هل المعتزلة «فرسان العقل» في الإسلام؟
ما معنى أن نُجري في زمن الانغلاق الإسلامي قراءةً جديدةً للمنهج العقلي عند فرقة المعتزلة؟ هل نحن اليوم أحوج الى أهل العدل والتوحيد لإخراج الإسلام من أزمته؟ لم تكن محنة المعتزلة وانتصار الأشاعرة عليهم لحظةً تاريخيةً عابرة. ولم يحدث في تاريخ الديانات التوحيدية، أن تكبو جدلية العقل والنقد لأجيال متعاقبة كما حدث منذ غلبة الفكر الأسطوري عند ثالث هذه الديانات. هذا إذا استثنينا محاولات المجددين الذين اختاروا المنافي، وصاروا حلقة الوصل الممتدة من رواد العقل الأوائل. «المعتزلة ـــــ ثورة الفكر الإسلامي الحرّ» للأب سهيل قاشا (دار التنوير)، أطروحة ليست جديدة على المكتبة العربية الإسلامية. أهميتها لا تنبع من طرح إشكاليات تؤرق العقلانيين المعاصرين، بل مما تمثّله من حاجة حضارية يفرضها الواقع المأزوم الذي يمر به الإسلام الراهن. عبر المنهجية التاريخية، يستحضر أستاذ علم الإسلاميات في «معهد القديس بولس للفلسفة واللاهوت» (حريصا، لبنان) فكر الاعتزال منذ نشأته، مقدماً مشهدية لتجليات العقل عندهم، ويمكن تحديدها بثلاثة عناوين أساسية: خلق القرآن، ونفي الصفات والتجسيم عن الذات الإلهية، وحرية الإرادة والاختيار عند الإنسان.
نشأة المعتزلة، ومدى تأثرهم بالفكر المسيحي كوّنا المدماك الأول للكتاب. قاشا الذي يميل إلى تبنّي ما ذهب إليه المفكّر اللبناني القتيل حسين مروة، عن المنابع الإسلامية الأصلية للاعتزال، يقدّم هنا مادة كثيفة التوثيق، كأنه أكثر ميلاً إلى الانتصار لهم، وإن لم يُبدِ ذلك صراحة. المعتزلة درسوا الفلسفة اليونانية وتماهوا معها «بغية الاستفادة من المنطق لتدعيم حجمهم، فاهتموا بالمنطق الأرسطي، ووصلوا بشطحاتهم إلى اعتبار «فلاسفة اليونان أناساً معصومين عن الخطأ».
التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خمسة أصول بنى عليها المعتزلة عدتهم العقلية، فأنكروا الشفاعة في الرسول وغيره، وعدّوا مرتكب الكبيرة بين منزلتي الإيمان والكفر، ونفوا عن الذات الإلهية التشبه والصفات، وجادلوا المسيحية في التثليث. وأبرز ما خلص إليه فرسان العقل، قولهم بخلق القرآن، فارتكزوا إلى الأدلة العقلية لإثبات حجتهم «إذا كان غير مخلوق أصبح قديماً أزلياً، والقدم من صفات الإله وحده».
لكن المعتزلة الذين وصلوا الى مجدهم مع المأمون والمعتصم، فرضوا أفكارهم بالقوة والعنف، وساعدتهم السلطة على ذلك. ها هو نعيم بن حماد أحد علماء مصر الذي ناوأ فكر الاعتزال، سجن حتى مات «ويقال إنه جُرّ بعد موته بقيوده وأُلقي في حفرة ولم يُكفَّن ولم يُصلّ عليه»، هذا ما يذكره ابن الجوزي صاحب «مناقب الإمام أحمد بن حنبل».
أسباب انحسار الفكر المعتزلي، لم تكن عقائدية فقط. لقد فرضوا توجهاتهم بالقوة، وأجبروا الناس على الانقياد لهم، وانخرطوا في السلطة، ومارسوا عنفهم الديني على مخالفيهم. لكن ما هي المسببات الأخرى التي أجهضت تجربتهم؟ أربعة أسباب يفندها قاشا في شرح هذه الإشكالية: سيطرة المماليك الأتراك على الحكم زمن المنتصر، ومحاربتهم لرجال الحديث، ما ولّد نقمة كبيرة ضدهم من المحدثين وعامة الناس، وتكفيرهم لأهل السُنّة، وفرض مذهبهم بالعنف، ما تنافى مع أهم أركانهم «حرية الفرد في اختيار أفعاله والدفاع عنها».
انهيار المعتزلة لا يقتصر على المعطيات الخارجية فقط. كفّر بعضهم بعضاً، وتفرقوا الى 22 فرقة، غير أن الانشقاق التاريخي الذي دشّنه أبو الحسن الأشعري «أحد أئمتهم» مثّل الضربة القاتلة. فهل كان خطره على المعتزلة نابعاً من ردوده عليهم بعدما تعلم مناهجهم؟ يتساءل قاشا. اعتمد الأشعري على طرائق الجدل التي صاغها فرسان العقل في الإسلام «فعرف كيف يدحض أقوالهم». وأدخل أسساً جديدة على علم الكلام، تقوم على استعمال «العقل من أجل إثبات ما جاء به النقل»، ومن المعلوم أن المعتزلة أهملوا العلوم النقلية، وأخذوا بالعلوم العقلية.
مع البويهيين، حاول أهل العدل والتوحيد إحياء نفوذهم الفكري، ولم يُقدّر لهم الاستمرار طويلاً. واللافت أن الكاتب الذي لا يتوانى عن استعمال كلمة «الرافضة» لدى الإشارة الى الشيعة، لم يدرك أن تبلور المذهب الشيعي، كانت أسبابه سياسية، وليس عبارة عن حركة ارتدادية على المستوى العقائدي. وهذه المرحلة التأسيسية التي شهدها الإسلام المبكر ــــ على حد تعبير هشام جعيط ــــ جاءت مولدة للتاريخ، وأنتجت إسلاماً متعدداً على وقع الاختلاف لا الخلاف. وبصرف النظر عن إشكالية التعدد المذهبي وحيويتها في آن واحد، لا ريب في أن تراجع المعتزلة مهّد منذ محنتهم، لأزمة العقل في الإسلام، وأتاح الفرصة للمنادين بحرفية النص المقدس والمنطق الإرجائي والقدري. يقدم الأب سهيل قاشا مادة توثيقية، مشبعة بالمصادر والمراجع. لكن الكتاب لم يخرج بخلاصات مفارقة لما هو سائد، يمكن البناء عليها في معالجة أزمة العقل النقدي في الإسلام. يبقى أن ما قدمه هذا الباحث واللاهوتي العراقي يمثّل نافذة لكل من لا يفقه شيئاً عن نشأة المعتزلة. أما العقلانيّون العرب المعاصرون، فمن المستبعد أن يكون قد نجح في التواصل معهم... ذلك أنّه لم يطرح نتائج جديدة تجيب عن هواجسهم، في مقارعة «اللامفكَّر فيه»، على حد تعبير المفكّر الجزائري الراحل محمد أركون.
ريتا فرج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد