الخروج الأمريكي: إعلان نهاية حقبة بوش العراقية وبداية حقبة أوباما
الجمل: تحدثت التقارير والتحليلات كثيراً عن إعلان الولايات المتحدة إنهاء القوات الأمريكية لمهامها القتالية في العراق بحلول يوم الثلاثاء 31 آب (أغسطس) 2010، وفي نفس الوقت، تحدثت التقارير والتحليلات كثيراً عن زيارة نائب الرئيس الأمريكي السيناتور جو بايدن الذي جاء أمس الاثنين 30 آب (أغسطس) 2010 للعراق: ما هي حقيقة التطورات الجارية في العراق؟ وما هي أبرز التفسيرات؟ وما هو شكل السيناريوهات العراقية المحتملة القادمة؟
* المسرح العراقي: توصيف المعلومات والمعطيات الجارية؟
أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أن يوم الثلاثاء 31 آب (أغسطس) 2010 هو التاريخ المحدد لإنهاء المهام القتالية للقوات الأمريكية التي انخرطت في "عملية تحرير العراق" التي بدأت في نهاية آذار (مارس) 2003، وبحلول يوم غد الأربعاء 1 أيلول (سبتمبر) 2010 سوف يشهد العراق بداية "عملية الفجر الجديد". هذا، وقد رصدت التقارير الصحفية وشاشات القنوات الفضائية عمليات خروج القوات الأمريكية، وطوابير الوحدات العسكرية الأمريكية الطويلة وهي تغادر الأراضي العراقية منسحبة باتجاه أراضي "بلد عربي" مجاور للعراق. وحتى الآن ما زال غير مؤكد إذا كانت هذه القوات الأمريكية المنسحبة سوف تتمركز في أراضي هذا "البلد العربي المجاور للعراق" أم أن هذه القوات سوف تغادر من هناك إلى الولايات المتحدة الأمريكية!؟
هذا، وأشارت التقارير والمعلومات إلى أن حجم القوات الأمريكية التي تبقت في العراق سوف يكون في حدود 50 ألف جندي، وفي هذا الخصوص، فقد أشار تقرير وكالة أنباء رويتر إلى أن العدد المتبقي من القوات الأمريكية في العراق، وعلى وجه التحديد هو 49700 جندي أمريكي، سوف تنحصر مهمتهم في إعداد وتدريب قوات الأمن والجيش العراقي، وربما القتال لأغراض الدفاع عن النفس في الحالات الطارئة.
بحلول لحظة انتقال العراق من مرحلة "عملية التحرير" إلى "عملية الفجر الجديد" جاءت إحدى الطائرات العسكرية الأمريكية وحطت رحالها في العراق وهي تحمل السيناتور جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي، والذي على ما يبدو قد جاء على عَجَلٍ هذه المرة.وكما هو واضح، فإن للسيناتور بايدن الكثير من العمل الذي يتطلب المزيد من التحركات الحذرة.
* الخروج الأمريكي: أبرز التفسيرات والأسئلة الحرجة
كتب المحلل السياسي الأمريكي ميشيل كريستي قائلاً بأن إنهاء القوات الأمريكية لمهامها القتالية في العراق بحلول اليوم الثلاثاء 31 آب (أغسطس) قد أنهى عملياً الفصول الأكثر دموية والأكثر خسارة وتكاليف في مسيرة الحرب التي شنها الرئيس الجمهوري السابق جورج دبليو بوش، واستمرت على مدى سبعة أعوام ونصف. هذا، وإضافة إلى تحليل ميشيل كريستي، فقد تواترت التحليلات السياسية-العسكرية-الأمنية الأمريكية والتي ركزت في معظمها على طرح العديد من التساؤلات الإشكالية الحرجة، والتي تضمنت الآتي:
• إلى أي مدى يمكن اعتبار العراق بلداً مستقراً؟ ترى العديد من التحليلات بأن العراق مازال متدهوراً وعلى حافة الكارثة، فالفصائل المسلحة العراقية المتناحرة عسكرياً أصبح مضافاً إليها القوى الحزبية العراقية المتناحرة سياسياً، وبالتالي فإن من الممكن أن يؤدي التناحر العسكري إلى تغذية التناحر السياسي، ومن الممكن أيضاً أن يؤدي التناحر السياسي إلى تغذية التناحر العسكري، بما سوف يؤدي إلى إدخال العراق مرةً ثانية وثالثة ورابعة في دوامة الفوضى المفزعة. إضافةً لذلك، ما تزال حالة انعدام الثقة تسود بين المكونات المجتمعية العراقية الرئيسية الثلاثة: السنة، الشيعة والأكراد، وأيضاً ما زال تشكيل الحكومة الجديدة معلقاً برغم مرور أكثر من ستة أشهر على إعلان نتائج الانتخابات –مصير منطقة كركوك مازال معلقاً- والخلافات حول توزيع حصص عائدات النفط مازالت قائمة برغم دخول المزيد من الشركات النفطية الكبيرة إلى العراق، الاقتصاد الوافر مازال يعتمد على النفط كمصدر وحيد للدخل، وبدون النفط فإن العراق سيغدو بلا اقتصاد نظراً لغياب الاقتصاد الحقيقي، وما تزال البيانات التحتية متدهورة، ومن أمثلة ذلك أن العراقيين مازالوا خلال هذا الصيف الساخن وهم لا يحصلون إلا على بضعة ساعات من الإمداد الكهربائي.
• إلى أي مدى يمكن النظر إلى خروج القوات الأمريكية باعتباره قد تم قبل الأوان؟ ترى العديد من التحليلات بأن خروج القوات الأمريكية مازال ينطوي لجهة التوقيت على المزيد من التفسيرات المتضاربة، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن خروج القوات الأمريكية يمكن أن يؤدي إلى:
- تزايد التوترات الكردية-العربية حول مصير منطقة كركوك بما يمكن أن يشعل المواجهة بين قوات البشمركة والقوات العراقية، بما يمكن أن يؤدي إلى انضمام المزيد من الميليشيات السنية والشيعية إلى جانب القوات العراقية، وهو أمر يمكن أن يؤدي إلى حدوث المزيد من عمليات التطهير العرقي ضد العرب في منطقة كردستان، وضد الأكراد في المناطق العربية السنية والشيعية.
- إضافة إلى انقسام القوات العراقية بحيث تسعى الوحدات الكردية إلى دعم البشمركة، وهو انقسام فيما لو حدث فإنه سوف يكون بالغ الخطورة، لأن عدداً كبيراً من عناصر القوات العراقية هم من الأكراد، إضافة إلى أن القوات العراقية الحالية تحوز على المزيد من الوسائط والقدرات والأسلحة الأمريكية عالية الخطورة.
- تزايد الخلافات السنية-الشيعية، فالسنة العراقيون مازالوا يحتفظون بطموحات استمرار توليهم لزمام القيادة في العراق ويستندون في ذلك على تاريخ حافل بالسيطرة السياسية على الدولة. أما الشيعة العراقيون، فقد أصبحوا أكثر إدراكاً لأهمية وفاعلية تفوقهم الكمي-العددي (حوالي 70% من سكان العراق) إضافة إلى قدراتهم النوعية المتزايدة لجهة احتواء طموحات الأقليات العراقية الأخرى وضبطها ضمن حدها الأدنى، وبالتالي، إذا انفلت الأمر واشتعلت المواجهات السنية-الشيعية فإن العراق سوف يعود بكل تأكيد إلى تكرار المذابح والاغتيالات وتصفيات مرحلة 2006/2007، الأمر الذي سوف لن يؤدي إلا إلى تزايد تدفقات موجات النازحين واللاجئين.
- تزايد الخلافات السياسية بين القوى الحزبية العراقية، يمكن أن يؤدي استمراره إلى تغذية العداوات السياسية، وأيضاً إلى استمرار ظاهرة الفراغ السياسي التنفيذي-التشريعين أو ربما إلى تشكيل حكومة عراق ية ضعيفة لا تتمتع باحترام العراقيين، بما يمكن أن يؤدي إلى إشعال تنافس جنرالات المؤسسة العسكرية العراقية الجديدة، وهو أمر سوف يفض بالعراق مرة أخرى إلى الانقلابات العسكرية.
إزاء هذه المسارات المحتملة، اختلفت وتباينت وجهات النظر الأمريكية، فقد رأت بعض التحليلات بأن خروج القوات الأمريكية وإنهاءها للمهام القتالية كان مبكراً وسابقا لأوانه، ولكن بالمقابل من ذلك، رأت تحليلات أخرى بأن خروج القوات الأمريكية وإنهاءها لمهامها القتالية قد جاء متأخراً، إضافة إلى أن كل التداعيات السلبية التي حدثت والتي يمكن أن تحدث في العراق كانت بسبب وجود القوات الأمريكية، وذلك لأن الاستقرار السياسي لا تصنعه الأطراف الخارجية وقوات الاحتلال المزودة بالأسلحة القتالية، وإنما تصنعه الإدارة الداخلية بين القوى الفاعلة الوطنية لأي بلد، وبالتالي، يمكن أن يحدث بكل سهولة عن طريق التفاهم والاتفاق والتسوية بين بعضهم البعض، وحتى إن لم يتفق العراقيون بين بعضهم البعض، فإن الاستقرار يمكن أن يأتي ويحدث في ظل صعود طرف عراقي قوي يفرض حضوره القوي على الأطراف الصغيرة الهامشية الأخرى، وهي الأطراف التي في ظل وجود القوات الأمريكية سوف تسعى بكل تأكيد إلى الاستقواء بهذه القوات، وتسعى إلى مساعدة قوات الاحتلال من أجل أن تحصل بالمقابل لذلك على مساعدة قوات الاحتلال لها في الحصول على منافع ومزايا تفوق وزنها واستحقاقها الحقيقي، وهو ما ظلّ يحدث طوال السنوات الماضية في العراق.
* العراق والنوايا الأمريكية: أبرز التفسيرات
سعت معظم التفسيرات إلى تحليل إنهاء القوات الأمريكية لمهامها القتالية وخروجها من العراق على أساس اعتبارات الآتي:
• إن الدافع الرئيس لقرار الإدارة الأمريكية الديمقراطية هو ظهور الرئيس الأمريكي أوباما بمظهر من أوفى بإنجاز ما وعد به الأمريكيين خلال حملته الانتخابية وهو: خروج القوات الأمريكية من العراق، وجدولة انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان.
• إن الدافع الرئيسي لقرار الإدارة الأمريكية الديمقراطية هو تخفيف وطأة ضغوط النفقات الحربية والعسكرية على الميزانية الأمريكية، وذلك بما يتيح لإدارة أوباما توفير المال اللازم لتغطية مشروعات الضمان الصحي والرعاية الاجتماعية وتقليل الضرائب، والتي سبق وأن وعد بها الأمريكيين.
هذا، وعلى خلفية هذه الدوافع، فقد انقسمت المواقف بما أدى إلى ظهور ثلاثة معسكرات، يمكن الإشارة إليها على النحو الآتي:
- معسكر المتفائلين: يرون بأن خروج القوات الأمريكية من العراق هو نقطة تحول هامة في اتجاه استقرار العراق، وتعزيز الثقة والمصداقية ليست في منطقة الشرق الأوسط إزاء السياسة الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية، وإنما بين الإدارة الأمريكية والرأي العام الأمريكي، وذلك على النحو الذي سوف يساعد في تعزيز مكانة الحزب الديمقراطي الأمريكي لجهة الفوز بنتائج انتخابات الكونغرس النصفية القادمة، وجعل الناخبين الأمريكيين في مواجهة خيارين هما: التصويت للجمهوريين ومعناه تصعيد الحرب، ودفع المزيد من النفقات وضياع مشروع الضمان الصحي والرعاية الاجتماعية، أو التصويت للديمقراطيين ومعناه التخلص من الحروب وتوفير المال اللازم لدعم الأوضاع الاقتصادية والخدمية الداخلية الأمريكية.
- معسكر المتشائمين: ويرون أن خروج القوات الأمريكية من العراق بعد إنهائها لمهامها القتالية هو خروج سوف لن يؤدي إلا إلى دعم الفراغ في الساحة العراقية، وهو الفراغ الذي سوف تملؤه: إيران في مناطق جنوب ووسط العراق وتنظيم القاعدة في مناطق غرب العراق إضافةً إلى إطلاق يد حكومة حزب العدالة والتنمية التركي في القضاء على حلفاء محور واشنطن-تل أبيب المسيطرين على شمال العراق.
- معسكر المحايدين: ويرون أن خروج القوات الأمريكية من العراق هو حدث من الصعب إخضاعه لأي تقييم فوري، وذلك لأن المتغير الرئيسي الذي يجب أن تستند عليه عملية التقييم هو المتغير العراقي الداخلين وبالتالي، فإن الأداء السياسي العراقي هو الذي سوف يحدد أين ستتجه البوصلة، بحيث إذا تعاون العراقيون، فإنه يمكن تقييم الخروج الأمريكي بأنه كان إيجابياً، وإذا تصارع العراقيون فإنه يمكن تقييم الخروج الأمريكي بأنه كان سلبياً.
هذا، وعلى أساس اعتبارات ردود الأفعال العراقية والشرق أوسطية، فهناك أيضاً انقسامات في وجهات النظر، وهو انقسام يتميز بأنه يجري على خطوط ومفاصل ومتغيرات نظرية المؤامرة، وذلك لأن أعلب التحليلات ووجهات النظر العراقية والشرق أوسطية ترى في الخروج الأمريكي مجرد سيناريو مصطنع الهدف منه تضليل الرأي العام العراقي والأمريكي والشرق أوسطي، وأيضاً العالمي، وذلك بأن أمريكا قد خرجت من العراق على المستوى المعلن، أما على المستوى غير المعلن فإن الخروج الأمريكي من العراق هو في حقيقة الأمر مجرد برمجة إستباقية لدخول أمريكي لاحق، والذي من المتوقع أن يتم لاحقاً، وعلى الأغلب بعد انتخابات الكونغرس النصفية. وبكلمات أخرى، لقد خرجت القوات الأمريكية من العراق ولكنها أبقت الآتي:
• كل أزمات العراق معلقة بعد أن أوصلت هذه الأزمات إلى نقطة الانغلاق وعدم الحل.
• حوالي 50 ألف جندي أمريكي من أجل تدريب القوات العراقية، ولكن هؤلاء الجنود ليسوا من المختصين في مجال التدريب، بل هم من عناصر القوات الخاصة المتأهبة لخوض القتال وتنفيذ العمليات العسكرية الهجومية.
• الاحتفاظ بكل القوات الأمريكية المنسحبة من العراق في بلد عربي مجاور، وعلى تخوم حدود هذا البلد العربي مع العراق.
هذا، وتقول المعلومات والتسريبات، بأن نائب الرئيس الأمريكي السيناتور جو بايدن صاحب مشروع تفكيك وتقسيم العراق، قد جاء على عجل إلى العراق من أجل إفشال التفاهم الذي تم بين القوى السياسية العراقية على اختيار مرشح بعينه لتولي منصب رئيس الوزراء الجديد، ومن المفترض أن يتم الإعلان عن اسم هذا المرشح خلال نهاية شهر رمضان الحالي.
يرى العديد من المحللين الوطنيين العراقيين، بأن القوات الأمريكية قد أنهت مهامها القتالية وخرجت من العراق دون أن تحقق أهدافها التي جاءت من أجلها، فهي لم تحرر العراق، لأن العراق بالأساس لم يكن محتلاً، إضافة لذلك لن يستطيع أي رئيس أمريكي أو قائد عسكري أمريكي أن يعلن أن القوات الأمريكية قد حققت النصر النهائي في العراق، وذلك لأنه لا يوجد أي طرف عراقي قد وقع اتفاق استسلام العراق لأمريكا وحلفائها. وكل ما حدث: لم تستطع القوات الأمريكية فرض السيطرة على العراق، وخرجت على أمل أن تعود مرة أخرى بعد أن تتوافر لها المزيد من الذرائع الجديدة، وعلى الأغلب أن تسعى أمريكا هذه المرة إلى دفع الأطراف العراقية من أجل خوض الحرب الأهلية، بما يؤدي إلى إرهاق المجتمع العراقي وإنهاكه ومطالبته بعودة القوات الأمريكية لإنقاذه، وعندها سوف ترسل أمريكا قواتها، ليس على خلفيات مبررات تحرير العراق، وإنما هذه المرة على خلفيات مبررات إنقاذ العراقيين!!
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد