نساء ونسويات
* عندما أصدرت دوريس ليسينغ تتمة مذكراتها «ألفرد وإميلي» الربيع الماضي قالت إن نيلها نوبل الأدب كان «مصيبة لعينة» منعتها من الكتابة، لكنها اعترفت بأنها لم تعد تملك الطاقة على كتابة المزيد. «ألفرد وإميلي» الذي جمع الحقائق والرواية، قالت، كان كتابها الأخير، لكن «افريمان» أصدرت أخيراً مجموعة قصصية لها تغطي مساحة زمنية واسعة. تكتب عن الحرب والوعي السياسي والطبقي والهوية الإنكليزية والصراع بين الجنسين، وتحتفظ القصص بألق ينقذها من الإحساس بعمر الكاتبة. دخلت ليسينغ عامها التسعين آخر 2008، لكن قصصها الواقعية والسوريالية تبدو معاصرة سواء تبنت صوت رجل أو امرأة.
«دفتر الملاحظات الذهبي» جعل ليسينغ بطلة نسوية تميّز بين الإشباع الجنسي والزواج الناجح اللذين لا يجتمعان بالضرورة. غضبت من فوقية الرجال «الطبيعية»، لكنها هاجمت منذ بداية الألف الثالثة «جيلاً شنيعاً» من النساء يجد متعة في إذلال الرجال ويشعرهم بالذنب لمجرد وجودهم. قصة «الى الغرفة الرقم تسعة» تصوّر حياة المرأة الموحشة زوجة وأماً وانتهاءها وحيدة في غرفة مستأجرة تنتحر فيها بالغاز. تقول إنها لم تكتب القصة عن جنس النساء، بل عن الكآبة التي طاولت أيضاً الرجال المكسورين العائدين من الحرب. هي نفسها لم تفهم هذه القصة «الرهيبة (...) أو بالأحرى المكان في نفسي الذي أتت منه».
فقد والدها ساقه في الحرب وسمّم البيت مع والدتها بمرارة الضحية. بريطانية ولدت في إيران وعاشت في جنوب أفريقيا التي غادرتها الى بلدها الأصلي في 1949 لترصد تمسّك الإنكليز بالفوقية وقتام حياتهم الفقيرة وشكواهم من هبوط قيمة عملتهم في الخارج بعد الحرب العالمية الثانية. في «عين الله في الجنة» كتبت عن انحطاط الطبيعة البشرية إزاء المحرقة وألغت المسافة الآمنة التي يراها الكتاب ضرورية في عملهم. بطل «إنكلترا ضد إنكلترا» شاب من الطبقة الفقيرة يوصله اجتهاده الى جامعة أكسفورد فينقسم شخصين. يتحدث بلغة المناطق الفقيرة ولهجتها مع والده عامل المنجم وطبقته، وبلغة راقية مع العالم الذي فتحته الجامعة الى أن ينتهي على كنبة الطبيب النفسي. «يوم توفي ستالين» تدوّن رد فعل الشيوعيين الإنكليز ودموع الرفيقة جين التي تنتقد تحليل الراوية لصراع الطبقات.
ٍتلفت الرمزية والصورة الجديدة يومها في «عبر القناة» التي نشرت أولاً في «ذا نيويوركر» في 1955 عن فتى يحتفل ببلوغه أثناء عطلة في الشرق الأوسط بالغطس في معبر مائي عميق. وتتناول «مسز فورتسكيو» الصحوة الجنسية لفتى تتدبّر عاهرة مسنّة تدشينه.
الضوء فجأة
* اختارت أليس مونرو سبع عشرة قصة تغطي رحلتها منذ الستينات من القرن الماضي، وأصدرت مجموعة «منجرف» عن «افريمان» في بريطانيا. يعجز إعجاب النقاد عن توسيع حدود شهرتها ربما لأنها تكتب القصة لا الرواية، على أن قصصها كثيراً ما تبدو إذا جمعت رواية ترصد حياة الكاتبة التي ولدت في 1931 في أونتاريو. يبرز العمق النفسي لدى «تشيكوف كندا» والتركيز على لحظة الإضاءة الداخلية وهاجس السباق مع الوقت وفشل الحب والمهنة. غرفت مونرو من تاريخ أجدادها الاسكوتلنديين، واتفقت مع وليم فوكنر في تدوين حياة المجتمعات الصغيرة وضغط التقاليد على الفرد.
في «موسم الحبش» تتوقف مونرو عند المثليين الذين تعرفهم كل البلدة. اختصاصي ورق الجدران الأنيق المتموج الشعر الذي يقول انه مهندس داخلي. الابن الوحيد البدين المدلل لأرملة الكاهن الذي اشترك في مسابقات صنع المعجنات وطرّز غطاء المائدة. عازف الكمان في الكنيسة المصاب بخوف المرض الذي أدار الجوقة بنوبات صراخه. «أقمار المشتري» عن صراع الأجيال بين كاتبة ووالدها: «استطعت أن أسمعه يقول: «حسناً، لم أقرأ عنك شيئاً في ماكليينز». حتى لو قرأ شيئاً كان سيقول: «حسناً، لم يعجبني ما قرأته كثيراً». كان قال ذلك بنبرة مرحة متسامحة لكنه كان ترك لدي وحشة الروح المألوفة. كانت رسالته واضحة: يجب أن تكافحي لنيل الشهرة ثم تعتذري عنها، وستلقين اللوم سواء نلتها أو لا».
تحدد النظرة الى العلاقات الزمن النسائي بين ما قبل حركة التحرر وبعده. ترفض النساء في وسط العمر اقتراب أزواجهن منهن إطلاقاً بعد مرضهن أو تعاطي رجالهن الشرب، لكن الشابات يرين المتعة في الفراش واجب الأزواج. في «أتى الدب عبر الجبال» التي تتناول مرض الزهايمر يستخدم الرجل الجسد للمقايضة. تتعلق فيونا المصابة بالخرف بمريض في المصح وترفض تناول الطعام عندما تعيده زوجته الى بيته. ينام زوجها مع زوجة المريض ويقنعها بإعادته الى المصح فيسعد فيونا مجدداً. في «صديقة صباي» تكتشف امرأة أنها لا تختلف عن أمها «الصعبة». في «منجرف» تتلقى أمينة مكتبة رسائل من جندي في الحرب العالمية الأولى وتتغير حياتها الى الأبد. في «باختلاف» تنضم جورجيا الى صف للكتابة الإبداعية ويلفتها المدرّس الى كثرة الأحداث والشخصيات في قصتها، ويطلب منها التركيز على ما يهمها فقط. تختار القسم عن جدها الذي يقتل الدجاج، فيمدحها المعلم لكنها ترى الصيغة الجديدة للقصة غير حقيقية وتورد التفاصيل الأخرى ملحقاً لها. في «المتسولة» تعلق فلو عبارات دينية على الحائط مع أنها غير متدينة تأثراً بالرواسب المسيحية الراسخة في المجتمع الكندي.
ما بعد الليبرالية
* توسع زووي هيلر مساحتها في روايتها الثالثة «المؤمنون» الصادرة في بريطانيا عن «فيغ تري - بنغوين» فتتناول السياسة والدين وتبعثر الذات والهوية في أسرة يهودية ليبرالية نيويوركية في 2002. الأب محام اشتراكي شهير يستعد للدفاع عن أميركي عربي اتهم بالتدرب في مخيم لـ «القاعدة». تعارض زوجته استراتيجيته وتنصحه باعتماد «الغضب العربي المشروع»، لكنه يصاب بسكتة في المحكمة ويخضع لغيبوبة، فتتحول زوجته طاغية وتشعر ابنتاه بالضياع. تهجس كارلا ببدانتها وعجزها مع زوجها عن الإنجاب وتهرب الى علاقة مع بائع صحف مصري في المستشفى الذي تعمل فيه مساعدة اجتماعية. روزا التي أمضت في كوبا أربعة أعوام واعتنقت الاشتراكية الثورية، تتحول فجأة الى اليهودية الأرثوذكسية وتصدم والدتها الملحدة. تبنت هذه وزوجها طفلاً رأيا أن من واجبهما إنقاذه من والدته، سارقة المصارف، ومنحته عاطفة بخلت بها على ابنتيها، لكنه أخلص للمخدرات أكثر مما اعترف بفضلهما أو تأثر بمبادئ العدالة والإحسان التي آمنا بها.
كتبت هيلر روايتها بأصوات عدة خلافاً لـ «ملاحظات على فضيحة» التي اكتفت براوية واحدة وتناولت علاقة معلمة بتلميذها المراهق وابتزاز زميلة مثلية تطالب بثمن لسكوتها. ولئن امتد طموح هيلر في «المؤمنون»، خسرت هذه فجأة البعد السياسي الشيّق مع موت المحامي وانهماك كل من أفراد الأسرة في البحث عن المعنى في حياته التي فرغت فجأة. عملت هيلر كاتبة عمود عن الحياة الأميركية في مجلة «صانداي تايمز»، وبعد رواية أولى غير موفقة رشحت «ملاحظات على فضيحة» لجائزة بوكر في 2003، وترجمت الى تسع وعشرين لغة وحولت فيلماً. عمل والدها لوكاس هيلر، اليهودي الألماني، في هوليوود وكتب سيناريو «الدزينة القذرة» و «ماذا حدث للطفلة جين؟» وزوجها كاتب سيناريو يهودي أيضاً وتعيش الأسرة في مانهاتن.
أول الغاضبين
* قبل خمسين عاماً حمل عامل مخرطة في معمل للدراجات مخطوطة ودار بها على الناشرين في بريطانيا. رفضت مرة تلو المرة الى أن قال قارئ في «و هـ ألن» إنها أفضل رواية أولى طالعها في حياته. رحّب النقاد بـ «ليل السبت وصباح الأحد» واشتراها القراء وباعت أكثر من مليون نسخة بين 1958 و1961. كتبها ألان سيليتو في عام ونصف عام بعد أن أخبره شقيقه عن شاب فقد وعيه من الشرب ووقع على الدرج في حانة. حولت فيلماً لعب فيه ألبرت فيني دور آرثر سيتن الذي ركّبه سيليتو من أشخاص كثيرين عرفهم في نوتنغهام. صنف في خانة «الشباب الغاضبين» الذين ضموا الكاتب المعروف جون أوزبرن، على أن النقاد أغفلوا حيوية الرواية وكونها أول عمل يصور المثلث الاجتماعي الجديد: الجنس والمخدرات ومهارة ابن الشارع.
صوّر سيليتو حياة الطبقة العاملة في بريطانيا آخر الستينات وجرّدها من الرومنطيقية فنالت دقته القاسية المديح وتفوق على د هـ لورنس الذي تناول الطبقة نفسها. كتب عن آرثر سيتن الذي بلغ الواحدة والعشرين وعمل في مخرطة للدراجات نهاراً وجاب حانات نوتنغهام الصناعية ليلاً. رسم سيليتو وغداً كسولاً يرتبط بالنساء المتزوجات ويجذبه الشجار ويترك الدمار خلفه، في رصد أوسع لجيل ما بعد الحرب بفقره ومخاوفه وعبثيته ومطاردته اللذة والإشباع. كرّر سيليتو النجاح نفسه في روايته الثانية «وحدة راكض المسافات الطويلة» وبقي يكتب بغزارة من دون أن يجد الإقبال نفسه.
مودي بيطار
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد