عرس الفشل الشبابي يكتمل بزواج البطالة من "الفراغ"
الجمل – طرطوس – حسان عمر القالش: نكاد نسمع جيل الشباب يقول أجيروني..أنقذوني.. خلصوني. فالمصادفات السعيدة التي كانت تجمعك بشاب أو فتاة متفائلـَين ومتحمسَين للحياة باتت نادرة, كما هي دوما.
تزداد هذه النُـدرة اذا دخلت طرطوس زائرا أو سائحا أو حتى عابر طريق. فاذا أردت تجنب الشعور بالصدمة ولا منطقية أحوالهم, عليك أن تحذف من ذاكرتك أغلب ماتسمعه و تقرؤه من خبريات صحافية تعلن هنا وتهلل هناك وتحتفي في مكان آخر, بمشاريع ومشاريع, وأرقام وأرقام, وتدشين وافتتاح, كلها تحدثت, ومازالت, عما قد يخاله المواطن هجوما كاسحا للشركات والأعمال والأموال يزحف على هذه المحافظة, ويحمل اليها والى شبابها الأمل بالفرج.
لا شيء يتغير في طرطوس المدينة, سوى بعض الأبنية الجديدة التي يتسابق أصحابها مع أنفسهم للحاق بآخر وأعلى أسعار العقارات, ولحس أصابعهم من موجة الحمـّى العقارية التي تجتاح سوريا. الى جانب كثرة لافتات الاعلانات الطرقية بكلامها الواعد والمنافق التي ستلفتك هنا أكثر كونها لا تتناسب بصريا مع مدينة نامية. وأهم ما "لم يتغير" هنا, هو أحوال الشباب, الا اذا اعتبرنا تململهم الزائد واصابتهم بـ"تشمـع" الأفكار والطموح تغيرا !.
تكاد أوقات السهر تتحول أحيانا الى عراك وشجار بين فارس وفراس, فالأول يريد التفاصح على صديقه بفتحه حديثا عن حال البلاد الثقافية ومعارك الكتـّاب واصداراتهم المهمة, فيزفـر منه صديقه صارخا " لايهمني كل هذا الكلام..أنت أين ونحن أين"..!! . لا بد هنا من أخـذ نفس عميق طويل, ففي هذه المواقف, تستطيع أن تلمس واقعا مـّرا وصعبا يعيشه الشباب في هذه المحافظة, اضافة الى تكـدّر مزاجهم العام. فأي حديث لا يتطرق الى الهم المعيشي المباشر وفقر ذات اليد وفراغهم القاتل, صعب أن يأخذ نصيبه من النقاش والوقت, الا اللهم دردشات التندر بألفاظ وتعابير وئام وهاب التلفزيونية التي يهاجم فيها الأكثرية في لبنان.
أربع نماذج للعمل الشبابي والخامس..الى الفراغ
فمن ناحية عملهم نستطيع أن نميز في الشباب الطرطوسي بين أربع نماذج واضحة. أولها, التقليدي الكلاسيكي الشائع هنا هو نموذج "موظف الدولة". الذي يحافظ على صدارته وأولويته اجتماعيا, ومازال مطلوبا بشدة بين فئات الشباب – وأهاليهم – التي أيقنت واقع محافظتها اللا متغير, وتعلمت من تجارب من سبقهم, فيتم اختيار الانتساب الى العمل الحكومي منذ نعومة الأظافر الدراسية عندما يسجل الشاب أو الفتاة في قائمة رغباتهم الجامعية على كليات "الملتزم" أي تلك التي تلتزم الدولة بتوظيف خريجيها. فأحد الأصدقاء كان قد اختار كلية من تلك وفضلها على كلية الاقتصاد والتجارة التي تناسب مهاراته وشخصيته وطموحه, وبرأيه أن "الفترة الزمنية بين تخرجي وانتهائي من خدمة العلم حيث سأضمن وجود الوظيفة وانتظارها لي سأقضيها بالارهاق والضغط النفسي ريثما أجد في النهاية وظيفة ليست أحسن حالا من وظيفة الحكومة اذا لم أسجل في كلية ملتزم". وعدا عما يفعله هذا الخيار غالبا من "تدجين وتقنين" الأحلام والطموحات, فهو يؤدي بهؤلاء الشباب الى أن يعيشوا الحياة ذاتها التي خرجوا منها, فلا بد بالتالي للمجتمع من أن يصاب بعلة أو بمقتل ربما, خاصة أنه لا فكاك من هذه الوظيفة التي هي بنظر البعض تبقى "شيء مضمون", حتى ولو حاول صاحبها البحث عن عمل اضافي الى جانبها فهي ستحـد من تطوره وستكون كما قال أحدهم "كالمطـاّط مهما حاولت الابتعاد عنها ستشدك اليها وتخنقك" . لا ننسى هنا ظاهرة موسمية هي "التوظيف بالتعاقد" في دوائر الدولة, والتي يتسابق عليها الشباب وأهاليهم, طمعا ببعض القروش التي سيأخذونها خلال ثلاثة أشهر مدة العقد علها تسد رمق الصيف, الذي يعود فيه طلاب الجامعات الى أُسـرهم وبيوتهم.
النموذج الثاني هو "موظف العمل الخاص", الذي استجابت السماء لدعاء والديه والأولياء الصالحين وحصل على هكذا عمل, فهو سيتمسك به بيديه وأسنانه كما يقول العامـّة, وذلك بالرغم من تفاهة الأجر مقابل الجهد الجهيد, اضافة الى الخوف المزمن من الطرد المزاجي, وقلـّة تسجيل هؤلاء في مؤسسة الضمان الاجتماعي. ماذا نفعل هنا عندما يطلب الكابتن بلال أن نسعى لابنه الطالب الجامعي بوظيفة عند أي أحد من المعارف علـّه "يطالع مصروفه"..من هنا نستعود رؤية أقران وزملاء ابن الكابتن بلال وهم يُسلقون تحت شموس الصيف وهواء المرفأ الملوث حيث يعملون اما في التحميل أو في مراقبة العمال بعد أن يكون آباءهم قد تملـّقوا حيتان المرفأ من تجار ووكالات بحرية ومخلصين جمركيين, ومن حالفه الحظ من هؤلاء الشباب وكان مدردحا و"قد حاله" فهو سيرتقي في هذا المجال ضمن أجواء النصب والكذب والاحتيال.
أما الفئة أو النموذج الثالث, وهو جديد علينا هنا, هو "موظف الشركات الخاصة" والذي قد يكون الدليل الأوحد والخجول على وصول هذه الشركات الى طرطوس, لكن هذا النوع من العمل لم يعرف له نظام ثابت حتى الآن, حيث تحكمه في بعض الأحيان نظرية "الخيار والفقوس" السورية, فحتى لو كان الشاب يملك الـ(c.v) المناسب من شهادات وخبرات لم نتعودها في بلادنا ولم ندرسها في مناهجنا المدرسية, فالأفضلية هي لصاحب أفخم عرض من الواسطات والمعارف. وفي النهاية تبقى هذه الفئة محدودة الانتشار, لتظهر وكأنها ديكور يضفي على طرطوس شيء من مظاهر الحداثة.
ونأتي الى النموذج الرابع بأهميته, وهو نموذج "العمل خارج المحافظة" ,حيث يترك كثير من شباب طرطوس مدينتهم ويسافرون للعمل والاستقرار في العاصمة أو في المدن الكبرى, ويقودهم في ذلك اما "طموح بيروقراطي" اذا كانوا من موظفي الحكومة فيقدموا الطلبات ويسوقوا الواسطات للانتقال الى المناصب والأمكنة ذات الفوائد العالية ماديا ومحسوبيا, واذا لم يكونوا من هؤلاء يذهبون الى هناك للجري وراء طموحاتهم وأحلامهم التي تستطيع العاصمة أن تساعدهم عليها أكثر من محافظتهم المنسية والهامشية الاهتمام. فتبقى طرطوس اذا كما يقول علماء الاجتماع عبارة عن ريف يهاجر منه أولاده الى المدينة.
تكاد غمرة وزحمة التعدادات السابقة بكل مافيها من كآبة أن تمحي عن طرطوس اعتبارها من أهم المدن السورية التي تمثل خزان بشري نوعي, فكريا وثقافيا وانتاجيا واجتماعيا, وأنها تستحق أن تدرس اجتماعيا..
ولا تعني الفئات الأربع السابقة لعمل الشباب بكل مافيها من شرذمة وحيرة وتشتيت لطاقاتهم وآمالهم أنهم في نهاية الأمر كلهم يعملون والحال ماشي وكفى الله الحكومة والمجتمع شر دراسة أحوالهم, فعندما نقرأ في جريدة الثورة الرسمية تصريحا للمهندسة سحر الموعي مديرة فرع هيئة مكافحة البطالة في طرطوس تقول فيه أن" من أهم خصائص البطالة في محافظتنا أنها ظاهرة شبابية (خريجون جدد) إذ إن 80% من حجم البطالة في محافظة طرطوس أعمارهم أقل من 30 سنة ومعظمهم من الحاصلين على شهادات مختلفة" [ الثورة 17-1-2007]. فهذا دليل على أن ناقوس الخطر, الذي دُق من زمن طويل, سيزداد دقـّا, ويزيده أيضا معرفتنا أن 157 ألف طلب مسجل بمكتب مكافحة البطالة في طرطوس [ الثورة 30-7-2007].
وحتى في تقطيع الوقت نجد الطبقية
ولا يكتمل عرس الفشل الشبابي الا بزواج هذه البطالة من "الفراغ", فَحْـلها الطبيعي, فهما "طنجرة ولاقت غطاها" كما يقول المثل. ويشاركنا دانيال برأيه قائلا :" اذا نزلت الى المقاهي الشعبية سترى مجموعات كبيرة من الشباب تقضي معظم أوقاتها هناك وهي تلعب الورق وتغلّ من النراجيل والسجائر". وهذه الصورة هي احدى نتائج مايعرف في مجتمعنا الخامل بـ"تقطيع الوقت" الذي لم ينجو هو الآخر من هجمات الثنائية الطبقية عندنا, فحتى في هذه هناك طبقية, والفرق واضح بين شباب تلك المقاهي, وبين شباب "الكافيهات" المنتشرة على كورنيش البحر, الأوائل يذهبون اليها مشيا على الأقدام, بينما أقرانهم الميسورين يستعرضون سياراتهم أمام الكافيه, سيارات تبدأ من الأنواع اليابانية ولا تنتهي بالمارسيدس والهامر. أما في داخل المدينة وبين شوارعها وأحيائها النائمة قبل أوانها ستجد بقية أنواع السيارات الصينية والايرانية المدهونة بالأصفر – التاكسيّات, اما مركونة أمام البيوت, أو يقودها أصحابها الشباب ليزعجوا الناس بأغاني العتابا وبحثهم عن صبية تطل من نافذتها, متمهلين أو مسرعين بجنون مقطعين وقتهم الليلي بأي حركة تبعدهم عن التفكير وتشغيل المخ.
فمع وصول "المشاريع الاستثمارية في محافظة طرطوس من حيث القيمة الى 37 مليار ليرة" بحسب أحدث تصاريح منظـّر الاقتصاد السوري الحديث السيد الدردري - ونقتبس هنا من جريدة البعث 14-8-2007- الا أنها لم تصل درجة الحد والتقليل من ظاهرة "التاكسي" التي يلجأ اليها كثيرون ممن لا عمل لهم ولا مجال لوثوقهم و"تفكيرهم" بأي عمل. مع أن الدردري حذر المشككين :" لا أحد يفكر بأننا نتكبر على حق المواطن في تحسين معيشته وزيادة دخوله". فالتكبر ليس واردا طبعا ماعاذ الله, انما سياسة الحكومة التي تكتفي باراحة نفسها من نق الشباب والمواطنين, برشـّها وتفريقها "أخبار الأرقام وارتفاعات الـ وزيادات الـ و..و.." في الصحافة الرسمية, الدائمة الحديث عن حلاوة اقتصادنا والدردري و " المفاجآت السارة عن الاقتصاد السوري تلك التي اطلقها" .
الجمل
إضافة تعليق جديد