اغتيال الحلم الأميركي

-1-
غداً سيتعرض الرئيس أوباما لامتحان مرير قد يضع حداً لما يسمى بالحلم الأميركي الذي طالما لوح به في حملته الانتخابية, ويؤكد المقربون منه أنه بقي معتزاً بما أنجزه ولكنه كان يسعى دوماً إلى فهم ما الذي لم يكن في صالحه, ولماذا أخفق بشكل مأساوي, لقد اعترف للأمين العام للبيت الأبيض «جيم ماسينا» على نحو ما نقل محرر -نيويورك تايمز- بأنه «ليس نادماً على إدارته للأمور خلال الفترة الأولى من ولايته, ولكنه تعلم بعض الدروس القاسية, وفي مقدمتها إصراره على التشبه بكبار الديمقراطيين السابقين الذين ارتبط اسمهم بأمجاد الولايات المتحدة, كما اعترف بأنه لا يكفي أن تشعر أنك على حق حينما لا يوافقك الآخرون على وجهة نظرك», وأنه «إذا نظرنا إلى كل ما تعرضنا له, يبدو لنا أن ما كرسناه للتكتيك قد أضاع عنا الرؤية الاستراتيجية الشاملة», وكان أهم ما قاله لأمينه العام في البيت الأبيض: «لقد اتصفت إدارتي للأمور بكثير من الكبرياء, ولكنني ما زلت مصراً على أن ما فعلته كان ضرورياً للولايات المتحدة ولاستعادة سمعتها كدولة مسؤولة وصادقة». ‏

لقد أكد أوباما, يوم فوزه بالانتخابات الرئاسية أنه «سيكون في وسعنا أن ننظر إلى الخلف وأن نقول لأولادنا إننا وفرنا العناية الصحية للجميع, وأننا أوجدنا العمل للعاطلين, وإننا وضعنا نهاية لحروب عبثية لا طائل منها, وإننا أعدنا صورة بلادنا التي تحظى بالاحترام. لن أقدم اعتذاراً لأنني وعدت بتحقيق أشياء أكثر من طاقتي ومن طاقة بلادي, لأنني واثق من أننا سننجح في تحقيقها ذات يوم, ولكن لابد من الوقت على الرغم من أن ثقافتنا المتوارثة لا تقوم على احترام الصبر». ‏

-2- ‏
الكتاب الذي تصدر الحملة اليسارية على «أوباما» هو من تأليف «أريانا هوفينجتون» وعنوانه المثير «أميركا دولة من العالم الثالث», وفيه اتهام فاضح بأن أوباما تخلى عن الطبقة الوسطى- المسؤولة عن الازدهار في الولايات المتحدة, وأنه قد اغتال الحلم الأميركي, عنوان الكتاب مثير للجدل, وقد وضع عن قصد, على الرغم من أن اللفظتين «الولايات المتحدة والعالم الثالث متناقضتان إلى درجة لا توصف», تشعر الولايات المتحدة أنها الأقوى والأغنى والأكثر سخاء من كل الامبراطوريات في العالم, ولكن الولايات المتحدة تتحول تدريجياً إلى دولة من العالم الثالث. ‏

وتؤكد مؤلفة الكتاب أن أوباما قد اغتال الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة إذ إنه منذ نهاية 2007 فقدت البلاد 8.4 ملايين فرصة عمل, وأضاعت أكثر من 3000 مليار دولار من الودائع, وأن عدد العاطلين عن العمل بلغ 5 ملايين, وفي كل شهر تعلن 120000 عائلة افلاسها, وأن الأزمة الاقتصادية قد التهمت أكثر من 5000 مليار من أموال التوفير, وأنها قد حرمت الطاعنين في السن والمعوقين والمرضى والمشردين من كل إعانة, وأنها تغدق على تمويل الحروب في الوقت الذي يزحف الشقاء إلى البلاد. ‏

كما تؤكد مؤلفة الكتاب «أن وضع الولايات المتحدة شبيه بوضع كوريا الشمالية التي تجاهد من أجل الحصول على القنبلة النووية في حين يتضور شعبها جوعاً» وتكتب في مرارة: «تورطنا في حرب أفغانستان والعراق بحماقة, واخترنا الحرب العبثية وفقدنا احترام الناس في كل مكان بعد أن تمادينا في قتل وتصفية المدنيين الأبرياء, وبالغنا في هدر الأموال العامة على تمويل المجرمين والقتلة», واستشهدت بقول المؤرخ «أرنولد توينبي» الذي أعلن بأن الحضارات لا تموت بالقتل دائماً بالانتحار. ‏

وقد وجه سؤال إلى المؤلفة عن احتضار الحلم الأميركي فكان جوابها لاذعاً: لقد وعد أوباما يوم انتخابه بأن الأشهر القادمة ستكون أروع أيام الولايات المتحدة, ولكنه أضاع الفرصة لأنه لا يملك لا الشجاعة ولا الإرادة ولا الكاريزما اللازمة لتحقيق ما وعد الناس به, لقد سيطرت عليه الشللية السيئة واللوبيات الضاغطة والتكتلات الانتخابية, وكان قد وعد بتخصيص 787 مليار دولار للنهوض الاقتصادي والإصلاح, لم يصرف منها إلا 72 لدعم البنى التحتية. ‏

-3- ‏
ووجهت مؤلفة الكتاب الاتهام إلى النظام السياسي الأميركي الذي يشطر الناس إلى شطرين وإلى حزبين يرفضان التسوية والتوصل إلى اتفاق لمصلحة الشعب, بالإضافة إلى أن زعماء الشطرين الديمقراطي والجمهوري يستعينون بأباطرة الصناعة والمال والمصارف الذين لا يهمهم إلا تخزين الأرباح والإثراء غير المشروع, وتساءلت: هل يعلم عامة الناس أن أكثر من 13700 منتم إلى اللوبيات المتحكمة قد صرفوا ما لا يقل عن 30.5 مليار دولار على نشاطاتهم الخاصة, وأن خطة انقاذ «وول ستريت» لا تزال لها الصدارة في مشاريع الإصلاح المطروحة حالياً. ‏

واعترفت المؤلفة أن انتخاب أوباما كان حدثاً تاريخياً وانتصاراً رائعاً لعامة الناس, ولكنه لم يقدر حق التقدير النصر الذي حصل عليه, وضم إلى طاقمه في البيت الأبيض رجالاً منبوذين لا يعملون إلا لصالح «وول ستريت» لقناعتهم بأن «وول ستريت» هو مركز الخبير العام, وأنه إذا تم انقاذ «وول ستريت» فإن الولايات المتحدة بأسرها ستنعم بالعافية والازدهار. ‏

-4- ‏
وفي تحليلها لمشاعر عامة الناس في الولايات المتحدة, أشارت إلى أن الخوف هو الذي يسيطر على هذه المشاعر, الخوف من أن تزول فرص العمل, والخوف من عدم التمكن من الحصول على تقاعد كاف والخوف من أن يزول الضمان الاجتماعي والصحي والخوف من عدم القدرة على توفير الحاجة إلى الطعام والسكن والتنقل, والخوف من مصادرة أماكن السكن لعدم توافر السيولة اللازمة, وأن المجتمع الأميركي قد انقسم إلى طبقتين الاغنياء والآخرين, هؤلاء الذين يملكون وهؤلاء الذين لا يملكون. ‏

غير أن الخوف يتحول إلى غضب, وهذا الغضب يوجه إلى الرئيس أوباما شخصياً وإلى الحزب الحاكم, بحيث تتحول المؤسسة الحاكمة إلى كبش فداء, ثم إن الخوف يتحول إلى التفتيش عن كبش فداء: في السنوات 1880 اتهم المهاجرون من الصين بأنهم كبش الفداء, لأنهم يعملون في سكك الحديد, ولأنهم كانوا يفسدون الشباب ويخرّبون الازدهار في الأحياء ويسرقون فرص العمل من سكان الولايات المتحدة الأصليين, وفي الأعوام1930 كان كبش الفداء هم المهاجرون من المكسيك وقد تم ترحيلهم بفظاظة, ولا عجب إذا تصاعدت البانارويا الجديدة اليوم ضد المسلمين, ووجه الغضب إلى الرئيس أوباما بعد اتهامه بأنه يتستر على اعتناقه الإسلام, بل إن البعض يتهمه بأنه شيوعي أو إنه نازي. ‏

-5- ‏
لكن النقمة على الرئيس أوباما لا تأتي من الأوساط اليسارية التي خاب أملها بسبب عجزه عن تنفيذ وعوده الفضفاضة, وإنما تأتي من الأوساط اليمينية التي استولدت حزباً أو حركة صاخبة تحمل اسم «حزب الشاي» الذي لم يكن أحد يعرف عنه شيئاً قبل عام 2009, وهو اليوم أكثر الحركات إرباكاً وصخباً وغلياناً: فمن هم هؤلاء الغاضبون على الحكومة الفيدرالية في واشنطن وعلى الرئيس أوباما خاصة؟ هل هم قبضة من المتطرفين الذين سحرهم النجم التلفزيوني «غلين سبيك» الذي لم يتوقف عن تحريضهم على تبديل الشطرنج السياسي في واشنطن, وواقع الحال أن حزب الشاي هو شبكة خلايا ناشطة ولا يملك هيكلية واضحة, ولا تراتبية قيادية سياسية واضحة المعالم, لقد ولدت هذه الشبكة من الخلايا عام 2010, وطرحت برنامجاً خاصاً من 10 نقاط, سرقت بكاملها من برنامج الحزب الجمهوري التي طرحها عام 1994. ‏

ولكن لماذا سمي بحزب الشاي؟ لقد ولد أول تمرد مدني أميركي في 16 كانون الأول عام 1732 حين قام ستون من سكان «بوسطن» بالهجوم على ثلاث سفن تجارية, وقاموا بقذف حملتها في البحر, احتجاجاً على الضرائب التي فرضها التاج البريطاني على صادرات الشاي المتوجهة إلى مستعمرات أميركا الجنوبية, ويمكن أن يقال إن التمرد الغاضب كان ضد التاج البريطاني تماماً كما أن التمرد الحالي موجه ضد الإدارة المركزية في واشنطن, ضد النخب الحاكمة التي تتمركز في البيت الأبيض. ‏

ويستخدم التحرك الحالي التعابير ذاتها التي كان يستخدمها العاملون في الحقل السياسي الأوائل, يبدأ الدستور الأميركي بالكلمات التالية: «نحن الشعب!» ومازال المشرفون على حزب الشاي يستخدمون دوماً في كل بياناتهم: «نحن الشعب!» على أن هذه الصيغة الشعبوية مشتركة بين الديمقراطيين والجمهوريين, من اليسار واليمين على الرغم من انزلاقها نحو اليمين المتطرف حالياً, وهي صيغة كان يستخدمها أوائل المستوطنين المزارعين ضد النخبة المتمركزة في واشنطن. ‏

إن أفدح ما تأخذه هذه الحركة الشعبوية على الرئيس أوباما هي جذوره المهاجرة, وأهم ما تأخذه على الثقافة السياسية الأميركية هو طابعها الحزبي, ولهذا فهي تصر على أنها تحرك متطهر غير مسيس ولكن واقعها الحقيقي شيء آخر, إذ توضحت معالمها الجمهورية مع اقتراب موعد الانتخابات الانتصافية. ‏

ثم إن هذه الحركة تفاخر بطروحاتها الأخلاقية الفاضحة, إذ لا تزال تطالب بالطهارة الجنسية, بل إن مرشحتها الميدانية تضع شعاراً لها في حملتها الانتخابية ايقاف العادة السرية واقناع الشبيبة بعدم ممارستها, واللافت أنها تدعي في منشوراتها أنها حركة الطبقات السفلى, ولكن الواقع يثبت أنها حركة عنصرية تمثل البيض الميسورين, المتزوجين, ممن تكون أعمارهم فوق الـ 45 وهؤلاء سيشكلون أكثر من 18% من الناخبين, واللافت أن الحركة تضم عدداً هائلاً من النساء وهذا ما دفع الإعلاميين إلى تسميتها بـ حركة المرأة الأميركية المحافظة, ثم أنها حركة الأثرياء ولاتشكو من ضآلة الميزانية المخصصة للدعوة لها. ‏

-6- ‏
تداعى الحلم الأميركي داخلياً بعد أن انهالت عليه المعارك, عن اليسار وعن اليمين, كان الحلم الأميركي قد سحب من التداول خارجياً, بعد أن تخلى عنه صاحبه, منح جائزة نوبل للسلام وعجز عن تحقيق السلام في الأرض المقدسة وأفغانستان والعراق وكل مكان وعد بتسوية الصراع العربي- الإسرائيلي ثم خضع للإملاءات الإسرائيلية, وها هو يقف على قارعة الطريق, ويستجدي الإنقاذ, هل تنقذه الانتخابات الانتصافية للكونغرس؟ ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين