«مطموراً تحت غبار الآخرين»: جاذبية الشعر الحديث.. وثائقياً
الأكيد أن نيل الفيلم الوثائقي السوري »مطموراً تحت غبار الآخرين« جائزة الإبداع الذهبية وشهادة تقدير لأحسن إخــراج في »مهرجان القاهرة للإعلام العربي« الرابع عشر، تبدو جائزة لقصيدة النثر وانتصاراً لروح التجديد فيها، بقدر ما هي جائزة لتجسيدها سينمائياً.
لوهلة يبدو الفيلم التي عرضته الفضائية السورية، مساء أمس، يتناول حياة وتقلبات الشاعر إسماعيل العامود في بلدة سلمية السورية على اعتبار ان الشاعر العامود هو من أوائل من كتب قصيدة النثر في أربعينيات القرن الفائت، إلا أن المتابع للفيلم سرعان ما يكتشف أن الحديث عن المؤسس العامود، ليس إلا ذريعة ومدخلاً للحديث عن قصيدة النثر السورية وتطورها وشخوصها، وظلال روادها التي امتدت إلى شعراء في عقود لاحقة على الساحة الثقافية... وبطبيعة الحال يعرّج الفيلم على العلاقة بين شعرائها ولا سيما الشاعر اسماعيل العامود مع مجلة »شعر«.
أكثر من ذلك، يبدو أن هاجس صنّاع الفيلم (الشاعر إبراهيم الجبين صاحب الفكرة وكاتب النص، وعلي سفر مخرج الفيلم) يتجاوز طرح سؤال حول قصيدة النثر والتجديد، إذ تبدأ الحكاية من القاهرة عام ،١٩٢٦ وبالضبط من محاورة بين طه حسين ورئيس نيابة مصر محمد نور الذي أجرى التحقيق مع الدكتور حسين عميد حول كتابه في الشعر الجاهلي، وقام بمساءلته حول نقضه لنظرية الشعر الجاهلي واللغة الجاهلية التي لم تتغيّر. بعدها ينتقل الفيلم إلى دمشق ليتحدث عن عشرينيات المدينة التي تشق طريقها نحو الحداثة وبناء الثقافة والهوية تمهيداً للحديث عن الباحثين سعياً وراء الجديد من أبناء دمشق والسلمية، حيث يبدأ الفيلم فعلياً بالحديث هناك عن مجدد فيها على صعيد الشعر، هو اسماعيل العامود... والبداية هناك ستكون أيضاً انطلاقاً من صورة المغني محمد عبد الوهاب وصوته، وهو مجدد آخر في مجال الموسيقى العربية... وفي تناول ذلك كله كان لسان حال الزميلين إبراهيم الجبين وعلي سفر: »نثير الأسئلة ونشارك المشاهد في البحث عن أجوبتها، ومن شاء أجوبة كاملة فليبحث بنفسه«.
على صعيد الصورة تبدو المهمة نظرياً أصعب، وهو الأمر الذي يؤكده مخرج الفيلم علي سفر في حواره مع »السفير« فـ »النص الذي كتبه الشاعر إبراهيم الجبين للفيلم هو تحدٍ لأي مخرج وذلك لكونه يتعاطى مع الشعر ومفاهيمه ويطرح الأسئلة حول تاريخ قصيدة النثر في سوريا وفي المنطقة عموماً، وهذه مادة لا يمكن أن تجد معادلاً بصرياً لها إن لم تكن معنياً بالقضية أساساً، وهي مادة غير جماهيرية بمعنى أنك ستجد نفسك معنياً بالمعادل البصري وبخلق مناخ وإيقاع يقرّب المادة إلى المتلقي الذي لا نراهن على كونه ذلك المثقف العارف بجوهر القضية فقط، بل الذي سيرى الفيلم وسيكون له موقفه منه«.
المُقترح البصري في الفيلم جاء بإيقاع وتقطيع سريع، ويبدو أن الأمر استلزم أخذ كوادر ثابتة ومتحركة لموضوع الفيلم الرئيسي، أي الشاعر إسماعيل العامود. فالزميل إبراهيم الجبين كتب نصاً يجادل فيه ويثير أفكاراً للنقاش أكثر مما يروي فيه وقائع، كما واستحضر التاريخ أكثر من مرة. وفي ذلك كله ما جعل الإخراج يلاحق روح النص أكثر من تفاصيله، فاشتغل على مستويات إخراجية عدة منها الكوادر الثابتة، ومنها الأرشيف الصوري، فضلاً عن الاعتماد على الرسم في تجسيد مشهد محاكمة طه حسين وغيرها.
بالمجمل نرى أن تحدي الفيلم الأساسي يأتي في توقيته، فالإرهاب والاحتلال والحروب الاستخباراتية وربما قصص المافيا والعصابات والقرصنة.. جميعها تبدو مواد مغرية لموضوع فيلم وثائقي مثير، إلا أن جميعها تراجعت أمام خيار قصيدة النثر وحكاية التجديد. يبدو أن العالم تعب من الحرب والموت، وآن له أن ينال قسطاً من الحياة.
يعاد اليوم عند الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً على الفضائية السورية.
ماهر منصور
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد