تأملات في الظاهرة الكلبية
(( 1 ))
منذ فجر الاستقلال، مع خروج طلائع الأجيال الشابة إلى الحياة العملية عرفت الأوساط الأدبية والسياسية شابا شديد الحماسة اتخذ من الأدب وسيلة للنضال من أجل ما يتقد أنه الحق. كان هذا الشاب يدعى صدقي إسماعيل، من مواليد لواء الاسكندرون وممن حملوا منذ نعومة أظفارهم هموم الوطن الكبير.
تميز صدقي إسماعيل بمقدة فذة على النقد الساخر اللاذع، الذي يتفوق على الجد في أكثر الأحيان، لا بل أنه الجد كله عندما يصبح الواقع مهزلة تبكي ولا تضحك.
ولما كان الجو الاجتماعي في ذلك الوقت أسير الجمود الذي ساد فترة الانتداب، وكان التعبير يدور ضمن إطار الأشكال التقليدية، ومع أن صدقي كان يكتب المقالة والمسرحية والقصة، إلا أنها كلها لم ترض نزوعه العجيب إلى الرسم (الكاريكاتوري) بالكلمات، وبالشعر الموزون المقفى على وجه التحديد وهكذا ضمن هذه الأطر الصلبة فجر صدقي ثورة في التعبير عندنا أنشأ جريدته غير المعروفة – الكلب – في مطلع الخمسينات..
- الكلب – ليست جريدة بالمعنى التقليدي، أي أنها لم تطبع إلا مرة واحدة في عام 1969 أي بعد عشرين عاماً من بدء (صدورها). وما كانت تصدر في مواعيد منتظمة، بل كلما التقط رئيس تحريرها حادثة ما فأعمل فيها قلمه البارع كان صدقي يكتب العدد بخط يده فيتوزعه (القراء) من الأصدقاء الأقربين وكثيراً ما كان العدد يختفي لدى أحدهم. الذي يضن به ولا يعترف بوجوده لديه. وهكذا ضاعت قصائد ثمينة لأن من الحب ما قتل.. وسرعان ما أصبح الكلب ظاهرة فريدة في الأدب السياسي والاجتماعي، وذلك أن الرؤيا الواضحة التي كان يتحلى بها رئيس التحرير، جعلت من جريدته مرصداً فريداً للأحداث الأدبية والسياسية والاجتماعة ليس في سورية وحدها وفي الوطن العربي، بل أنه تجاوز حدود الوطن الكبير ليسجل أهم الأحداث التي شهدها العالم بين بداية الخمسينات وبداية السبعينات من هذا القرن كان الناس يشهدون للأحداث أو عليها من زاوية، أما جريدة الكلب فكانت زاويتها الخاصة الفريدة في نوعها واستمرت شاهداً على هذا العصر يندر له مثيل. ولما كان الكلب (محدود التوزيع) فلا يسعنا أن نقيم موقف الجمهور منه. أما حكم الخاصة من المطلعين عليه فهو معروف بوضوح ولدينا عليه شواهد كثيرة وهي كلها تعتبره نمةوذجا فريدا في العربية. يعض الآراء كانت تقول أن مثل هذا الشعر لن يدوم ولن يبقى للتاريخ، ومع مخالفتي الجازمة لهذا الافتراض إلا أنني لن أتعرض له بالمناقشة الآن على الأقل..
لقد أتيحت لي مؤخراً فرصة الاطلاع على مجموعة كبيرة من أعداد الكلاب هذه الجريدة التي لم تتحدث عنها الجرائد إلا حديثين أو ثلاثة، خلال ربع قرن ومع أن الوقت لم يحن بعد للحديث المفصل عن هذا الجزء من التراث الأدبي الحديث، إلا أنني لم أستطع مقاومة الرغبة التي سيطرت علىي لتعريف الجمهور على بعض ملامح هذا الأثر الشعري الفريد وهكذا فإنني سأبدأ محاولة صعبة لرسم لوحة متفرقة لريشة تتعمد عدم اسكمال للوحة لألف سبب...
لست على ثقة من أن أحداً يعرف متى بدأ صدقي إسماعيل بنظم هذا النوع من الشعر لساخر، ذلك أن نزوعه إلى لشعر تجلى منذ حداثته وعندي شواهد نادرة لم تنشر من أشعاره (الرصينة) وهو يافع أما ول – الوثائق – التي بين يدي من شعره – الكلبي – فتعود إلى نهاية عام 1950، وهي قصيدة في أكثر من مئة وعشرة أبيات عنوانها (ملحمة العام لسنة 1951) وهي من البحر – الطويل – مقسمة إلى فقرات تعالج كل منها موضوعاً منفرداً والملحمة تبدأ بمناجاة الأطلال وذم الزمان، مثلها مثل أية معلقة جاهلية ثم تنتقل إلى الغزل والنسيب. ويفرد فيها لشاعر قسماً خاصاً بعنوان – أنا وغرفتي – وينتقل بعد ذلك إلى الفخر وذكر الأخوان ثم يقف الشاعر ليلقي (نظرة إلى الأوضاع العامة) قبل لأن يختتم الملحمة بأبيات اختلطت فيها الحماسة بالسخرية المرة.
الملحمة تبدأ كما قلنا بمناجاة الأطلال وذم الزمان وفي ذلك يقول صدقي:
أناتك أن الصخر لا يتكلم
فلا تشك للجدران ما أنت تكتم
تسير وفي صمت الشوارع هدأة
وليل عميق لا يزول وأنجم
وتحلم بالسلوان والعيش شره
إذا كان سلطانا عليه التوهم
اتنكر لليل البهيم قتامه
وقلبك من فرط الشكاية أقتم
تحمل شقاء الرض ان كنت صادقا
قبعض جراح القلب للقلب بلسم
هي النار لولا الريح تعصف حولها
لما كنت تلقاها تشب وتضرم
ولولا المآسي في الحياة وعضها
لما عرف الإنسان كيف التنعم
اتشكو الظمأ والنبع حولك دافق
وكل فجاج الأرض غصن مبرعم
فراديس من نعمى الوجود تظلنا
وتمنحنا فوق الذي نحن نحلم
هي الأرض أعطتنا الحياة سخية
أنهجرها والقلب بالحب مفعم
ومن التأرجح بين التشاؤم والتفاؤل ينتقل صدقي إلى الغزل والنسيب، وسرعان ما تليها الكبمات الساخرة بالظهور تليها أبيات كاملة من السخرية اللاذعة المغموسة بعاطفة شفافة:
وكم قصة للحب عاشت هنيهة
بقلبي وقلبي هادىء يتبسم
يريق على صفو الحياة ومرها
ينابيع من لذاته ليس (تنضم)
سمراء كالطفل الوديع عشقتها
وآلمني منها الجفا والتجهم
أجد وتلهو والعذاب محالفي
وأحنو عليها وهي رعناء تحجم
أحدثها شيئا وتفهم غيره
فيا لي من محبوبة ليس تفهم
تعيش بأفكاري ويعشقها دمي
وهل ينكر الإنسان ما يعشق الدم
وكل غرامي أنها ليس غيرها
شبيها بها أني بذلك أقسم
فلا هي كالأخرى لتي كان حبها
سريعا كما يلغى قرار ويحسم
لها سمرة كالخمر طال اختزانها
وطعم خلود إذ تضم وتلثم
ولا عيب فيها غير أن اضطرابها
كثير وبعض الاضطراب مذمم
موزعة الأنظار دوما كأنها
تغازل كل الناس حين تسلم
وما هي إلا شعلة جن وقدها
وأطفأها نوع من الشك مبهم
أكل نساء الأرض أو هي من الهوى
أكل قلوب الغيد نهب مقسم
ومن الغزل ينتقل شاعرنا إلى الفخر محافظاً على سلاسة النظم وعذوبة الإيقاع وعلى هذا لمزج السهل الممتنع بين الاجد والهزل..
أنا الشارد النشوان مالي من الدنى
سوى شارع خال وصمت يغمغم
صديقي كناس و – كرسون – قهوة
وطفل صغير باللغى يتلعثم
أمتع روحي بالطبيعة أن صفت
وبالسحب الكدراء حين تغيم
ويأسرني شوق إلى السر جارف
يحدثني عنه الجمال فأفحم
أجن بوجه فاتن وبنظرة
ويأسرني خصر جميل ومعصم
(وأركيلتي) خير الصحاب عشية
وخير أحباي السكون المخيم
وأسمع صوت السرمدية في الدجى
بأعذب ألحان الهوى تترنم
فقير كشعبي ثائر الروح مثله
يسير بنفسي أن أموت ويسلم
وحلو كأس الشاي للصحب دائما
مريرٌ على الباغي كأني علقم
ونفسك أكرمها فإنك ان تهن
عليك فما شخص لها قط يكرم
أهنالك حاجة للتوقف عند الأبيات لمضيئة التي نتمناهما أكثر القصائد جدية والتزاما، أم الأفضل أن نتركها لبديهة القارىء ونمر مرور الكرام على البيات التي خصصها الشاعر للأوضاع العامة في البلاد ولم يقتصر فيها على الأوضاع الداخلية التي كانت سائدة في لك العام – 1950 – بل انها نظرة شاملة على الوطن العربي يلخص كل بيت فيها وضع قطر من أقطار العروبة كما هو في الواقع.. وعندما يصل صدقي إلى خاتمة ملحمة العام نراه يستشف المسقبل بتفاؤل وإيمان بالشعب غير أن الروح الساخرة النقادة لا تستطيع إلانزواء فتطل علينا في البيت الأخير بكلمتين ولا أروع..
رويدا صديقي أن شعبا كشعبنا
لأعظَم شأنا وهو شقيان معدم
نبارك فيه ثورة ذر قرنها
تزلزل عرش الحاكمين وتهدم
جماهير تنسى الثأر من مستغلها
جماهير فيها الحقد دوما مجسم
لنا مشعل يضوي وسيف مخضب
ومستقبل كالورد والله أعلم "غ"