عن استثمار التاريخ إبداعياً ومحنة إحياء «الزمن الجميل» والتغنيّ به
لا اعتقد أنّ ثمة مصطلحاً، أو مفهوماً لاقى إشكالاً، كما لاقاه مفهوم التاريخ، التاريخ الذي تتعدد أشكاله وتتلون، كما تتعدد الصفات التي تطلق عليه بين الازدراء وحتى التقديس.. التاريخ الذي يبدو أحياناً كصخرة على ظهور الكثير من المجتمعات التي لها كل هذا الإيغال صوب البعيد البعيد، وبناء على حاضرٍ مؤلم؛ هو غالباً نتيجة أسباب راسخة وأدران تشكّلُ ماضياً تبدو القطيعة معه طريقاً وحيداً للخلاص، وأحياناً أخرى يظهر كقارب نجاة يُنقذ أو أنقذ الكثير من الأمم كانت قاب قوسين أو أدنى من الغرق. وطوراً تبدو الأمم الحديثة العهد بالتاريخ متخففة من الكثير من الحمولات التي تأتي بأشكال لا حصر لتلون قدومها، ومن ثمّ هي تصنعُ تاريخها بعيداً عن كل أنواع «الزهايمر» التي تُبتلى بها الكثير من الشعوب، الأمر الذي يجعل التعدد بكثرة القراءات للتاريخ، أو نكش ما خُفي، أو الاحتفاء بالرديء منه وإحيائه ومن ثم تكون كل هذه الكوارث التاريخية.
القراء التاريخية
ويكثر الذين يتناولون التاريخ في المجتمعات، بين مراكز بحث تاريخية وآثارية، وأصحاب مناهج تعليمية، وبين رجال دين، وإيديولوجيين، وأخيراً مبدعين لطالما شكّل التاريخ لهم نواة للكثير من عمارتهم وصياغاتهم الإبداعية، من هنا كان يختلف الكثير من هؤلاء في قراءة التاريخ، بين من يُريد إحياءه كأمرٍ يُشبه إعادة تمثيل «جريمة» كالتي تجري في تقصي أثر الفاعلين والمرتكبين للجرائم، وهنا قد يخرج الأمر عن إطار «التمثيل» أو حتى التمثّل إلى إعادة ارتكاب الجريمة مرة أخرى، وهنا يكون أثر ارتكابها أفدح وأوسع في الضحايا. وهذا ما نقول عنه على الدوام أو نصفه بـ«التاريخ يُكرر نفسه» وعندما يُكرر التاريخ الرديء نفسه، والأمة التي تكرر تاريخها غير المُشرف؛ هي أمة تضع نفسها أمام مرآة المهازل, وهذا ما يفعله الكثير من «السلفيين» على تنوع سلفيتهم، بحجة القدوة بـ«السلف الصالح», فتقوم بإحياء أسوأ ما قام به ذلك السلف لتقتدي به، وهنا تقوم بإعادة ارتكاب الجريمة مرة ثانية وثالثة. من هنا على الذين يقومون على كتابة المناهج التعليمية التي تتناول التاريخ، أن يقدموه بأمانة تاريخية، ليكون ذلك التاريخ عبرة، وحتى لا يلدغ «المؤمن» من جحر المهزلة ذاته مرتين أو ثلاثاً.
الأمانة التاريخية
قليلون هم الذين يصدقون أنّ للأفكار والنظريات أعماراً؛ تُشبه أعمار الإنسان, فالفكرة لها أطوار من النمو لا تختلف كثيراً عن أي كائن حي آخر، أي جنين، فولادة، ثم طفولة ومراهقة، وشباب، وأخيراً كهولة وشيخوخة فموات. كل الأفكار والنظريات في التاريخ التي أسست يوماً لدول وامبراطوريات وفنون وآداب، وغير ذلك كان لها سنوات عمرها ثم انتهت.. لكن المحنة للذين يستعذبون العيش في التاريخ؛ ويلتذذون بكل ما مضى، لدرجة يبدو لهم؛ كل جميل يكمن في الماضي، حتى وإن كان كالحاً، فغاب عن أعينهم كل جمال وإبداع حاضر، وكان أن عجزوا عن أي رؤية جمالية لمستقبل في ظل «سلفية» – وهي هنا ليست دينية وحسب- ثقيلة لا يُمكن الفكاك من جمالياتها المزعومة.
كل الفلسفات العملاقة والعقائد والإيديوجيات؛ التي أسست لبلاد الإغريق في الزمن اليوناني القديم، وأنتجت ثقافة هلينية وزادتها فتوحات عسكرية قادها الإسكندر المقدوني في مشارق الكون ومغاربه، ورغم كل عظمة تلك الأفكار التي أنجزت كل ذلك التاريخ العظيم، فلا أظن أن يونانياً عاقلاً اليوم رغم اعتزازه بكل الحضارة الإغريقية، يُنادي لإعادة إحياء تلك الحضارة القديمة والعيش فيها، والأمر نفسه ينطبق على الرومان الذين كانوا ذات حين بعيد جداً يُسيطرون على أكثر من نصف الكون، وكما لا أحد يريد إحياء أثينا القديمة، لا أحد أيضاً يُريد إحياء روما القديمة.
المحنة في هذا الشرق الذي بقي يبكي على «الزمن الجميل» الذي كان له عمره الافتراضي أيضاً، وقد عاش كل زمنه ومات نعم مات، ولا يُمكن في أجمل حالاته اليوم إلا أن نعيشه كاعتزازٍ به وحسب لأنه تاريخنا، تماماً كما يعيش الفرنسي عصوره الوسطى كتاريخ وحسب, لكن المحنة التي تبلغ حد الكارثة لهذا الشرقي سواء كان عربياً أو تركياً أو غير ذلك ممن يُريد إحياء اسطنبول القديمة، أو دمشق القديمة أو بغداد القديمة وحتى الأندلس ومكة وغيرها ممن كانت مراكز امبرطوريات إسلامية عاشت عمرها الافتراضي كاملاً، إنها المحنة التاريخية في هذا الشرق الذي يُشجع عليها الغرب بلا هوادة، ولو كان ثمة مجال لإحيائها، ألم يكن أولى بالرئيس الأمريكي الاجتماع بقادة العالم المسيحي – إن وجد- بدل اجتماعه بقادة العالم الإسلامي المزعوم في الرياض ليحضهم للدخول والعودة للتاريخ ليسقطوا فيه؟؟!
المحنة التاريخية
ومن الجدير ذكره؛ إنه لم يتعرض مصطلح من المصطلحات كما تعرض له مصطلح «التاريخ» من إلصاق عشرات الصفات والنعوت به، وصولاً للعدوان، ولم يتعرّض «كائن» لعدوان كما تعرّض له التاريخ.. فكل المكروهات التي وجدت على هذه الأرض، سواء أحداثاً أو أشخاصاً؛ فهي -على حدِّ وصفهم- إلى «مزبلة التاريخ» بينما عشرات الأمم والعائلات، وحتى الأشخاص يفتشون في تفاصيل صفحات هذا التاريخ عن بقعة ناصعة، لتعاد صياغتها كنشيد يُغنى ويُصدح به كل صباح، وثمة أمم أخرى إن لم تجد تاريخاً تتكئ عليه- يكاد يبدو كبنية تحتية لابد منها لإعلاء شأن أمة أو شخص- تذهب باتجاه سرقة تاريخ أمم، أو تُقدم على تدمير تاريخ أممٍ أخرى، أو تقوم بصياغة تاريخٍ وإن كان من أساطير أو شطحات خيال.
موضوع التاريخ؛ له حساسيته العالية والخطيرة، فليس من شعبٍ في هذا الكون لا تاريخ له، وتبدو خطورة المسألة التاريخية في ارتباطها الوثيق بالجغرافيا، فلا يوجد تاريخ مُعلق بالهواء، لابدّ من أرضية كان أن حدثت على أديمها وقائع هذا التاريخ الذي قد يصير الشعب، أو حتى الفرد- الشخص عبداً لماضيه، وهنا تصير مسألة أخرى، واللافت في هذا المجال أن الدول والشعوب القوية، لا تقف طويلاً عند موضوع التاريخ.. ذلك أنه باستطاعتها أن تنشئ حلولاً كثيرة لأمره؛ فإما أن تقوم بصناعته وإن كان حديثاً، أو تسرق تاريخاً، أو تدمر آخر وتبني عليه، من هنا فهذا «التاريخ» الذي إذا حذفنا العار منه؛ لا يبقى غير القليل منه والهزيل.
التاريخ إبداعاً
هذا التاريخ؛ الذي شكّل أيضاً غطاءً للكثير من الأعمال الإبداعية ولاسيما الروائية منها، وقد اختلفت الغاية في تناول التاريخ في العمل الروائي؛ وأهمية الاشتغال بموضوعة التاريخ؛ إبداعياً؛ أنها تؤمن للمبدع، وعلى اختلاف نتاجه الإبداعي حلولاً سردية متنوعة، ولعلّ أهم غاياته؛ هو إسقاطه لما يحدث الآن وهنا، إما لتأكيد محنة أو منارة لاتزال مستمرة مدى الأيام، أو ربما هروباً من مباشرة ما، أو ربما لكتابة تاريخ جرى تغييبه من قبل كتبة التاريخ «المنتصرين- المتسلطين»، حتى إن كتابة بعض الروائيين بقيت تدور طوال الوقت في غياهب التاريخ، فلا يكاد الروائي السوري نبيل سليمان على سبيل المثال أن يُغادر التاريخ حتى يعود إليه، ليس بوصفه أحداثاً مضت وانقطعت، بل بوصفه فعالية مؤثرة ومرجعية ثرّة على ما يرى الناقد نذير جعفر، فالتاريخ -حسب رأيه- ليس غاية بذاته، إنما الغاية هنا تكمن في ترهينه، وإعادة قراءته، وفهم تأثيره في تشكيل وعي ومصائر أبطاله من سياسيين ومثقفين وغيرهم.
عدوان تاريخي
وكان للتعامل مع التاريخ؛ أكثر من شكل تُمارسه بعض الكيانات البشرية، بعض تلك الكيانات أو المجتمعات الإنسانية؛ كانت على عداء مع التاريخ، فهي طوال الوقت تمارس عنفها لكل ما يتصل بالتاريخ بصلةٍ ما، وهذا ما يظهر جلياً خلال الغزو الأمريكي المموّل خليجياً والمدعوم عثمانياً على العراق، ومشاهد الدبابات الأمريكية وهي تُدمر متاحف العراق، ولاسيما نكبة تدمير المتحف الوطني في العاصمة بغداد ونهب محتوياته. وهذا ما أكملت عليه معاول وألغام «داعش» وشقيقاتها في تدمير والموصل، وسرقة حضارات بلاد الشام والعراق ونهبها أيضاً.. ولاتزال مشاهد تدمير حركة «طالبان» و«القاعدة» الممولة خليجياً أيضاً في أفغانستان لأقدم حضارات راسخة في سفح الجبل لطائفة الهندوس كجرحٍ غائر في الذاكرة الإنسانية.. وهناك ثمة كيانات رديئة، تلك الكيانات التي تحاول أن تصنع تاريخاً لأمجاد وهمية وعراقة مزيفة كما يفعل الكيان الصهيوني في فلسطين القديمة مثلاً، أو كما يفعل آل سعود في بلاد الجزيرة العربية والحجاز، ومعهم الكثير من الأسر الحاكمة الخليجية في سبيل إيجاد أرضية تاريخية ما على الرمال.
كثافة تاريخية
وثمة أمم؛ حقيقة لديها كثافة تاريخية، كما في سورية بلاد الشام، أو العراق بلاد الرافدين، أو مصر وادي النيل. وهي تتغنى وتغتني بكل هذه العراقة الموغلة في قدامتها طوال الوقت، ورغم أن هذا التاريخ يُشكّل ما يُشبه النسغ الذي لا ينضب لشجرة هذه الأوطان لتبقى باسقة في كامل خضرتها، لكن الواقع هو من الخطورة أنه قد يكون قادماً على «إفلاس» حضاري مُخيف، ففي سورية الطبيعية، كانت شجرة الزيتون الأولى، وشجرة البرتقال الأولى، وحقول القمح الأولى، وعلى مدى جغرافيتها؛ كان اكتشاف النوتات الموسيقية الأولى، وحروف الأبجدية الأولى، أي إن عمر هذه البلاد من عمر التاريخ نفسه، ورغم كل هذه «النصاعة» التاريخية، فثمة خواء ويباس يلوحان من بعيد، أو قد يكونان متربصين للغدر في أي لحظة ولاسيما إذا ما علمنا أن الحرب على سورية والعراق ومصر كانت في بعض جوانبها؛ حرباً على تاريخ هذه البلاد.
تشرين - علي الرّاعي
إضافة تعليق جديد