استرجاع «سايكس ـ بيكو»

07-09-2012

استرجاع «سايكس ـ بيكو»

تقرأ الوثيقة عدة مرات، في الأولى، حين يكون العابر أسير «الوقائع»، وفي الثانية حين يكون الباحث سجين المنهج. وبعدها، حين تطفو جثث الأحداث المتفسخة على سطح نظرية المؤامرة والحبكة المرفوضة دائما في سجل النشاط الانساني وهو في ذروة الجشع واستغلال الناس وامتصاص دماء الشعوب.
كانت سايكس ـ بيكو حصيلة مبادرة الجشع الفرنسي الذي تطابق مع الأطماع البريطانية منذ بداية التقهقر العثماني في أوروبا في العام 1683 حين انسحبت السلطنة من بودابست. وبعد قرن من الزمان يمكن فحص الخلاف بين «الحث» الاوروبي وهو ينظر نحو العالم الذي «يستحق الاحتلال» بنظرة أحادية «المراقب»، ومستقلة نوعا ما عما يجري من أحداث فيه. بينما تنظر الولايات المتحدة الآن وهي تريد الاندماج فيه من أجل تغييره لمصلحة السياق الاقتصادي السياسي للعولمة.
في رسالته الفريدة، كتب رئيس الوزراء البريطاني «بالمرستون» في عام 1840، مؤتمر لندن للدفاع عن السلطنة العثمانية بوجه طموحات «محمد علي»، أن حكومة جلالة الملكة قد أعلنت أن تعتبر «سوريا» بكونها المفتاح العسكري «لتركيا الآسيوية»، وقد علق «دزرائيلي» على هذه الرسالة بأن «لبنان» مفتاح سوريا وان الصبر البريطاني من طراز خاص. فقد انتظرت الامبراطورية البريطانية فترة طويلة لتقرر «تقسيم وتقاسم» ممتلكات «السلطنة» بين الظافرين في حروب النفط والملكيات العقارية الاحتلالية. وما سهل عليها ذلك أيضا، هو «الاصلاحات» التي قام بها «الباب العالي»، وكانت من النتائج المباشرة للاعلان الدستوري في العام 1908، هو انتقال ملكية أراضي «السلطان» إلى «الدولة» وضمنها الأراضي التي فيها «نفط» وخاصة ولاية «الموصل» ومنطقة «كركوك» في العراق.
ويكتب «ديفيد فرومكين»: إن الدولة التي ستحل محل الامبراطورية العثمانية في السيطرة على «الشرق الأوسط» هي التي ستكون أهم المحركات الدافعة لحركة التاريخ، وإن إعادة احتلال العالم و«تقسيمه وتقاسمه» بالضرورة هي إعادة توزيع فائض الانتاج والسلع الأساسية ومنها الأفكار ورأس المال والسلاح والنفط! ولقد لخص الكولونيل البلجيكي «بولص» من البعثة البلجيكية التابعة «لعــصبة الأمم» 1925، في حديثه إلى وزير المالية العراقي «ساسون حسقيل»، وذلك من أجل الاستفتاء على «ولاية الموصل»: «إن أي من طرفي النزاع على الحدود، تركيا والعراق، والذي يكون الأول في منح امتياز النفط لشركة «النفط التركية، لاحقا شركة نفط العراق» هو الذي سينال «ولاية الموصل». ويلخص الفكرة هذه بكثافة منقطعة النظير «نابليون النفط» ـ «هنري ديتردنك» «إن النفط من أعظم بضائع السوق العالمي غرابة، إذ لا يعوق بيعه غير إنتاجه، فليس في العالم بضاعة أخرى تستطيع أن تضمن استهلاكها ما دمت تنتجها وما عليك في تجارة النفط، غير أن تنتج أولا ومن ثم يأتيك الاستهلاك، ولن تضطر في بيع النفط إلى التعاقد سلفا، لأنه يبيع نفسه بنفسه».
