاط الاقتصادي، انعكست على قرارات الحكومة الاقتصادية. وبسبب النزاعات المسلحة وقطع الطرق صارت كثير من المدن السورية عبارة عن جزر معزولة».
الأزمة من منظار لبناني - عربي
يحتفظ الباحث الاقتصادي اللبناني كمال حمدان عند حديثه برؤية إيجابيّة نسبيا للأزمة الاقتصادية السورية سببها أن درجة انكشاف الاقتصاد السوري على المبادرات الخارجية وحركة رؤوس الأموال محدودة، على الرغم من ازدياد رؤوس الأموال الخليجية وارتفاع حجم الاستيراد مع سياسة الانفتاح التي اعتمدها نظام الأسد بعد العام 2003».
قد تكون فرملة الاستيراد من الخارج، برأي حمدان، فرصة لتنمية الصناعات المحلية التي ضُربت بعد الاتفاق الصناعي مع تركيا، فـ«مع فرملة المبادلات مع تركيا، سنشهد تطورا للصناعة في ريف دمشق وحلب اللتين تشكلان 60 في المئة من إجمالي المؤسسات الصناعية في سوريا».
نقطة إيجابية أخرى يراها حمدان «بعد 3 سنوات من الجفاف في سوريا، فإن الموسم الزراعي جيد حيث تحققت السنة مواسم زراعية عظيمة، ما يعني حماية من الابتزاز الغذائي والتجويع»، كما أن فكرة «التركيع» بموضوع النفط تمّ استبعادها بعد الترتيبات مع روسيا وإيران وأميركا اللاتينية.
لا ينفي الباحث الاقتصادي عمق الأزمة وتبعاتها، ويؤكد على أن الناتج المحلي سوف ينخفض «في حين كان من المتوقع أن ينمى إلى 5 في المئة حسب أهداف الخطة الخمسية الحادية عشرة»، لكن ذلك لا يعني أن الاقتصاد قد يصبح حاسما في الأزمة السورية فـ«عندما نتحدث عن بديل اقتصادي فإننا نتحدث عن عملية تجويع، وعدا ذلك أستبعد هذا الخيار ففي لبنان وصل النمو الى ( - 1 ) في المئة في العام 2005 لكننا لم نصل الى الجوع».
ولكن أين يلعب الاقتصاد دور المحدّد؟، يجيب حمدان «عندما تصل أزمة التراجع الى درجة تجعل فئات من الطبقة الوسطى ورجال الأعمال أكبر فأكبر تقتنع أن النظام لم يعد يوفّر مصالحها، فتقلب تحالفاتها وتنضمّ إلى المعارضة.
وماذا عن لبنان؟ كيف يؤثر في هذه الأزمة وكيف يتأثر؟ برأي حمدان «إن علاقات لبنان مع سوريا تاريخياً كانت تحتكم إلى اللامنطق الاقتصادي، التجارة غير النظامية تكاد تكون بحجم المبادلات النظامية». ومع ذلك لم يشكل لبنان في أي فترة حلقة أساسية في الاقتصاد السوري على عكس العراق الذي يشكل دور الرافعة في الأزمة (عشائر واحدة، حدود طويلة، وجميل سوري سابق يودّ العراق ردّه في هذه الأزمة).
بدوره، يؤكد الخبير الاقتصادي لويس حبيقة أن لبنان متأثر بالأزمة من دون شك، النمو في العام 2011 كان 1 في المئة خلال السنة كلها علما أننا بدأنا السنة بنمو 5 أو 6 في المئة.
وعن وضع المصارف اللبنانية الخاصة في سوريا، والتي يبلغ عددها ستة هي «فرنسبنك» و«بلوم» و«اللبناني الفرنسي» و«بيمو» و«عودة» و«بيبلوس»، يقول حبيقة «إنه ضعيف يتجه للخسارة»، مستدركاً بأن الخسارة ستكون «نوعية وليست كمية»، فـ«حتى لو أفلست المصارف لن تؤثر كثــيرا على لبنان فهي تشكل 5 في المئة من أصول المصارف اللبنانية، وكذلك على سوريا حيث المصارف الكبيرة تابعة للدولة، إذ يمنع قانون المصــارف السوري البنوك من التوســع عشــوائياً». والجدير بالذكر أنه قد تمّ تكبيل المصــارف الخاصة عبر القانون المصـــــرفي الذي قضى بزيادة 250 مليــون دولار لرأسمال المصرف المستثمر بعد أن كان 50 مليون دولار.
هيفاء زعيتر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد