خبرة الردع بين مدرسة الجيش العربي السوري ومدرسة الجيش الإسرائيلي
الجمل: لم تعد ثنائية ظاهرة الحرب وظاهرة السلم، تنفصلان عن بعضهما البعض، وإنما تطورت التقاطعات بين الظاهرتين، مكونة ظاهرة ثالثة هي ظاهرة اللاحرب- اللاسلم.. وإذا كانت ظاهرة الحرب تتضمن استخدام الوسائط الحربية والقتالية، وظاهرة السلم تتضمن استخدام وسائط التعاون والتكامل، فإن ظاهرة اللاحرب- اللاسلم، تتضمن خليطاً معقداً من الوسائط والأساليب وأدوات التعامل بين الأطراف المتخاصمة، وإحدى هذه الوسائط تتمثل في اللجوء لاستخدام (الردع).. وتأسيساً على ذلك، وعلى خلفية قيام الطائرات الحربية الإسرائيلية للأجواء السورية نتساءل: هل كان الانتهاك الإسرائيلي ردعاً لسورية؟ وهل كان رد المضادات السورية ردعاً لإسرائيل؟
• نظرية الـ(ردع).. الإطار النظري التحليلي:
تم تطوير الأسلوب الاستراتيجي المتعلق بنظرية الردع في وقت متأخر نسبياً، وظل يتم استخدامها طوال فترة الحرب الباردة وفترة ما بعد الحرب الباردة، وقد تميزت فترة الحرب الباردة بالردع النووي بين المعسكر الغربي الرأسمالي (حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة)، والمعسكر الشرقي الاشتراكي (حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفييتي)، وقد شهدنا في هذه الفترة استخدام المناورات العسكرية، ودبلوماسية البوارج الحربية، ونشر بطاريات الصواريخ البالستية، وإجراء التجارب النووية، وغير ذلك من أساليب الردع. أما في فترة ما بعد الحرب الباردة، فقد انفرد المعسكر الغربي الرأسمالي، وتحديداً الولايات المتحدة باستخدام أسلوب العمل من طرف واحد في كافة المجالات بما يتضمن الردع عن طرق استخدام القوة، كما حدث في: يوغسلافيا، أفغانستان، العراق، الصومال، السودان، وليبيا.. أو التهديد باستخدامها كما حدث في حالات: سورية، إيران، كوريا الشمالية، فنزويلا، كوبا... وغيرها.
وتأسيساً على ما سبق، فهناك نوعان من الردع، هما:
- الردع بالعقاب: ويتمثل في القيام بعمليات الانتقام أو القصاص التي تتم بين الدول والكيانات السياسية، وتهدف إلى جعل الأطراف المعتدية تعدل سلوكها من أجل تلافي وتفادي العقاب.
- الردع بالمنع: ويتمثل في اتخاذ الإجراءات والضوابط، والترتيبات اللازمة لمنع الأطراف الأخرى من الاعتداء على النحو الذي يؤدي إلى تقليل تأثيرات اعتداءاتها إلى أقل ما يمكن، أو لتحييدها، أو منعها بشكل تام.
• خبرة الردع في الشرق الأوسط.. بين (مدرسة) الجيش العربي السوري، ومدرسة الجيش الإسرائيلي:
الفترة من عام 1948م، (وتحديداً لحظة قيام الكيان الإسرائيلي) وحتى اليوم، شهدت ستة حروب عربية- إسرائيلية (مرتفعة الشدة)، وذلك في أعوام 1948، 1956، 1967، 1973، 1982، 2006.. أما العمليات الحربية (منخفضة الشدة)، فهي بالآلاف، وكما تقول الإحصاءات فقد واجه القطر العربي اللبناني الشقيق وحده أكثر من ألف عملية من هذا النوع.. وبمختلف الأنواع، بدءاً من العمليات السرية الاستخبارية والطلعات الجوية، وانتهاء بعمليات الاقتحام العسكري البري والقصف البحري وغيرها.
محتوى تعريفات العلوم السياسية، ونظرية علم الأمن القومي، وعلم الحرب، والعلم الاستراتيجي، تشير إلى أن مفهوم الردع تتضمن ثلاثة عناصر أساسية، هي:
- امتلاك القوة، وذلك لأنها تمثل العنصر المادي الأول، لأنه لا ردع بلا قوة.
- القدرة على استخدامها، وذلك لأن عدم القدرة على استخدام القوة، يفقد القوة معناها الحقيقي.
- جعل الأطراف الأخرى تدرك حتمية أنها الخاسرة من جراء استخدام هذه القوة.
واستناداً إلى حقيقة محتوى ومضمون هذا المفهوم، ومن واقع معطيات خبرة الردع في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي، يمكن القول بأنه قد نشأت مدرستان للردع العسكري، في منطقة الشرق الأوسط، وهما مدرستان تقومان على أساس اعتبارات محتوى ومضمون عملية الردع العسكري، وهما:
- مدرسة الجيش الإسرائيلي: وتقوم هذه المدرسة على عنصر امتلاك القوة العسكرية المفرطة المتطورة تكنولوجياً، والاستقواء بأمريكا وحلفائها، إضافة إلى التهديد المستمر باستخدامها، عبر تصريحات العسكريين من قادة الجيش، والسياسيين (الذين هم بالأساس عسكريين سابقين)، وذلك دون تقيد باحترام القوانين والمواثيق الدولية، والطاقة المفرطة في تضخيم الذات وعدم الاعتراف بالآخر، على النحو الذي يصل إلى حد (العجرفة والغطرسة).
- مدرسة الجيش العربي السوري: وتقوم هذه المدرسة على أساس اعتبارات امتلاك القوة العسكرية المادية القادرة على تحقيق الدفاع عن النفس ومواجهة الخصوم، وأيضاً احترام النفس والآخرين، والتمسك بالدفاع عن الحقوق المشروعة الثابتة، ويتميز الأداء السلوكي لهذه المدرسة بالثقة بالنفس، وتحقيق التوازن بين ما هو سياسي وما هو عسكري، وبخلاف المدرسة الإسرائيلية، والتي يتميز فيها القادة العسكريون بكثرة التصريحات وتجاوز القيادة السياسية على النحو الذي يخل بأبسط توازن مبادئ الأمن القومي وسيادة الدولة المتعارف عليها في دول العالم. يمكن القول بأن المدرسة السورية، ظلت دائماً تتميز بالتوازن، وعدم تخطي مبادئ الأمن القومي وأسس سيادة الدولة، ولم يحدث مطلقاً أن قام قادة الجيش العربي السوري بعقد المؤتمرات الصحفية وإطلاق التصريحات الرنانة، أو تخطى المنظومة القيمية المتعلقة بمنظومة الانضباط واحترام الواجب.
ظلت مدرسة الجيش الإسرائيلي أكثر عرضة وانكشافاً أمام الانكسارات وحالات الفوضى وعدم الانضباط، وقد ظل الجيش الإسرائيلي (مختبراً) للتجارب العسكرية، من جراء قيامه بتنفيذ الكثير من عمليات الردع بالحرب، وعمليات حروب الردع، وعلى وجه الخصوص ضد سورية، ولكنه بعد تنفيذ الآلاف من حروب وعمليات (الردع) ضد سورية في الساحة اللبنانية، لم يحصل في نهاية المطاف سوى على الهزيمة على يد بعض آلاف من مقاتلي حزب الله اللبناني (حليف سورية)، وهو الجيش الذي يفتخر جنرالاته ووزراء دفاعه بأنه خامس أقوى جيش في العالم بعد أمريكا وروسيا والصين وفرنسا.
اخترقت الطائرات العسكرية الإسرائيلية الأجواء اللبنانية آلاف المرات وكان نصيب الجيش الإسرائيلي الهزيمة، وبسبب عدم استيعاب الدرس اللبناني، فإن نصيب الدولة الإسرائيلية مع جيشها، سوف يكون كارثياً لو تمادى جنرالات إسرائيل العسكريين، وعساكر إسرائيل السياسيين في محاولة تنفيذ نموذج حروب وعمليات الردع غير المباشرة التي كانوا يقومون بها ضد سورية في لبنان، وتحويلها إلى عمليات ردع مباشر ضد سورية في سورية.
حتى الآن على ما يبدو، فإن الإسرائيليين لا يفهمون، أو ربما لا يريدون فهم المثل الشهير القائل بأن ما زاد عن حده انقلب ضده. وبكلمات أخرى: إذا كانت إسرائيل تعتقد بأنها تمتلك القوة الكافية لردع سورية، والقدرة على استخدامها ضد سورية، والقدرة على العمل من أجل جعل سورية تدرك انها سوف تكون الخاسرة في حالة استخدام إسرائيل للقوة، فإن على الإسرائيليين أن يفهموا بأن سورية تمتلك القوة الكافية لردع إسرائيل، والقدرة على استخدامها ضد إسرائيل، وأيضاً القدرة على إفهام الإسرائيليين وجعلهم يدركون بأن إسرائيل (وليست سورية) سوف تكون هي الخاسرة في حالة تصعيد المواجهة، واللجوء إلى استخدام القوة، ولكن، بعد كل ذلك، إذا كان جنرالات وزعماء إسرائيل لا يفهمون أو لا يريدون إدراك ذلك، فما ذنب سورية (إذا لم تفهم البقر) الموجودة في الكنيست والحكومة الإسرائيلية والبيت الأبيض ومجلس الأمن القومي الأمريكي.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد