أولبرايت: عدم كشف اغتيال الحريري يعيق السلام السوري- الإسرائيلي

11-04-2008

أولبرايت: عدم كشف اغتيال الحريري يعيق السلام السوري- الإسرائيلي

عيبُ رؤية الرئيس جورج بوش الى الوضع في الشرق الأوسط أنها «تعتمد على أن يصبح العراق نموذجاً للديموقراطية، بالتالي حرمان الإرهابيين من الدعم وتمكين المعتدلين العرب... وفي هذا السيناريو، على الهدوء في القدس أن ينتظر تحرير بغداد!

هكذا اختصرت مادلين أولبرايت سياسة بوش في الشرق الأوسط لتنصح الرئيس الأميركي المقبل بأن يفهم أن كيفية الفشل مهمة إذا لم يحقق النجاح «فثمة اختلاف صارخ بين شرق أوسط يُقر فيه باحتمال التوصل الى سلام وشرق أوسط تتلاشى فيه الآمال. في الحالة الأولى ينظر الى الذين يسعون الى التسوية باهتمام على الأقل، أما في الثانية فإن المحاربين فقط هم الذين يقودون الساحة».

ولا تبدي أولبرايت عدائية واضحة تجاه «حزب الله» اللبناني، بل تلاحظ أن الإسرائيليين استحدثوا «عدواً جديداً دونما حاجة على حدودهم الشمالية». وتتذكر بتعاطف رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري الذي «أصبح يعرف باسم «السيد لبنان» (...) وفي شباط (فبراير) 2005 أصبح يعرف بالشهيد بعد أن قُتل بسيارة متفجرة، قد يكون عملاء سورية زرعوها وقد لا يكونون».

وتنصح أولبرايت بالعمل بجدية «لتحديد المعتدلين الذين يهتمون بمساعدة مواطنيهم أكثر مما يهتمون بالإثراء»، و «التوقف عن المساواة بين العلماني والمعتدل (...) إذ يمكن التعبير عن الحجة المؤيدة للتسوية العربية - الإسرائيلية بعبارات دينية لا تقل قوة عن العبارات السياسية».

في حالة لبنان وفي الحالات الأخرى الشرق الأوسطية تلاحظ أولبرايت وجود خيارات: مبادرة السلام العربية واستئناف المفاوضات السورية – الاسرائيلية على رغم وجود نقطتي ضعف في هذا الخيار: «أولاً يجب أن تُحمّل سورية مسؤولية مقتل رفيق الحريري أو تُبرّأ منها ولا يمكن التوصل الى اتفاق سلام الى أن تتضح هذه المسألة، ثانياً، من المرجح ألاّ توقع سورية اتفاقاً الى أن يكون الفلسطينيون مستعدين للتوقيع...».

في هذه الحلقة تضيء أولبرايت على صورة الوضع في الشرق الأوسط وتكشف نقاطاً مشتركة هي بمثابة ثوابت في الفكر السياسي الأميركي تجاه المنطقة:

لا يمكن اتهام الرئيس بوش بالافتقار إلى رؤية شاملة للشرق الأوسط. لكنّ عيبها أنّها تعتمد على أن يصبح العراق نموذجاً للديموقراطية، بالتالي حرمان الإرهابيين من الدعم، وتمكين المعتدلين العرب. وفي هذا السيناريو، الهدوء في القدس يلي في شكل طبيعي تحرير بغداد.

كان بوش عازماً على عدم تكرار الأخطاء التي اتهم بيل كلينتون بارتكابها: الإفراط في تقدير ياسر عرفات، والضغط على إسرائيل لاتخاذ مواقف مقايضة يقبلها الفلسطينيون. ففي النهاية فشلت استراتيجية فريق كلينتون، كما يقول المنتقدون، ولم تبلغ ذروتها في السلام بل في الإحباط وخيبة الأمل. واضح أنّ عرفات كان يقوم بدور مزدوج، فيثرثر عن أغصان الزيتون فيما يحضّر طوال الوقت لاستغلال نفوذه في الشارع.

تدخّل كلينتون وبذل أفضل ما بوسعه ولم ينجح. كانت خطة بوش التراجع والسماح لإسرائيل بأن تفعل ما عليها لحماية نفسها. المأزق في الشرق الأوسط هو أنّ اتباع نهج مناقض للذي اتبعه كلينتون مصيره الفشل التام. إذ فسّر العرب موقف بوش بأنّه غير مبالٍ، وأنّ دعمه غير المشروط لأرييل شارون موقف عدائي. وبدلاً من أن يؤدّي ذلك إلى إكراه الفلسطينيين على الاعتدال، تحوّلواً أكثر نحو التطرّف، وتراجع النفوذ الأميركي. وتصعب رؤية فائدة ذلك بالنسبة إلينا أو الى إسرائيل.

في منتصف الفترة (الرئاسية) الثانية، بدّل فريق بوش اتجاهه محاولاً تصحيح الضرر الذي أحدثه. وأمضت وزيرة الخارجية رايس مزيداً من الوقت في الشرق الأوسط في محاولة فرض النظام على الأحداث. لكن المشكلة أنّه كلما انهارت عملية السلام، ازدادت صعوبة البدء مجدداً. فالديبلوماسية ليست مفتاح نور يمكن إضاءته وإطفاؤه، بل تتطلّب تياراً منتظماً من الاتصالات والمحادثات والاستقصاءات والتجارب. وإذا قطِع لا بدّ من حدث مثير يعيد إطلاق الزخم باتجاه السلام، وبخلاف ذلك فإنّ كل طرف سيعدّ للمستقبل من دون سلام. ويعني ذلك بالنسبة إلى الإسرائيليين استخدام القوة لمنع الهجمات وردعها والردّ عليها. أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، فإنّه يعني القتال في ما بينهم على قيادة الكفاح، ثم توجيهه ضدّ إسرائيل. ويعني بالنسبة إلى القادة العرب زيادة المشاعر المعادية لإسرائيل وأميركا لدى مواطنيهم؛ ما يطيح الآمال بالاستقرار.

بداية الحكمة في الشرق الأوسط أن تفهم أنّ كيفية الفشل مهمّة إذا لم تحقّق النجاح. فثمة اختلاف صارخ بين شرق أوسط يقرّ فيه باحتمال التوصّل إلى سلام، وشرق أوسط تتلاشى فيه الآمال. في الحالة الأولى ينظر إلى الذين يسعون إلى التسوية باهتمام على الأقل؛ أما في الثانية، فإنّ المحاربين فقط هم الذين يقودون الساحة.

أنت لا تملك سلطة اتخاذ القرار عن القادة العرب والإسرائيليين بطبيعة الحال. وثمة احتمالات كبيرة بأن يستمرّ بعض أشكال العنف، بصرف النظر عن المهارة التي تظهرها. لكن أمامك فرصة استعادة سمعة أميركا كوسيط نزيه، وبلد يهتمّ بحياة جميع مَن في المنطقة ورفاههم. وذلك موقف أفضل من موقفنا اليوم.
في أثناء حملتك الانتخابية، أوضحت صراحة التزامك حقّ إسرائيل في الوجود ضمن حدود آمنة، وحقها في الدفاع عن نفسها ضدّ كل التهديدات. وامتدحت إسرائيل باعتبارها الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأشرت إليها بأنّها حليف استراتيجي في محاربة الإرهاب. وقلت إنّ إسرائيل وأميركا تتشاركان القيم ذاتها، وذكرت زياراتك للأماكن المقدّسة في القدس وحولها، وتعهّدت أن تقف أميركا إلى جانب إسرائيل ما دامت الشمس تشرق.

كل ذلك جيد، إذ قلت الشيء ذاته تقريباً وعنيته. ولكن اعلم أنّ كل كلمة مما قلت سُمِعت في الشرق الأوسط بوضوح كما في أميركا. وصرف المعلّقون العرب النظر عنك بأنّك سجين آخر لما يسمّونه «اللوبي الإسرائيلي». كما أنّ وعودك لم تضمن لك ثقة إسرائيل أو أكثر مؤيّديها صراحة. وستراقَب عن كثب، لمعرفة هل تتحدّث كرئيس في شكل مختلف عما تتحدّث به كمرشّح.

لضمان التواصل الجيد عليك الحفاظ على الحوار مع قادة الطائفة اليهودية الأميركية. لا يمكنك أن تجتمع مع كل منهم على حدة، لذا احرص على الدعوة في شكل منتظم إلى مؤتمر كل شهرين؛ أو بوتيرة أسرع إذا اقتضت الأحداث. فكِّر في ذلك كضمان سياسي. ستتقلّص حاجة الذين انتقدوك مباشرة إلى انتقادك في صورة غير مباشرة، وقد يجد من يرفعون الهاتف عازمين على إلقاء المحاضرات عليك، أنفسهم غاضبين من تعليقات زملائهم القادة، وبأنّ يوبّخ كل منهم الآخر بدلاً من ذلك.

يجب بالطبع أن تصحب كل دعوة لقادة اليهود، دعوة لممثّلي العرب الأميركيين (...) يجدر بك الحرص على هذه الاتصالات لأنّها ستظهر للجميع أنّك تتفهّم عمق مشاعرهم.

إنّ متابعة السلام تتطلّب شريكاً وخطة. والأول أكثر أهمية من الثانية، لأنّ الخطة لن تكون أكثر من قطعة ورق من دون شريك. لم يكن عرفات محاوراً مثالياً، ولكن كان بوسعه تمثيل الشعب الفلسطيني على الأقل. كان يعرف كيف يلجم الفئوية ويقلّل العنف بين الفلسطينيين. وهو رفع شأن قضيّته الوطنية لتشغل البند الأول في جدول الأعمال العربي من دون الاعتماد على الحماسة الدينية. وكان بوسعه صنع السلام لو تجرّأ على ذلك، لكنّه آثر ألاّ يجرؤ.

اليوم لا توجد شخصية مماثلة للتفاوض معها. الرئيس الفلسطيني محمود عباس من دعاة التسوية الشجعان، لكنّه يفتقر إلى سحر عرفات السياسي. للتفاوض عن شعب ما، يجب أن يمتلك القائد الشرعية والقدرة على احترام الالتزامات. وعلى رغم أنّ عباس منتخب كما ينبغي، فإنّه لا يستطيع التحدّث باسم «حماس»، ولم يظهر أيضاً القدرة على السيطرة على الفئات المتشدّدة داخل حزبه. أصبحت الحركة الفلسطينية تشبه نظاماً شمسياً فقد نجمه؛ ليست هناك جاذبية، بل اصطدامات فحسب؛ الاصطدام بين الديني (حماس) والعلماني («فتح» عباس). وللمنفيين الفلسطينيين جداول أعمال مختلفة عن جداول أعمال الشعب المقيم داخل أراضي السلطة الفلسطينية، في حين أنّ غزة والضفة الغربية تشبهان بلدين صغيرين منفصلين، وكلاهما يفتقر إلى الأداء الجيد.

في غضون ذلك، انهار جهاز عرفات الأمني المعقّد، المصمّم للحؤول دون أن يراكم أحد المرؤوسين قوة كبيرة، إذ تتقاتل الفئات المختلفة، وتجوب العصابات المسلّحة الأحياء. وسط هذا الالتباس، تطوّرت ثقافة فرعية تمجّد التفجيرات الانتحارية. ويختار الشبان صوراً فوتوغرافية لهم يأملون بأن تعلّق ذات يوم على الجدران عندما يستشهدون. ويتحدّث بعض الآباء صراحة، وأحياناً بحماسة، عن التضحية بأبنائهم، أقل مما يتحدّثون عن التضحية بأنفسهم. وذلك مشهد كئيب ومحزن.

أما الإسرائيليون فإنّهم تخلّوا تقريباً عن المفاوضات الجدية لأنّهم لا يؤمنون بأنّ الفلسطينيين الذين يريدون السلام حقاً قادرون على التغلّب على الذين لا يوافقون على شروطها، أو يريدون التغلّب عليهم. تحوّلت إسرائيل، تحت قيادة شارون، إلى التدابير الأحادية؛ أي الانسحاب من غزة، وبناء الجدار الأمني، واستهداف المسؤولين عن الهجمات. ويفتقر خلفاء شارون، المثقلون بالضعف السياسي، إلى الاتجاه الواضح. لا يزال معظم الإسرائيليين راغباً في السلام، ولا يرى بديلاً منه قابلاً للحياة، وسيدعم التدابير التي تشجّعه؛ لكنّه فقد الإحساس بالجرأة في ما يتعلّق بكيفية تحقيقه (...).

حرب «2006»
أدّت الحرب بين إسرائيل ولبنان في صيف 2006 إلى سقوط أكثر من ألف ومئتي قتيل، وتسبّبت في أضرار تزيد على بليومي دولار، وعمّقت الغضب العربي من إسرائيل، وأحيت أيضاً ذكريات الغزو السابق.

في 1982، هاجمت إسرائيل لبنان لطرد منظمة التحرير الفلسطينية وإقامة حكومة في بيروت توقّع معها معاهدة سلام، وتصبح - وفقاً لتعبير شارون - «جزءاً من العالم الحرّ». ولهذه الغاية تحالفت اسرائيل مع ميليشيا مسيحية نظمها مؤسسها على غرار شبيبة هتلر النازية. كان الغزو وحشياً، فقتل آلاف من المدنيين اللبنانيين وجرح عشرات الآلاف أو أجبروا على النـزوح. وبعد فترة من القتال الشديد، نجحت إسرائيل في إخراج قيادة منظمة التحرير لكنّها فشلت في تحويل السياسة اللبنانية التي أصبحت أشدّ تعقيداً ما دفع إلى نشر قوات متعدّدة الجنسية تضمّ قوات أميركية. وفي إحدى المراحل، فوّض الرئيس ريغان السفن الحربية الأميركية قصف مواقع المسلمين دعماً للجيش الوطني اللبناني العاجز. وأظهرت وسائل الإعلام في العالم العربي قذائف كتب عليها «صنع في أميركا» تقتل المسلمين، لمصلحة الحكومة المسيحية المتحالفة مع إسرائيل الغازية. وفي مراحل لاحقة، تولّى الجنود الإسرائيليون الحراسة فيما تسلّلت ميليشيا مسيحية إلى مخيّمين للاجئين في بيروت وارتكبت مجزرة في حقّ المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين.

وكإثبات آخر على أنّ النوايا نادراً ما تتوافق مع النتائج في الشرق الأوسط، استحدث الإسرائيليون عدوّاً جديداً دونما حاجة، على حدودهم الشمالية. لم يكن اللبنانيون الشيعة، الذين لم يكونوا على وفاق مع منظمة التحرير عموماً، الهدف المقصود للغزو الإسرائيلي. مع ذلك، أصبحوا ضحية العنف لأنّهم يعيشون في مسار الغزو ويفتقرون إلى الموارد اللازمة للفرار. وتفجّر الغضب الشيعي في حركة سياسية فتية، «حزب الله»، أنشأت ميليشيا لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي اللاحق. كان «حزب الله» مخلصاً ومنضبطاً، وذا روابط وثيقة بأتباع طائفته في إيران، فنظّم صفوفه لتقديم الخدمات الاجتماعية ومنح صوتاً للشيعة الذين كانوا عالقين منذ مدة طويلة في أسفل درجات السياسة والمجتمع اللبناني. وعندما انسحبت طوعاً القوات الإسرائيلية عام 2000، ادّعى الحزب الفضل في إجبارها على الخروج.

لبنان أرض للناجين الذين لم يكن بقاؤهم مضموناً البتة. إنّه صغير، بحجم كونتيكت تقريباً، ذو شعب منقسم وفقاً للدين والعائلة والإيديولوجيا السياسية والمكانة الاقتصادية. المسيحيون منقسمون في ثلاثة اتجاهات على الأقل، فيما يضمّ المسلمون السنّة والشيعة والدروز، والأخيرون طائفة عمرها ألف سنة تؤمن بالتقمّص الفوري وتبجّل النبي شعيب.

شاهدت كوزيرة للخارجية ميراث الحرب الأهلية اللبنانية التي عصفت بالبلد في السبعينات والثمانينات؛ بل إنّ أجزاء من بيروت كانت لا تزال مخرّبة عندما زرتها في 1997. سار موكبنا الصغير عبر شوارع المدينة - كان حرّاسنا متوتّرين وأصابعهم على الزناد - إلى السفارة الأميركية القائمة على ربوة محاطة بنقاط تفتيش وعرض رهيب للأسلحة الثقيلة. انتهت الحرب الأهلية لأنّ القوات السورية تدخّلت لإنهائها؛ ثم تجاهلت الخروج. كان الرئيس السوري حافظ الأسد يزعم أنّ لبنان تابع لبلده، وخضع السياسيون اللبنانيون طوال التسعينات إلى ضغوط شديدة لتنفيذ ما يطلبه. وكان تدخّله الدائم يعني أنّه عندما توجّهت إلى موعدي المقرّر مع رئيس الوزراء اللبناني، رفيق الحريري، شعرت وكأنني فتاة ذاهبة إلى موعد مع صبي يرفضه والديّ. وكان علي أنا والحريري أن نخرج إلى الشرفة، بعيداً عن مدى أجهزة التنصّت السورية؛ حسبما أملنا. أبلغت رئيس الوزراء أنّنا ندعم السيادة اللبنانية، وسُرَّ بالموافقة على طلبه - بعد فترة وجيزة - رفع حظر سفر الأميركيين إلى بلده.

كان الحريري المجتهد رجل أعمال ثرياً أصبح يعرف باسم «السيد لبنان» لأنّه لم يسمح لأحد بالتآمّر عليه. وفي شباط (فبراير) 2005 أصبح يعرف بالشهيد، بعد أن قُتل بسيارة متفجّرة قد يكون عملاء سورية زرعوها وقد لا يكونون. كانت الخلافات الفئوية داخل لبنان مكبوتة ما دامت سورية تسيطر عليه. وأجبر الاضطراب الذي نتج عن مقتل الحريري، دمشق على سحب قواتها؛ وتلك أخبار طيّبة، لكنّها أثارت أسئلة جديدة أيضاً، لأنّ لبنان لم يجد بعد وصفة للوصول إلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي.

اليوم يشهد البلد مجدداً انقساماً خطيراً. يوجد «حزب الله» وحلفاؤه في جانب، وفي الجانب الآخر ائتلاف يضمّ السنّة والدروز ومعظم المسيحيين. يميل الدخلاء إلى افتراض أنّ لبنان منحاز بطرق تتوافق مع إحساسهم بالخطأ والصواب. ربما تسهل الأمور عليك كرئيس، لو كان أحد الجانبين في لبنان يمتلك كل الفضائل. لكن العديدين ممن نربطهم بالاعتدال السياسي لديهم سمعة تتسم بالفساد. أما «حزب الله» الذي نربطه محقين بالإرهاب، فإنّ سمعته نزيهة نسبياً. ويوجد الانقسام نفسه بين الفلسطينيين، حيث خاضت «حماس» (إرهابية أيضاً) حملتها الانتخابية بناء على برنامج للإصلاح السياسي، في حين بدّدت «فتح» الكثير من الفرص التي منحت لها. طالما قدّم الأميركيون التزاماً لفظياً بالحكم الصالح في الشرق الأوسط، في حين قدّموا المال، لأسباب سياسية، إلى الذين لا يمارسونه. إذا أردنا ألاّ نُعتبر منافقين، علينا العمل بجدية لتحديد المعتدلين (وهناك بعضهم) الذين يهتمّون بمساعدة مواطنيهم أكثر مما يهتمّون بإغناء أنفسهم. وعلينا أيضاً، لدى البحث في المجموعات السياسية العربية، التوقف عن المساواة بين «العلماني» و»المعتدل». فتلك صورة نمطية، وغالباً لا تكون دقيقة على غرار معظم الصور النمطية. فلا يهم، بالنسبة إلى صانع السياسة، لماذا يؤمن شخص ما بشيء ما بمقدار أهمية ما يؤمن به. ويمكن التعبير عن الحجّة المؤيّدة للتسوية العربية الإسرائيلية بعبارات دينية لا تقل قوة عن العبارات السياسية، والمرجّح أن يبرز خطاب الحرب على لسان الوطني بمقدار ما يبرز ممن لا يدين بالولاء إلا لله.

انتهت حرب 2006 بنشر قوة موسّعة من الأمم المتحدة لحفظ السلام على طول الحدود بين إسرائيل ولبنان. ودعا مجلس الأمن الحكومة اللبنانية إلى نزع سلاح ميليشيا «حزب الله»، لكنّها تفتقر القدرة على القيام بذلك. ربما تكون الحدود هادئة الآن بسبب وجود قوات الأمم المتحدة، ولكن في غياب أي تغيير سياسي، فإنّ ثمة احتمالاً كبيراً لجولات جديدة أوسع من القتال. وكما الحال دائماً في الشرق الأوسط، يمكن تعريف السلام بأنّه فترة من الهدوء بين حربين.

«شرعية الدولة اليهودية»
الدولة اليهودية قائمة منذ فترة وجيزة في تاريخ المنطقة؛ مجرّد ستين سنة. وتستند شرعيتها الى ثلاث دعائم: الأولى دينية (حقّ اليهود في دولة في وطنهم التاريخي)، والثانية أخلاقية (المحرقة)، والثالثة قانونية (اعتراف الأمم المتحدة). على رغم أن إسرائيل الآن أقوى من جيرانها بكثير، تحذّر التجربة من أنّ مثل هذه المعادلات يتطوّر. من الاحتمالات المثيرة للقلق أنّ الدول العربية ستستخدم شبح إيران القوية للحصول على مزيد من الأسلحة المتقدّمة. وإذا كانت الولايات المتحدة تتوخّى الحذر في ما تبيعه، فإنّ الآخرين (بمن فيهم روسيا والصين وحتى فرنسا) قد يكونون أقل تمييزاً. كما أنّ عدد الفلسطينيين بين نهر الأردن والبحر المتوسّط يرتفع بسرعة أكبر بكثير من ازدياد أعداد اليهود. وإذا لم تثبّت الحدود الدائمة، قد تجد إسرائيل نفسها مكتسحة.

إذا استنتج الإسرائيليون من خيباتهم السابقة أنّ حلم السلام مات بالفعل، قد يحاولون أن يفرضوا شروطهم للتعايش بقوة أشدّ. وأسرّ لي بنيامين نتانياهو، في أحد اجتماعاتنا المبكّرة، عندما كان كل منا في منصبه، بأنّ «الإسرائيليين يعرفون أنّ غياب السلام قد يدفعهم إلى القتال. لكنّهم يعتقدون بأنّهم سيقاتلون على أي حال، ويفضّلون قتال سلطة فلسطينية ضعيفة على قتال دولة فلسطينية أقوى، تحظى باعتراف دولي». مع أنّ آراء نتانياهو ربما اعتراها بعض الاعتدال بعد ذلك، فإنّ لديه أفكاراً غير واقعية في شأن الترتيبات التي قد يقبل بها الفلسطينيون. كان يرى عملية السلام بمثابة شِرك، لأنّها تؤدّي إلى تنازلات في الأرض والأمن تضعِف الميزة العسكرية الإسرائيلية.

هذا النمط من التفكير خطير على إسرائيل، لأنّه يقود إلى استنتاج أنّ الأمن لا يأتي إلاّ عبر التشدّد العسكري والاقتصادي والديبلوماسي. وتقوم هذه النظرية كما يبدو، على امكان ترهيب الفلسطينيين لدفعهم إلى التخلّي عن أهدافهم السياسية. لن يحدث ذلك أبداً. وإذا تخلّى الإسرائيليون عن آمالهم بالسلام، سيقلّ أصدقاؤهم بمرور الوقت ويكثر أعداؤهم، وليس هذا الطريق الذي يريدون سلوكه.

ربما يثبت أنّ إنهاء الاختلاف بين المواقف العربية والإسرائيلية مستحيل، ولكن يمكن تضييق الهوة بينها، ومحاولة كهذه لن تؤدي الى خسارة الكثير. إنّ القول بأنّ عملية السلام أضعفت إسرائيل ما هو إلاّ لغو وثرثرة. هل تكون إسرائيل أكثر أمناً لو استمرّت في احتلال سيناء، أو استمرّت حال الحرب بينها وبين الأردن؟ وهل تكون بمأمن أكثر لو بقيت قواتها في رام الله، أو لو لم يُعرض على الفلسطينيين سبيل سلمي إلى الدولة؟ هل كان ضعف أمنها لو أنّها بدلاً من الانسحاب في صورة أحادية من غزة، فعلت ذلك كجزء من مفاوضات يُحسب لمصلحة الفلسطينيين المعتدلين؟ (...).

يخشى الإسرائيليون من أنّهم سيعيدون الأرض مقابل وعد بالسلام، ليجدوا أنفسهم محاطين بالمقاومة والإرهاب. وكما يحذّر المزمور، «أنعم من الزبدة فمه، وقلبه قتّال».

ويتردّد الفلسطينيون، «فتح» و «حماس» على السواء، في الإذعان للسيادة الإسرائيلية فوق أي فدان مما يعتبرونه أرض العرب، أو توقيع تنازل عن حقوق العائلات في العودة إلى بيوتها الأصلية. بل إنّ احتمال أن يصبح عرفات جورج واشنطن الفلسطيني لم يقنعه باتخاذ هذه الخطوات، وبدلاً من ذلك خشي أن يُنظر إليه كخائن مثل يهوذا الإسخريوطي، أو يُغتال مثل أنور السادات.

في الأيام الأخيرة من رئاسة كلينتون، بدا أنّ المفاوضين الإسرائيليين والفلسطينيين اقتربوا من الاتفاق على كل القضايا، بما في ذلك تقسيم القدس، والترتيبات الحدودية، وإعادة تعريف حقّ العودة. غير أنّ الاقتراب في الظاهر لا يعني أنّ النجاح قابل للتحقيق، بل أنّ من الممكن الاقتراب فحسب.

الاعتراف بذلك يخالف تفاؤلي المعتاد، ولكن لا بدّ من خيال جامح لتصوّر قبول أي فلسطيني اتفاقاً يعرض أقلّ مما رفضه عرفات؛ أو تصوّر أي قائد إسرائيلي يقبل أي اتفاق يقدّم المزيد(...).

نصيحتي لكَ، (للرئيس الأميركي المقبل) أن تركب دوّامة الأحداث المتعاقبة منذ بداية إدارتك. ربما لا تستطيع دفع الأحداث قدماً، لكنّ المتفرّجين لا يصنعون التاريخ، كما أنّ مساعي السلام يمكن أن ترفع الآمال وتنقذ الأرواح ولو فشلت. يرى بعضهم أنّ بيل كلينتون أخطأ عندما رفع التوقّعات كثيراً؛ وذلك هراء، كما أنّه ليس المشكلة اليوم على أي حال. إنّ مهمّتك هي إلهام الناس في المنطقة باستئناف التفكير في شأن احتمالات السلام ومقارنة ذلك بالوقائع التي شهدوها في السنوات الماضية.

ثمة أكثر من خيار واحد للبدء. مبادرة السلام العربية التي أعلنها السعوديون عام 2002 وأعادت جامعة الدول العربية مباركتها في 2007، ليست جديدة أو محدّدة أو متعاونة في شكل خاص. غير أنّها تعد بدعم عربي شامل للسلام الحقيقي والعلاقات الطبيعية مع إسرائيل. في المقابل، على إسرائيل الانسحاب إلى حدود ما قبل 1967، وحلّ مشكلة اللاجئين بطرق غير واضحة. وهي كاقتراح تعكس نقطة الانطلاق العربية، لكنّها تعزل «حماس» وتتيح فرصة كبيرة لإجراء محادثات عربية - إسرائيلية مباشرة.

ثمة احتمال ثانٍ - يمكن إدراجه في الأول - وهو استئناف المفاوضات بين إسرائيل وسورية. وذلك أمر منطقي لأنّ سورية، خلافاً للفلسطينيين، لديها حكومة تستطيع إسرائيل التفاوض معها، والمشاكل أسهل لأنّها لا تشمل القدس وحقّ العودة. كما أنّ المفاوضات الإسرائيلية - السورية يمكن أن تدفع إيران جانباً وتقرّب سورية من أشقائها العرب. وربما تكون لذلك نتائج مفيدة في لبنان، حيث ستخسر ميليشيا «حزب الله» سبب وجودها إذا عُقد سلام مع إسرائيل. لكن هناك نقطتي ضعف في هذه الاستراتيجية: أولاً، يجب أن تٌحمَّل سورية مسؤولية مقتل رفيق الحريري أو تُبرّأ منها؛ ولا يمكن التوصّل إلى اتفاق سلام إلى أن تتضح هذه المسألة. ثانياً، يرجّح ألاّ توقّع سورية اتفاقاً إلى أن يكون الفلسطينيون مستعدّين للتوقيع أيضاً، لا لأنّ سورية تهتمّ لأمرهم بل لأنّها تهتمّ بموقف الرأي العام العربي.

عليك التشديد على منطق السلام أياً يكن النهج الذي تتبعه. فليس أمام العرب واليهود من خيار سوى العيش جنباً إلى جنب. لكن الخيار الذي يملكونه بالفعل هو هل يعيشون بسلام نسبي أو إرهاب دائم؟ اتضحت الشروط العامّة للسلام عبر العمل الدؤوب لبيل كلينتون: دولة فلسطينية عاصمتها القدس تضمّ غزة ومعظم الضفة الغربية؛ وتسوية في شأن اللاجئين؛ وإعادة مرتفعات الجولان بمعظمها أو بأكملها؛ وقبول العرب بإنهاء النزاع وحقّ إسرائيل في الوجود ضمن حدود آمنة. إذا لم يكن السلام الرسمي وفقاً لهذه الخطوط ممكناً قريباً، يبقى الخيار المطروح: هل من المنطقي السعي نحو إيجاد تسوية؟ الجواب هو نعم. هناك خطوات لا ترقى إلى السلام، مثل وقف النار، يمكن أن تنشئ شيئاً من الثقة؛ وكما أنّ الدعاء قد يجدي ولو لم يُستجب على الفور، فإنّ المحادثات وحدها قد تقود إلى اتجاه مقبول مع الوقت. ورأينا البديل على أي حال (...).

إنّ بعد النظر نادر في العالم العربي، لكن ذلك لا يقتصر عليه. فلدينا في الشرق والغرب ميل إلى البحث عن معلومات تؤكّد افتراضاتنا بدلاّ من أن تختبرها. وننشد الذخيرة الخطابية بشدّة تفوق بحثنا عن الحقيقة الموضوعية. المشكلة أكبر من رئاستك، ومع ذلك، أميل إلى الاعتقاد بأنّ عليك تقديم الحجة من أجل اتباع نهج نقدي أكثر، والشرق الأوسط هو المختبر الواضح. إذا كان بإمكان نجاد رعاية ندوة عن الأكاذيب المتعلّقة بالمحرقة، يمكنك على الأقل أن تشارك في رعاية حوار مفتوح عن أبعاد الحقيقة في الشرق الأوسط(...).

إذاً هذه هي الرسالة التي عليك أن تردّدها مراراً وتكراراً من البيت الأبيض: لا يمكن التوصّل إلى أي حلّ في الشرق الأوسط من دون تعديل بعض الأحلام على الأقل؛ ولا قوة في العالم تستطيع وقف إرهابي قوي العزيمة؛ لكنّ الفتح ليس الحلم الوحيد، والعزيمة ليست حكراً على الإرهابيين. العنف خيار في النهاية، وعندما تكون لدى الناس القدرة على الاختيار، تصبح لديهم القدرة على التغيير.

 

ترجمة: عمر سعيد الأيوبي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...