كانت فرنسا تسمي في خرائطها الخاصة منطقة «الشرق الأوسط»، «ممالك الشرق الفرنسية» ـ (جوزف حجار). وكانت تعتقد أنها صاحبة «الارث» التاريخي فيها. وأنها «سياسيا» ومنذ العام 1856 كانت المهيمنة على مقدرات السلطنة العثمانية «الفكرية» ونخبها البيروقراطية. وكانت تتعامل مع الحدود في «المشرق» على طريقة المثل الشهير، «إن الحدود مثل جلد الغزال تنكمش إذا ضعف الغزال وتتوسع إذا كان بصحة جيدة. وهي لا بد لها أن تسارع إلى تصفية «الأضرار» التي لحقت بها. بعد أن تحول الصراع الاوروبي ـ العثماني من اوروبا ـ الاستانة إلى بلاد الشام. وكانت حريصة جدا على بقاء هذه البلاد مندمجة وموحدة، في بداية مفاوضاتها مع بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى. وحين اصطدمت بالمطاليب البريطانية، بدأت في الحال رحلة «محو الذات» في مجرى المناقشات في الغرف المغلقة. والعملية تشمل وجهين: «محو الذات» الاقليمية لشعوب المنطقة و«محو الذات» الاستعمارية بالتوصل مع بريطانيا إلى صفقة عقارية قذرة.
وقد لخص وزير الحرب البريطاني «اللورد كيتشنر» الموقف الامبراطوري من وجهة نظر حكومته كما يلي: «إن السلطات العسكرية البريطانية تتطلع إلى الوقت الذي سيصبح المجال السوري في نواحيه السياسية والعسكرية، جبهة أو خط دفاع، هو الأمثل للمجال والأمن المصري». هنا تأكد أن الجغرافية السياسية ليست «منقلة فحم» فلاحية، بل هي بركان هائل من المصالح والطموحات والهويات. إن رحى الحرب الحقيقية كانت تدور حول الأراضي التي فيها «نفط». وإن الصراع البريطاني ـ الاوروبي من جهة ومع الولايات المتحدة، التي دخلت الحرب متأخرة ودائما متأخرة، من الجهة الأخرى، كان قد وصل إلى الذروة في مسألة «ولاية الموصل» وحين طرح السؤال من يقرر «التطابق المدهش» بين المصالح النفطية الاستعمارية والحقوق المشروعة لشعوب المنطقة في تقرير مصيرها السياسي والتاريخي، وحين انعقد بعدها مؤتمر «النفط» في العام 1918 قال هنري بيرانجه «ممثل» حكومة فرنسا: إن «النصر الذي فزنا به ما كان ليتحقق لولا دم آخر هو «دم الأرض» الذي نسميه النفط».
تعتبر «الاتفاقية» في روحها الحقيــقية نتاج «السردية» الفرنســية في كتابة التقارير، وتحديدا دور «بيكو» في صياغتــها، في 3 كانون الثاني 1916، وفيه يستشهد بأقوال المستشرقين بأنه يتعذر، ردا على الإصرار البريطاني المنافق، إقامة «دولة عربية مركزية» لأنها لا تنسجم مع «طبيعة» العبقرية الوطنية العربية، وعليه فالامارات والممالك الصغيرة وحتى «المشيخات» هو المآل المفروض من طبيعة قوة الأشياء في الصراع الجاري. وكانت فرنسا مصرة، أمام العناد البريطاني، على أن تكون «متصرفية» القدس جزءاً من ملكيتها القادمة، من هنا جاءت الرغبات البريطانية في إجراء تعديلات جوهرية على «الاتفاقية» على ضوء نقاط ثلاث وبالترتيب المادي الملموس: التخلص من «المسألة اليهودية» في أوروبا، ضمان تدفق «النفط» في الشرايين الاقتصادية الاستراتيحية، وإنجاز الرغبات «الوطنية» لشعوب المنطقة. فالتـعديل الأول حصل في وعد بلفور 1917 حول الوطن «اليهودي» في جنوب سوريا ـ فلسطين، والتعديل الثاني جرى في إعادة «ولاية الموصل» إلى العراق وتعويض فرنسا «نفطيا» في شركة «نفط العراق» 1925، والتعديل الثالث تحقق في إقامة إمارة «شرق الأردن» العام 1921 قبل ضمها إلى الانتداب البريطاني عام 1922 ضمن قرارات «عصبة الأمم»، حيث يقول الخبير الفلسطيني المخضرم «موسى المزاوي» إنه كان «التقسيم» الأول لفلسطين التاريخية.
لقد كان «واضحا وفاضحا» السلوك البريطاني في السفر التاريخي «يقظة العرب» لجورج انطونيوس حين كانت بريطانيا، بقيادة مكماهون، تفاوض «الشريف حسين» على إنشاء الدولة العربية في الوقت الذي فيه تخوض مفاوضاتها حول «الاتفاقية» مع فرنسا أولا وروسيا «القيصرية» ثانيا. وإذا كان «الشريف حسين» قد اكتفى بالوعود البريطانية وأعلن «ثورته» في حزيران 1916، بعد توقيع الاتفاقية، فإن «أمير نجد» كان يتعامل مع بريطانيا تعاقدياً، وأصبح «عبدالله فيليبي»، الجمهوري النزعة في العراق، هو الذي يدير العقود البريطانية والضابط «شكسبير» يرسم الخطوط القادمة على رمال الصحراء.
إن «الوقائع» العنيدة في القراءة الأولى تجزم بأن «الاتفاقية» كانت قد حررت من وراء ظهر الولايات المتحدة الاميركية، وإن الرئيس الاميركي «وودرو ويلسون» كان المغدور الأول، حسب تعبير سيغموند فرويد في دراسته الفذة حوله، إذ كان مشغولا بأهمية «النقاط الـ14» حول تقرير مصير الشعوب «العثمانية»، ولم يلتقط «البرقيات» التي كان «آل روكفلر» يبعثون بها حول المصالح «النفطية» الاميركية، وتحديدا شركة «ستاندرد اويل ـ لاحقا اكسون موبيل» ـ وقد طالب «ويلسون» في مؤتمر 1919 في باريس، بأن تصبح «بلاد الرافدين ـ الشام» دولة واحدة ويجب رعايتها في ظل نظام أو انتداب واحد، تحت إشراف «عصبة الأمم». وكان دليله في ذلك «بروتوكول دمشق» المعقود في العام 1915، وكذلك «عريضة» الأمير «فيصل» المقدمة إلى المؤتمر المذكور. وقد تأكدت نتائج «مطاليبه وضغوطاته» لاحقا في تقرير لجنة «كينغ ـ كرين» الاميركية في عام 1920. ولكن السيف الاوروبي كان قد سبق العذل الاميركي!
بيد أن الاعتراضات «الاميركية» الحقيقية كانت منصبة أساسا على نتائج اتفاقية سان ريمو «النفطية» 1920 حيث تم التقاسم الاوروبي لنفط المنطقة. اعترضت أميركا باعتبار ذلك مخالفاً لميثاق «عصبة الأمم» الذي ينص على اتباع سياسة تكفل المساواة التامة في نهب «الملكية العقارية» للسلطنة العثمانية ومواردها الطبيعية. تغلب المحور البريطاني ـ الفرنسي على ذلك وضمن تطبيق سياسة «الباب المفتوح» ومنحت أميركا من خلال شركة «ستاندرد اويل» 23,75% من نفط العراق ضمن الاتفاقية الشهيرة في العام 1925، مع شركة «نفط العراق»، وكانت اميركا قد قررت الإحجام عن استعمال نفطها الخاص في أراضيها، والسعي الحثيث إلى استثمار النفط العالمي. لا سيما وهي متفوقة على اوروبا في أراضيها وفي العالم، بزيادة حصتها «الدولية» في تصدير رأس المال إلى العالم، حيث ارتفع من 50000 دولار في نهاية القرن التاسع عشر إلى أكثر من 40 مليون دولار في العام 1920. إن المناورات التي حصلت في تلك الفترة من أجل الاستيلاء على «النفط» تعتبر نموذجية في القراءة الثانية «للاتفاقية» ولأن «المنهج» قد يكون الحاسم في مشاهدة ومعرفة «جثث الأوهام» وهي تطفو على سطح الصراع الدائم. إنه طريق الاستقلال والعبودية في آن واحد. بالرغم من أن «انتونيو ماخادو» قد تنبأ بدقة في قوله: أيها المسافر، لا طريق، فالطريق يصنع من قبل المسافر.

طارق الدليمي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...