عودة مجتزأة إلى خطاب الحداثة في الفكر العربي
لعل اشكالية الحداثة على تعدد تعبيراتها وتجلياتها هي الاشكالية المركزية المؤسسة لكل اشكاليات الفكر العربي الحديث والمعاصر، من اشكاليات الحكم والسلطة والقانون الى اشكاليات الديموقراطية والعقلانية والعلمانية مروراً باشكاليات الفرد والمجتمع والدولة. على هذه الخلفية شاء عبدالإله بلقزيز كتابه «العرب والحداثة، دراسة في مقالات الحداثيين» مركز دراسات الوحدة العربية، 2007، اسهاماً في اعادة الاعتبار لخطاب الحداثة الذي لحقه حيف شديد في الفكر العربي الحديث وتعرّض لتهميش كبير خصوصاً في الربع الأخير من القرن الماضي.
إن انتاج حداثة فكرية حقيقية يبدأ من نقد خطاب الأصالة التي تجد منطلقاتها الرئيسة في الاعتقاد بتفوّق الأنا الحضارية على غيرها من العقائد والنظم السياسية والاجتماعية وعدم الحاجة تبعاًَ لذلك الى مدنية الغرب «الجاهلية» والآيلة الى الاندحار والانحطاط المادي والخلقي. لكن ثمة مفارقات أساسية تعتور ايديولوجيا الأصالة في رأي المؤلف، ليس أقلها لا تاريخية مفهومها وماضوية خطابها واطلاقيته البالغة حد التقديس فضلاً عن معاداته للتقدم والتغيير الثقافي والاجتماعي، ما يعبّر في الحقيقة عن اضطراب في العلاقات مع الحاضر وامتناع التفاعل الخلاّق مع المعضلات المتجددة التي يطرحها.
الحداثة وفق بلقزيز هي خطاب ثقافي جديد يقترح على الوعي العربي رؤية للعالم والمجتمع والثقافة، متمايزة عن الرؤى والتصورات السائدة، وقد ولدت في تاريخنا العربي الحديث في ركاب زحف سياسي وعسكري أوروبي امتد زماناً منذ غزوة بونابرت لمصر في خواتيم القرن الثامن عشر، الى انهيار الامبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ما رتّب عند كثير من الباحثين العرب استنتاجاً يقضي بالشك في أصالة ميلاد فكرة الحداثة وفي شرعيتها التاريخية. لكن ما الضير في أن تنشأ المقالة الحداثية في ثقافتنا المعاصرة بتأثيرات ثقافية وافدة من خارج، وأن تكون مستعارة من التراث الأوروبي الحديث. فليس ذلك مبرراً للطعن فيها بدعوى برانيتها، وليس مما يدعو الى الريبة والحذر إزاءها. فألمانيا وروسيا أو اليابان والصين أو الهند لم تكن أقل اعتزازاً منّا بتراثها الثقافي التاريخي، لكنها لم تطرح على نفسها سؤال الحداثة على نحو ما تطرحه الثقافة العربية منذ قرنين.
انقسم الحداثيون العرب كما يرى المؤلف بين الليبرالية والاصلاحية. المقالة الليبرالية حدّية وجامحة جهرت بمضمونها العلماني، وقد عبّر عنها في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين في بلاد الشام بطرس البستاني وشبلي الشميّل وفرح أنطون وأديب اسحق، وفي العقود الأولى من القرن العشرين في مصر أحمد لطفي السيّد وسلاّمة موسى وطه حسين. أما المقالة الاصلاحية فقد سلّمت بجاذبية النموذج الأوروبي وضرورة الأخذ به، إلا انها في الوقت نفسه حذّرت من التسليم بأوحديته المرجعية وتفوّقه على النموذج الاسلامي.
إلا أن خطاب الحداثة الذي عرف انطلاقته الباهرة آخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ما لبث أن شهد نكستين ثقافيتين في القرن العشرين وضعتاه في حال من التراجع والضمور. الأولى في عشرينات ذلك القرن والثانية في ستيناته. فقد تراجع محمد رشيد رضا عن فكرة الدولة الوطنية الحديثة وانكفأ الى فكرة الخلافة، وتعرّض طه حسين وعلي عبدالرزاق للقمع والمحاكمة، واستعيد خطاب الأصول والهوية مع حسن البنّا والأزهريين التقليديين، وأعلن طه حسين وعباس محمود العقّاد التوبة الثقافية. أما الثانية فقد أعقبت نكسة 1967 ونجاح النخب الحاكمة العربية في ارساء نظم قمعية تسلّطية تكبح الحريات وتمنع الرأي المختلف، ما آذن بانتقال دراماتيكي في الفكر والسياسة الى حقبة جزر وانحسار، وتقدم خطاب الهوية والاصالة وتراجع خطاب الحداثة.
وعرض بلقزيز لجدل الأنا والآخر في الوعي العربي المعاصر بوصفها وجهاً من وجوه التفاعل الحداثي مع الغرب، فذهب الى أن هذا التفاعل تراوح بين الرفض النرجسي المنكفئ الى الموروث، وبين الوعي الشقي بدونية الأنا أو البحث عن الجوامع المشتركة بين الأنا والآخر.
أما بصدد تاريخ فكرة الحداثة في الوعي العربي، فقد استنتج المؤلف أن ولوجها ثقافتنا وفكرنا العربيين لا يقل عن ثلاثة أرباع القرن، لكن سؤالها لم يبرح يفرض نفسه على حاضرنا حتى اليوم. مردّ ذلك الى هشاشة الحداثة الفكرية والتباس مفهومها مع مفهوم التحديث، كما الى اندفاعة التقليد المتجددة مع انكسار المشروع القومي العربي، وهزيمة المعسكر الاشتراكي، وسقوط الكثير من يقينات الخطاب الحداثي.
لقد خرجت فكرة الحداثة من رحم التحولات الكبرى في أوروبا العصر الحديث معلنة انتصار العقل على اللاهوت، ومركزية «الانسان» بوصفه جوهر العالم. لكن مجتمعات العالمين العربي والاسلامي أبدت أشكالاً متعددة من الممانعة إزاء هذا التحوّل المعرفي، بدءاً من الممانعة الحادة والشاملة مع المراكز الدينية في مصر والعراق والمغرب، وصولاً الى الممانعة البعدية مع سيد قطب وأيمن الظواهري وسعيد حوّى، مروراً بالممانعة المتكيّفة مع الطهطاوي وعبده والكواكبي.
وفي عرض حصيلة العقلانية والتنوير في الفكر العربي الحديث باعتبارها أبرز مظاهر الحداثة العربية، رأى المؤلف أن مؤرّخي الفكر العربي المعاصر ماهوا بين العقلانية والتنوير، وبين الليبرالية العربية، لكن الفكر الليبرالي العربي لم يكن الممثل الوحيد للعقلانية. فعقلانية محمد عبده لا تقلّ عن عقلانية فرح أنطون، وعقلانية الكواكبي ربما تجاوزت مثيلتها لدى أديب اسحق. وعلي عبدالرزاق وأحمد أمين لم يكونا أقل عقلانية من طه حسين. فثمة عقلانية اصلاحية اسلامية مع محمد عبده وخيرالدين التونسي، وعقلانية ليبرالية مع لطفي السيد وطه حسين وأديب اسحق وفرح انطون وسلاّمة موسى، وأخرى نقدية مع عبدالرحمن بدوي ومحمد عابد الجابري وهشام جعيط وحسن حنفي وادوارد سعيد.
بجميع المعايير شكّلت الاصلاحية الاسلامية ثورة فكرية في المعرفة العربية والاسلامية، إلا أن مشروعها أجهض قبل أن يُكمل قرناً على انطلاقته، فقد حصل الانتقال الفكري سريعاً من اشكالية النهضة الى اشكالية الهوية. وكذلك قدمت العقلانية الليبرالية تنازلات فكرية كبيرة تحت ضغط التيار الديني بعد إسهامها في اطلاق حركة إبداع واسعة النطاق في مجال الفكر والفلسفة والعلوم الانسانية.
وخصّص المؤلف حيّزاً خاصاً من كتابه لأحمد لطفي السيد وعلي عبدالرزاق وطه حسين. فمع نصوص السيّد شهدت فكرة الحرية تجلياتها الأكثر وضوحاً في الفكر العربي الحديث، بوصفها جِبِلّة في الانسان، وأساس التمدن والنهضة وجوهر الكينونة الانسانية، إذ هي سابقة في الوجود على أي نظام اجتماعي ينفيها. وبهذا يكون السيّد الممثل الأبرز لايديولوجيا الحرية في الفكر العربي المعاصر.
أما عبدالرزاق فينتمي بفكره الى تراث الاصلاحية الاسلامية ويستأنف خطابها الاجتهادي التنويري، وقد ذهب أبعد مما ذهب اليه محمد عبده في حدة نقده الموجّه الى الفكرة الثيوقراطية عن السلطة والدولة، باسقاطه الشرعية الدينية عن مؤسسة الخلافة وتأسيس السياسة على قواعد العقل والمواضعة. وبهذا يكون عبدالرزاق قد دعا الى قيام نظام سياسي حديث يستمد شرعيته من المجتمع والناس.
ويُعدّ طه حسين، الحداثي المدفوع بأفكاره الى الحدود القصوى، أقرب ما يكون الى أحمد فارس الشدياق، ومن سوء التقدير أن ينظر الى الرؤية الحداثية عنده وكأنها محض ترداد لفكر الليبرالية الغربية، بل كمنزع مبكّر لديه الى مشارفة أفكار الحداثة والانتصار للجديد وقيمه على القديم، وباعتبار المدنية الأوروبية مصيراً كونياً لا يقبل الرفض أو الممانعة.
في نظرة ختامية يمكن القول إن المؤلف في تقديم اطلالة شاملة على فكر الحداثة العربية بشكل أقرب ما يكون الى الموضوعية والتبسيط، وإن لم يضف كثيراً الى خلاصات الفكر العربي الحديث والمعاصر التي باتت من كلاسيكيات الدراسات السائدة في هذا المجال. تبقى ثمة ملاحظات على هامش الكتاب:
أ – شطب المؤلف فرنسيس المراش من فكر الحداثة العربية، ونرجّح عدم معرفته بهذا الرائد الحداثي الذي سبق الشميّل واسحق والكواكبي وأنطون الى التبشير بقيم الحرية والوطنية والعلمانية والعقلانية.
ب – على الضد تماماً مما اعتقد المؤلف، لم يلجأ أحمد فارس الشدياق الى المهجر هرباً من نير الاضطهاد التركي، بل من رؤساء ملته الدينية الذين اغتالوا أخاه أسعد وهددوه بالمصير ذاته فيما لو بقي في وطنه، والشدياق بالمناسبة كان متشدداً في ولائه العثماني وحرصه على الرابطة العثمانية، وكان مدعوماً من العثمانيين سياسياً ومالياً.
ج – ذهب المؤلف الى أن فكرة الحرية لم تجرؤ على إبداء انحيازاتها الصريحة إلا في مستهل القرن العشرين، مع أن فرنسيس المراش سبق لطفي السيد، بما يقرب من نصف قرن، الى تأصيل فكرة الحرية في الفكر العربي الحديث، بالقول بتلازم الطبيعة الانسانية والحرية، في كتابيه «دليل الحرية الانسانية» 1861 و«غابة الحق» 1865.
د – لم يأت المؤلف على ذكر ناصيف نصّار في عداد العقلانيين النقديين العرب على رغم اسهاماته البارزة والمتميزة في الفكر النقدي العقلاني العربي منذ ستينات القرن الماضي.
كرم الحلو
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد