الخلافُ والاختلاف : من عري النَّذِلات والأنذال ،إلى لبس الثوب والبنطال

13-02-2024

الخلافُ والاختلاف : من عري النَّذِلات والأنذال ،إلى لبس الثوب والبنطال

 
الجمل ـ د. نزار خليل العاني :

مقدمة :
من حق المرء أن يتفلسف ، ومن واجبه أن لا يكذب في أوضاع الخلاف والاختلاف ، وعار في أي محادثة أو صدام بين اثنين أن تعلو وتهيمن نزعة التكذيب الصريح ، لأنها أخطر لعنة تصيب عملية الجدل في الحياة المغرقة في مغارات القِدَم ، والمعاصرة ، داخل البيوت ، وداخل المجتمعات ، وهي معول هدم لا بناء وردم ، مثل سكين بروتوس والطعن المكشوف في الظهر ، في الحرب والسلم .
النص :
إن أعمق ما وصلنا من تاريخ الغريزة الطبيعية ، أو الفِطرة ، عند القرود ، وارتقاءَ إلى الصلة الكونية الإحيائية بين "النياندرتال" ومحيطه ، وصولاً إلى إرهاصات العقل البدائية عند "الهوموسابيان" العاقل ، تؤكد أن الخلاف والاختلاف في مسيرة الفكر البشري هو الحافز الرئيس لما وصل إليه العقل من مكانة رفيعة .
بِدئاً من فضولٍ غريزيٍ أوّليٍ ، كما يقول "توينبي" ، ومن تقليب حجرتَيْ صوّانٍ بيدين يكسوهما الشعر ، انقدحت شرارة النار ، ومن مصادفة وقوع قطعة لحم صغيرة فوق النار بدأت مسيرة الطهي والطبخ الباذخة .
"محمود أمين العالم" في دراسته لموضوع الصدفة والاحتمال ، يعزو مسيرة التقدم والتطور البشري إلى تعدد واختلاف سلسلة المصادفات وفعلها في الزمان والمكان . فحين صعد إنسان المغاور بالصدفة ، ليقطف الثمار من أعلى شجرة قريبة من مغارته ، رأى بعينه الوحش الضاري كيف يفترس أنثاه وهي تكنس فتحة المغارة - وحسناً فعل الوحش ذلك - صار الإنسان النذل الذي تستّر على الواقعة، ينام في طابق الشجرة العلوي ، فتكاثرت البشرية ، وتكاثر معها الخلاف والاختلاف !
وحين قطع النذل أول شجرة ، ورأى جذعها يتدحرج ، خطرت على باله فكرة الدولاب والعجلة ،  وبينهما أصل وفصل وخلاف واختلاف ، جرّهما البغل والحمار في عربة ، فولد علم الميكانيكا وتطورت مهمات ووظائف الدولاب في أقبية المخابرات ، ولمعت فكرة المغزل في خاطر الأنثى الطباخة ، وأقدمت على نسج الخرق البالية لستر عورات البشر ! يا للمصادفة ما أروعها ، فالخرقة بعد ملايين السنين صارت أزياءً تتمايز وتختلف ، وإذا بالخيط الواحد يصبح ألف لون وشكل . لقد أثمر الخلاف والاختلاف وأغزر .
" إرنست فيشر" ذكر عن بدء كتابة النذل للحرف أنها وُلِدت أيضاً بالمصادفة . فحين توغل جدّنا  الهمشري في الغابة وبيده بلطة ، ترك لنفسه ولأمثاله إشارات معينة على جذوع الأشجار ، كي لا يضيع في الدغل ، وكي يعرف خلال ساعة كيف يعود إلى مغارته ولا يتيه مثلما تاه موسى في الصحراء أربعين سنة بسبب عدم وجود جذوع شجر لحفر علامات عليها . ومنذ تاريخ "أبو بلطة" النذل ، يعترف أهم دارس للأساطير في عصرنا " جوزيف كامبل" أنه لاتوجد أسطورة في تاريخ البشرية تخلو من ذكر الشجرة ، وصولاً إلى شجرة آدم والتفاحة ، وعيد الشجرة الحالي ! ومن أثر نصل بلطة صوّان على جذوع الأشجارات ، نبتت كتابات ولغات على أشكال متباينة ومختلفة !
مليار صدفة ، تنتج مليار واقعة ، ومليار رأي وعقيدة ودين وتاريخ ودولار ! لا يمكن لمليار نذل أن يتشابهوا ويتطابقوا مثلما يشتهي أي طاغية ، لأنه بالتحديق وبالتأمل الفلسفي العميق ، لا تتشابه الأغنام ، وكذا الدجاج والعصافير ، ولا الذرّات والجينات ، ومن هنا يمكن فهم نداء الأبطال الذين يتفقون على  مطلب الحرية ، ويختلفون على معناها ،لأن الرؤوس اليابسة تحمل اختلافاً أصيلاً في الأفكار ، ولذا سارت العقائد من تعدد الآلهة إلى التوحيد برأس واحد كبير مطلق الإرادة يستحوذ على الأمن والطمأنينة والسلام ، كبديلٍ مريحٍ يُبطل التطاحن والقتال وسفك الدماء .
الخلاف والاختلاف عقيدة ثابتة وبديهية ، هي التي أنتجت إبليس المتمرد والرافض للقولبة في مجمّع الملائكة . وإبليس هو الذي أوقع "صادق جلال العظم " في ورطة عويصة حين رأى فيلسوفنا السوري الراحل في الأبلسة بذرة الحرية ، وحين رأى في اللاإنتماء بطولة استثنائية افتخر بها "كولن ويلسون" قبله، وناضلت لترسيخها النذلة جدّتنا العتيقة لرفض الكنس والشطف والجلي والطبخ في مغارة معتمة تفتقد إلى أنوار "أديسون" ، وتحقق نصر جدتنا بحفيدات من أمثال أنديرا غاندي ومارغريت تاتشر وهيلاري كلينتون وتحية كاريوكا التي نالت إعجاب "إدوارد سعيد" .
 النساء مختلفات ومخالفات ، كما هم المعارضون والموالون ، مخالفون ومختلفون حول مكانة ومقام " صادق العظم " و " أدونيس" ، لكن يبقى من أثر الإثنين الفكر والشعر ، ولن ينضبطا أبداً في جنزير أمير ، ولو بتهديد من أبي الفوارس عنترة .
لكن بالمقابل ، لا أرى في فرضيات ونظريات الغنمية والدجاجية والعصافيرية عيوباَ قاهرة . لأن السكوت والانصياع والطاعة كمذهب سياسي ، وعقيدة اجتماعية ، بعيداَ عن التطرف اليساري ، والتطرف اليميني ، ينقذ جدنا النذل ، وجدتنا النذلة ، ينقذهما من العنف والشجار ولي الذراع في مغارة متربة مليئة بالجيف وفضلات السباع ، ويضعهما في مرجل الوسطية التي رغب الإمام "الشافعي" بالوصول إليها ، وهي الوسطية التي كتب عنها ، وآمن بها "توفيق الحكيم" ، ما استدعى أن يسخر منه "عباس محمود العقاد" حين قال : يعني نمشي وسط الشارع ، تقوم تخبطنا سيارة ! في دمشق المشاة المخالفون لأنظمة السير ، هم الذين يخبطون بالسيارات ، والشرطي ساهم لا يكش ولا ينش !
ما الحل ؟؟ كي يتفاهم كل أنذال ونذلات العالم على رؤية مستقبلية ، يكون لكل فرد ، ولكل فَردة ، من زوج حذاء ، في إقرار الحق النهائي لمختلف الأزواج ، من غير المثليين أو الأحذية أو الفلاسفة أو الساسة او برشلونة والريال ، في احترام قاعدة الخلاف والاختلاف الصلبة ، دون الصراخ والعويل والضرب بالسكاكين ، وتراجيديا جسارة قابيل على هابيل المسكين .
الخلاف والاختلاف بدأ منذ فجر المغارة ، وسيبقى على مفترق الحضارة ، حتى ترفرف أعلام الذكاء الاصطناعي ، والحب الاصطناعي ، والزواج الاصطناعي ، والجنس الاصطناعي ، والتلقيح الاصطناعي ، والقمر الاصطناعي ، وإلى أزَلِ نشيد (بلاد العُربِ أوجاعي) التي سيغنيها صابر الرباعي ! 
خاتمة :
إسرائيل تصرخ وغزة تتوجع ، إسرائيل تدعو إلى " يهوه" أن يقطع أوصال غزة ويميتها ، وأنا أعلن أن يسقط التنمر والصراخ العالي بين كل اثنين، من العائلة الصغيرة إلى الدولتين ، ومن صديقين إلى  المجتمع والأمّة ، ويعيش الفكر والعقل والسكوت على مضض 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...