ياسين الحافظ في الذاكرة
ولد المفكر والباحث ياسين حكمت الحافظ بدير الزور 1930 . - تلقى علومه الأولى في الكتاتيب عند الشيخ ملا غفور ،ثم تابع في مدرسة السريان الأرثوذكس ،وكانت جدته الأرمنية تقوده اليها حتى الصف الخامس الابتدائي ،حيث درس في مدرسة هنانو ،ثم أكمل دراسته في تجهيز الفرات .
- والده كان يعمل في اصلاح السلاح وبيعه ،وقد أطلق النار على ساقه ليتخلص من خدمة الأتراك العسكرية ،وعاش عند مشايخ البدو (المهيد) وحدثت وقتذاك سوقيات الأرمن عام 1915 فتزوج من فتاة أرمنية تشتت أسرتها بعد رحيل أهلها ،وأنجبت له ياسين الحافظ .
- ظهر نبوغه في المرحلة الاعدادية ،وكان يرعاه ثقافياً الدكتور محمد علي الساعي .
- تأثر بكتابات اسماعيل مظهر والعقاد وطه حسين والزيات ..ومن المدرسين الذين علموه الأستاذ بهجت الشمندي الذي كان يدرسه علم الحياة والمدرس جمال المحاسب الذي علمه المنطق ،والأستاذ عبد الكريم زهور الذي علمه الفلسفة في العام 1947 .
وكان يتردد يومياً على النادي الثقافي بدير الزور للاستماع الى محاضرات وأمسيات أدباء دير الزور .
- كان نشيطاً في الحركة الكشفية الفاعلة بدير الزور ،وكان ضارباً للطبل ،ورغم حبه الشديد للرياضة إلا أنه كان محروماً منها بسبب ضيق نفسه نتيجة إصابته بانحراف وتيرة إضافة الى ضآلة جسمه .
- حصل على الإجازة في الحقوق من جامعة دمشق ،وعمل محامياً بالرقة ،وتعرف عن كثب بالدكتور عبد السلام العجيلي وأعجب بأدبه .
- ترك الرقة ليعود اليها ثانية كضابط مجند 1956 .
- شارك في حرب فلسطين 1948 .
- انتسب الى حزب البعث العربي الاشتراكي منذ البدايات وساهم في كتابة المنطلقات النظرية التي أقرها المؤتمر القومي السادس 1963 .
- تحول بعد ذلك الى الفكر الماركسي وكان مفكراً ومدرسة في الفكر السياسي .
- أصدر جريدة (الثورة العربية) وأسس داراً للنشر في لبنان اسمها (دار الحقيقة ) وأصدر مع الدكتور جمال الاتاسي وعبد الكريم زهور عام 1963 كتاباً بعنوان (في الفكر السياسي )
صدر له : عام 1965 كتاب (حلول قضايا الثورة العربية ) .
عام 1969 كتاب (الآفاق الاستراتيجية للثورة العربية) .
عام 1975 كتاب (اللاعقلانية في السياسة العربية ) .
عام 1976 كتاب (التجربة التاريخية الفيتنامية )
وكتاب (الهزيمة والايديولوجيا المهزومة )
وله مخطوط بعنوان /نحو منظومة وحدوية )(والسيرة الذاتية ) .
ترجمة عن الفرنسية 1- التخلف والتنمية في العالم .
2- الماركسية اللينينية أمام مشكلات الثورة في العالم غير الأوربي .
3- مأزق العالم الثالث .
4- حول الدين .
5- الاسلام في عظمته الأولى .
- توفى رحمه الله في بيروت /تشرين الأول 1978 ودفن بدمشق وقد جرى له حفل تأبيني كبير في باريس .
ياسين الحافظ علم معرفي ومثقف نقدي من طراز نادر. صاحب أطروحات ثرية. درس الواقع العربي وحلل مشكلاته وخلص إلى مفاهيم تأسيسية. ابتدع نظرية "الوعي المطابق" التي تقول بوجوب إنتاج وعي عقلاني بالواقع العربي، ومن ثم إنتاج وعي مناسب بمتطلبات هذا الواقع وحاجاته كسبيل وحيد نحو تجاوز "الفوات" العربي وتحقيق التقدم.
راهنية الفكر الحافظي لا تقبل الجدال. وما زالت، وبرغم مرور الوقت صالحة كأدوات للإحاطة بالواقع العربي المعقد. وإلى هذه الراهنية الاستثنائية يملك فكر الحافظ مستقبلية قادرة على إعادة إدخال العرب في التاريخ الذي خرجوا منه بفعل أسباب عديدة من بينها الاستعمار.
أسّس لمنهج نقدي صارم، اتسم بدقة التحليل وصوابيته. واستناداً إلى هذا المنهج صاغ أطروحة "الفوات التاريخي" التي فسرت الواقع العربي لجهة غياب، أو تغييب الرأي العام وتبعية الاقتصاد وسيطرة البنى الاجتماعية السابقة على الدولة وهيمنة الفكر التقليدي.
أنتج الحافظ، خلال مسيرة عمره القصير، بناء معرفياً غنياً بالدلالات السوسيولوجية والثقافية والسياسية والنظرية، مكنّه من تحرير الخطاب القومي من البلاغية المترهلة، وأنقذ الماركسية العربية من ضيق العبارة والأفق وتكلّس الصيغ، حين استعاد روحها النقدية، بوصفها سؤالا مُشرَعاً ضد الثبات والسكون والامتثال والعقائدية.
ومن خلال وضعه لمفهوم "التأخر" انتقد الأيديولوجيا المهزومة "التقليدوية الجديدة" التي توهمت إمكانية دخول العصر بتجنب الثورة القومية الديمقراطية والقفز إلى تبنّي "المنظور التنموي"، فكتب: "ما من شعب حقق تقدما اقتصاديا دون أن يكون قد حقق تقدما مجتمعيا وثقافيا وسياسيا".
وقرأ "التأخر"، باعتباره أبعد من تخلف اقتصادي يمكن تجاوزه عبر التنمية، وأبعد من مسألة فقدان أصالة الذات التاريخية في مواجهة الاستعمار، بل كفوات حضاري يشمل كل بنى المجتمع العربي.
المحاور التي عني بها الحافظ عديدة أبرزها: نقد التيار الماركسي (الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي) وتعريب الماركسية، أولوية الفكري والسياسي، توصيف المجتمع العربي، التأخّر العربي، الفوات التاريخي، الوعي المطابق (التاريخية، الكونية، الحداثة)، الاشتراكية والمنظور التنموي، نقد الحركة الناصرية، الأيديولوجيا المهزومة، نقد التيار القومي، الأُمَّويّة والقومية، التجزئة والوحدة، الدولة الحديثة، العلمانية، الديمقراطية.
في نقده للماركسية ميّز الحافظ، مستعيناً بألتوسير، بين الأيديولوجيا والمعرفة العلمية وكشف مدى امتلاء الوعي الماركسي العربي السائد بأوهام الأيديولوجيا.
ماركسية الحافظ اقترنت مع دعوته إلى إنتاج ماركسية عربية، وإلا "ستبقى الماركسية شيئا برّانيا لا يتغلغل في ثنايا الذهن العربي".
ومن المنظور الماركسي الديمقراطي أدان الشيوعية العربية التي خاضت معركة الماركسية السوفياتية ـ الستالينية ضد الليبيرالية، دون أن تستوعب أنّ نقد الليبيرالية من موقع متخلف عنها، من موقع المجتمع الذي لم يحقق منجزاتها، لن يكون نقدا اشتراكيا بل "تأخراكيًا".
كما طال نقد الحافظ الأحزاب الشيوعية العربية لأنها لم تعي أهمية "الوحدة العربية" في تحرير المجتمع وتقدمه، ورأى أن الأحزاب هذه استلهمت نظرية ستالين عن نشوء القوميات والأمم، والتي قد تصحُّ على تاريخ نشوء الأمم والقوميات الأوروبية، لكنها لا تصحُّ على تاريخ الأمم الأخرى ما قبل الرأسمالية.
نقده الحاد للأحزاب الشيوعية اقترن مع اعتباره أن الماركسية هي الفكر الغربي الوحيد الذي يمكن للمثقف الوطني في "العالم الثالث" أن ينتظم في منهجيته النظرية والمعرفية، دون أن توضع هويته الوطنية أمام سؤال (الأنا والآخر) نظرا لما مثلته الماركسية من فكر نقدي انشقاقي على تراث الرأسمالية وأطماعها التوسعية. أي أنها الفكر الغربي الذي يتيح لمثقف البلدان المتأخرة أن يكون وطنيا بحق، بالدرجة ذاتها الذي يكون فيها كونيا، أي عقلانيا وديمقراطيا.
وقف من الممارسة الستالينية للأحزاب الشيوعية موقفاً صارماً، ودعا إلى تجاوزها، بعدما أدت إلى عزلة الماركسية، نحو فهم جديد للماركسية يتضمن: تعريب الماركسية، لتلآئم إشكاليات الواقع العربي وخصوصياته "لأنه لم يعش المرحلة الديمقراطية البورجوازية على الصعيد الفكري والثقافي". وبما يقطع مع "النقل السطحي الميكانيكي والمقارنات التاريخية". والعودة إلى علمية الماركسية وعلمانيتها، بالانطلاق من الواقع، واعتبار الحقيقة دائما ثورية.
وتوقف عند مظاهر التأخر في المجتمع العربي، وربط بين التأخر السياسي والأيديولوجي والعسكري، ورأى "أنّ البنية السياسية أشد تأخرا من سائر بنى المجتمع الأخرى".
ومن الخصوصيات العربية التي ركّز عليها الحافظ هي السياق التاريخي الذي تشكلت فيه الهوية العربية، إذ اعتبر إنّ العنصر الحاسم كان ثقافيا: "دور الإسلام كحاضنٍ ورحَمٍ لتكون الأمة". إضافة إلى خصوصية أخرى هي نمط "الاستبداد الشرقي" الذي يشكل امتدادا للمخزون الثقافي الجمعي، الذي يحكم اللاشعور المعرفي للمجتمعات.
واعتبر إنّ هذه الخصوصيات الثقافية التي كانت امتيازا تاريخيا ساعد الأمة في الحفاظ على كينونة وجودها رغم كل التحديات التي واجهتها، لكنها غدت، من منظور تاريخي، عقبة أمام انتقال المجتمع من مرحلة "الملّة الدينية" إلى مرحلة "القومية الحديثة".
استخدم الحافظ مصطلح "التأخر" بديلا عن مصطلح "التخلف"، لما ينطوي عليه التأخر من معنى نهضوي أبعد من التخلف كمصطلح تقني ـ اقتصادي، وقد استخدم مصطلح التأخر كمدخل مفهومي أساسي لتوصيف الواقع العربي، فضلا عن إغناء القاموس النظري والسياسي العربي بمصطلحات ذات دلالات عميقة.
وقد ترتب على مفهومه للتأخر العربي صياغة أخرى رائدة لمصطلح "الفوات" الذي يشرح معناه بأنه "خارج تسلسل وتاريخ الأحداث"، وذلك بأنّ "الشعوب التي تعيش حالة الفوات هي التي يشكل وجودها في عصر معيّن ضربا من غلطة تاريخية أو مفارقة تاريخية، باعتبار أنها تعيش في مرحلة تخطتها شعوب أخرى... الشعوب المفوتة هي الماضي ملقى على هامش الراهن أو الحاضر، هي التي تعيش في غير عصرها".
لقد اعتبر الحافظ التأخر هو المسألة المركزية في الواقع العربي المعاصر، لذلك انتقد "المنظور التنموي" الذي توهَّم بإمكانية دخول العصر و"تَجَنُّبِ الثورة القومية الديمقراطية" التي دشنت العصر الحديث من خلال قلبها وتصفيتها المجتمع التقليدي القديم، وعبر هذه التصفية أمكنها أن ترسي بنى المجتمع الحديث المجتمعية والأيديولوجية والسياسية وإطلاق قواه الإنتاجية. إنّ هذه المنظورات التنموية هي "ضرب من محاولة عمل زركشة تحديثية على سطح مجتمع قديم مفوّت"، وقد استنتج من تجارب الشعوب المتقدمة أنه "ما من شعب حقق تقدما اقتصاديا دون أن يكون قد حقق تقدما مجتمعيا وثقافيا وسياسيا".
إنّ التأخر العربي العام جعل العقل العربي، حسب ياسين الحافظ، وكأنه "برميل بلا قعر، لا يجمع ولا يراكم، مع كل صباح نبدأ تجربة جديدة، وننسى تجربة البارحة، كما لا نفكر باحتمالات الغد. على الدوام نبدأ من جديد وكأننا ولدنا اليوم، أشبه بفئران عاجزة عن اكتشاف أنّ المصيدة تصيد".
وكان الحافظ حاسماً في استحالة امتلاك وعي مكونن مطابق بدون امتلاك الحداثة أو الوعي الحديث، "في البلدان العربية تجنبت القوى التي تريد نفسها تقدمية التعرض للتقليد ورضيت بحداثة قشرية، توضعت فوق التقليد وعقدت مصالحة مدلَّسة معه، بل ساهمت في بعث التقليد وتجديده، في حين أنّ الحداثة والتقليد نقيضان ولا يتصالحان، ذلك أنّ الأولى تتمحور حول المستقبل في حين أنّ الثاني يتمحور حول الماضي".
وفي قراءته للناصرية اعتبر الحافظ أن الناصرية تلعب دورا تقدميا أساسيا في الكفاح العربي العام، من خلال فتحها آفاقا واسعة جديدة لتطور العرب، وتحويل القومية العربية إلى قوة تاريخية، والسعي لتحقيق الوحدة العربية. لكنه رأى في المقابل إنّ التجربة الناصرية ليست رائدة، فالنظام الناصري ليس النظام الثوري النموذجي، بسبب فقره الأيديولوجي، وافتقاد أهدافه الاشتراكية لدقة الوضوح والتحديد، وبسبب إغراقه في البيروقراطية، وانعدام النفحة الشعبية في أساليب نضاله وأدواته.
أهمية الناصرية في فكر الحافظ انطلقت من أنها شكلّت ممكنا نهضويا عربيا، باعتبار أنّ وعي عبد الناصر كان أكثر انطباقا على حاجات المجتمع العربي من المواقف الأخرى. ففي حين أنّ النزعة القومية العربية المشرقية قد حوّلت الوحدة العربية إلى "أسطورة سلفية" مقطوعة أو ضيقة الصلة بسياستها التحررية، فإنّ السلفية لم يكن لها وزن هام في نزوع عبد الناصر الوحدوي، فهو وريث حركة وطنية مصرية انشغلت بالتجديد والتحديث والتحرر من الاستعمار، ومن هنا فقد استنتج الحافظ "أنّ النزعة القومية العربية أصبحت أكثر عصرية وأكثر راديكالية عندما صبّت من جديد في المقال الناصري".
إنّ التقاط الحافظ للمهمة التاريخية التي كانت مناطة بالناصرية على مستوى المشروع القومي العربي، هو الذي يفسر لنا وعيه وشعوره بأنّ الناصرية فرصة تاريخية استثنائية ضاعت على الأمة العربية، وذلك بالرغم من نقده لتناقضاتها، خاصة التناقض بين الثورة السياسية والمحافظة الأيديولوجية المجتمعية "إذ في الوقت الذي كان فيه النظام الناصري يحصد الأخوان المسلمين (ونرمز بهم هنا إلى التيار السلفي كله) سياسيا كان يزرعهم ثقافيا وأيديولوجيا، الأمر الذي ألقى به في سلسلة اختناقات انتهت بضربة 5 يونيو / حزيران القاصمة".
ومن خلال واقعيته الثورية، التي تذهب من الواقع إلى الهدف، كان الحافظ سبّاقا في إدراك رغبة الامبريالية الأميركية وإسرائيل أن تقضيا على الناصرية، رغم ما كان يراه من قصورها. لذلك فإنه، إبان الحملة الإعلامية المركّزة بعد الانفصال في العام 1961 على موقف عبد الناصر من القضية الفلسطينية، كان سبّاقا إلى معرفة أنّ المقصود لم يكن تحرير فلسطين، بل رأس عبد الناصر ومشروعه الثوري، فكانت هزيمة يونيو/حزيران تحقيقا لما كان يستشعره في أنّ رأس عبد الناصر هو المطلوب.
يعتبر كتاب الحافظ "الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة" من أهم المقاربات العربية للهزيمة، ففي تعليقه على لقاء عدد من "المثقفين" تحت اسم "لقاء المفكرين العرب"، وتحت شعار "الإعداد لمعركة التحرير" كتب: "لقد عكست مناقشات هذا اللقاء الواقع الفكري المتخلف، السطحي الممزق، الراكد، الذي لم يخترقه العصر ولم يشعر جديا بانسياب الزمن، وبالتالي فإنّ المرء ليكتشف في المناقشات جذور الهزيمة في عقولنا اللاعقلانية وفي ثقافتنا، الهجينة، السطحية والمتيبسة".
وفي محاولة منه لوضع اليد على مكمن الخلل، بعيدا عن نظرية المؤامرة التي راجت في العالم العربي، وجد الحافظ أنّ التكنولوجيا الحديثة بدون قاعها التاريخي المعرفي، العقلاني، الثقافي، وتمازج سيرورات هذه العناصر، ليست إلا حديد "خُردة" في اليد الجاهلة. فمشكلة العرب هي القطيعة بين تكنولوجيا الأسلحة الحديثة وقاعها الثقافي العقلاني الحديث.
وقرأ الحافظ في التيار القومي التقليدي أنه لا تاريخي، حين لم ير الجذور التاريخية، السابقة للاحتلال الاستعماري، لبعض الكيانات الإقليمية العربية المميزة، ولا مفاعيل الهيمنة الامبريالية وقوانين عملها في العالم العربي. وقد وصّف رؤية هذا التيار على النحو التالي "نحن العرب نشكّل أمة واحدة، يجمعنا تاريخ طويل، تربطنا لغة واحدة، نعاني آلاما واحدة، تحرّكنا آمال واحدة، ينتظرنا مصير مشترك، وما التجزئة سوى صنيع الاستعمار. ما دام الأمر كذلك، فمن الطبيعي، بل من الحتمي، مهما راوغ القدر، أن يؤطِّرنا، بعد زوال الاستعمار ورواسبه، كيان سياسي واحد". وبعد أن أقرَّ بصحة مقدمة هذه الأطروحة، قال: "إنّ بناء دولة تؤطِّر أمة واحدة يتوقف، مع جملة عوامل أخرى، على وعي هذه الأمة ضرورة وحدتها. فالحتمية الوحدوية إنما تنبع، إذا لم تواجَه بعراقيل أخرى، من وعي أجزاء الأمة ضرورة وفائدة الوحدة، فضلا عن الإرادة".
ومن منظور تنويري، انتقد الحافظ التيار القومي التقليدي، كما ظهر واضحا في كتابات ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، حيث "أدانت بلا تحفظ الثورة الفرنسية". كما أشار إلى أنّ هذه الأيديولوجيا القومية رفضت الماركسية وأدانتها، انطلاقا من النظر إليها بوصفها "ذات أصول أوروبية صرفة".
والقومية، بالنسبة لياسين الحافظ، ليست أيديولوجيا، كما حاول الفكر القومي التقليدي أن يصوغ أصالتها من خلال ترجمة هذه الأصالة عن الفكر الألماني. وهي ليست تجميعا كميا لوحدات وكيانات مجزأة، بل هي عملية تخترق الفرد لتجعل منه مواطنا، وتخترق المجتمع المُكسَّر عموديا في أنساق سوسيولوجية تعود به إلى نظام القرابة الدموية البدوية، لِتُنَضِّدَهُ في أنساق اجتماعية حديثة. إنها تحقيق لذات الأمة، بالدرجة نفسها كتحقيق لذاتية الفرد الحر المسؤول أمام القوانين، إنها تحقيق لمفهوم سيادة الفرد على مصيره، وسيادة الأمة على مصائرها.
لقد قام الحافظ بتقصّي سير تطور الأمة العربية، للتعرف على الخصوصية التاريخية التي ميّزت خط تطورها المميَّز في إطار المقارنة التاريخية بين خطوط السيرورة الكونية، فوجد أنّ العامل الذاتي الثقافي (الإسلام) هو عامل التفاعل والصهر. ففي ظله، كتراث حضاري وثقافة مشتركة وتكوين نفسي مشترك، تبلورت الثقافة المشتركة والتكوين النفسي الحضاري. لكنّ الحركة القومية العربية استيقظت تحت تأثير الفكر الأوروبي، ثم اكتسبت زخما أشد ضد محاولات التتريك أولا ثم ضد اضطهاد السيطرة الاستعمارية ثانيا. وعلى هذا، فإنّ الحركة القومية العربية لم تستيقظ في "غمار نضال طبقي حاد" كما جرى في أوروبا.
إنّ الخصوصية الثقافية التي مهرت شكل تكوّن الأمة ووعيها القومي، المتمثلة بالدور الإيجابي للإسلام، غدت، في المنظور القومي الديمقراطي العلماني لياسين الحافظ، الجذر الأساسي للفوات التاريخي، بمثابتها "تعبيرا عن وعي سكوني لمجتمع تقليدي".
لقد ربط الحافظ صلة وثيقة بين التقدم والوحدة العربية، فـ "العالم يغذُّ الخُطى نحو تكوين كتل كبرى من الشعوب". فلا يمكن تصور تنمية ناجحة إلا في تجمعات كبرى "إنّ الأقطار العربية، الكبيرة منها بخاصة، قد تستطيع، في أحسن الأحوال، تطوير صناعتها القائمة إلى هذا المدى أو ذاك، إلا أنه سيصعب عليها، في ظل التجزئة، أن تتعدى حدود الصناعات التي قامت في أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين. أما الصناعة العصرية التي جاءت نتيجة الثورة الصناعية الثالثة، فمن الصعب جدا، إن لم أقل من المستحيل، أن تقوم في ظل التجزئة".
إنّ المنظور الوحدوي لياسين الحافظ يزن كل تناقضات الواقع العربي، ويستشرف كل سبل الخلاص العربي، أي تلافي التأخر التاريخي المتراكم للشعوب العربية. وفي هذا السياق حدّد الميول الجاذبة في السيرورة الوحدوية بثلاثة ميول: أولها، شعور هؤلاء البشر المنتشرين من الخليج إلى المحيط بأنهم ينتمون إلى أمة واحدة ويجمعهم مصير مشترك، ولا شك أنّ هذا الشعور يتفاوت من حيث عمقه ووضوحه بين قطر وآخر، أو إقليم عربي وآخر، فمثلا ليس من المناسب تجاهل الفجوة التاريخية بين المشرق والمغرب العربيين، التي قامت منذ القرن الثامن الميلادي حين أُنشئت الدول المغاربية المستقلة عن الدولة العباسية. إلى أن جاء الاستعمار الفرنسي فعمل على "تعميق وتوسيع هذه الفجوة وصياغة غطاء أيديولوجي لها، مارس تأثيرا راضّاً عميقا على صعيد الثقافة في صفوف الأنتلجنسيا المغربية، كما قام بعملية بتر كامل على صعيد الاقتصاد عبر إمكانية إلحاق الطرف المستعمَر بالمركز المستعمِر"، وفي الوقت نفسه من المغالطة إنكار وزن الرابطة العربية في المغرب العربي.
وثانيهما، يتمثل في العامل الخارجي، أي مفاعيل الهيمنة الامبريالية وضغوطها ونهبها للشعوب العربية، بما يشحذ النوازع الوحدوية، ويوجه حدها ضد سائر أشكال نفوذها "إنّ الامبريالية قد جزّأت الوطن العربي وولّدت وحدته من جديد". وثالثها، يتمثل في النزوع العربي إلى التقدم، إلى دخول العصر، إلى تأكيد الذات.
أما الميول النابذة للسيرورة الوحدوية فقد حددها الحافظ بخمسة: أولها، التأخر العربي العام. وثانيها، الهيمنة الامبريالية ومحاولتها ممارسة ضرب من التجميد للاحتمالات الوحدوية السياسية، فالعداء للوحدة لا يحرّك سياسات الدول الامبريالية وحدها، بل "يحرّك أيضا، وبعداء أشد، سياسات الدول المجاورة للوطن العربي ولعل موقف إسرائيل يشكل الحالة القصوى".
وثالثها، واقع التجزئة والمقاومة التي يبديها والذي "لا يتمثل فقط بمصالح الأشخاص والفئات الراكبة على بنية سياسية ما قائمة، بل يتمثل أيضا، في كيفية أوزن وأشد تأثيرا، في الأيديولوجيا الإقليمية". ولأنّ الحافظ يزن كل تناقضات الواقع العربي، فقد قال: "إنّ العمل في سبيل تصفية الواقع الموضوعي للتجزئة إنما يتطلب منّا أن نأخذ بعين الاعتبار الوزن والجذور التاريخية والجغرافية للتجزئة. وهذا يعني أنّ المشروع الوحدوي، فضلا عن ضرورة مرونته، لكي يمكنه استيعاب تضاريس التجزئة، لا ينبغي أن ينفي على المدى القريب والمتوسط، وبعد توفير الإطار السياسي لوحدة حقة، الأخذ بالاعتبار المصالح الإقليمية التي لا تعرقل سيرورة التذويب الوحدوية... وأن تتوفر هذه السيرورة على ضمان توازن ما في مصالح الأقطار، بحيث تتدرج عملية التذويب مع نمو وعي الشعب بسلامة تخطّي ما هو إقليمي لصالح ما هو قومي، توازن يشكل التحقيق الأسلم والأبعد نظرا حتى للمصالح القطرية المفهومة فهما صحيحا".
ورابعها، يتمثل في الأيديولوجيات الضمنية أو الصريحة للأقليات الدينية والقومية في العالم العربي، وهي مسألة غير ممتنعة، وبخاصة موقف المواطنين العرب المسيحيين أو موقف الفرق الإسلامية غير السنّية "إنّ التأكيد على علمانية الحركة القومية العربية ودولة الوحدة العربية والنضال لتطبيقها سيفتح أرحب السبل لحلها بدون تأخير وبجدية". وخامسها، يتمثل في شخصنة السلطة، التي "أصبحت تظاهرة غالبة في الميدان السياسي العربي"، وهذه الشخصنة في البنية السياسية العربية عززت وتعزز إلى أقصى حد العوامل النابذة الأخرى للسيرورة الوحدوية، ذلك لأنّ السلطة المشخصنة "لا بدَّ أن تستخدم سائر العوامل والعناصر المؤاتية للتجزئة في سبيل تدعيم مواقعها، بحيث يصبح الوضع أو البنيان الإقليمي مرتكزا وسياجا ومجالا حيويا لها". وعليه، بدا لياسين الحافظ أنّ الديمقراطية، التي تشكل نقيضا مطلقا لشخصنة السلطة، تشكل الطريق الأكثر مواتاة وملاءمة إلى الوحدة العربية.
لهذه الأسباب فإنّ دعوته إلى الدولة الحديثة تمثل استجابة لحاجة الواقع العربي إلى تجاوز فواته التاريخي، حيث يبدأ ذلك بتحديث السياسة بـ "الديمقراطية" وتحديث الثقافة بـ "العلمانية" و"العقلانية". وفي ذلك يقول "الديمقراطية لا يمكن أن تؤجل أو تقنّن، ولا توضع على الرف اليوم بزعم ممارستها غدا عند النضج، فالنضج السياسي وليد الممارسة الديمقراطية بالدرجة الأولى، فالديمقراطية اليوم هي أمر لا بدَّ منه للديمقراطية غدا، لأنّ ممارسة الديمقراطية على نحو ناضج مسؤول ومنضبط، لا يمكن أن يتهيأ إلا بالممارسة الدائمة، فلكي نتعلم السباحة غدا، يجب أن نمارسها اليوم".
أما العلمانية، فهي "تؤمن بالاكتشاف التدريجي للحقيقة سواء في الطبيعة أم بالمجتمع، بواسطة العقل وحده تحت رقابة التجربة... وبدون هذه العقلانية ما كان للعلوم أن تتقدم هذا التقدم المذهل، وبالتالي لا يمكن للعلم أن يتقدم في مجتمع يرفض هذه العقلانية... فالعلمنة إذن إحدى التظاهرات الفرعية لعملية عقلنة المجتمع".
وفي نقده لأيديولوجيا الأنتلجنسيا العربية، رأى أنها أيديولوجيا مستلبة بسبب كونها إما أيديولوجيا سلفية أو أيديولوجيا اغترابية. وفي تناوله لهذا المستوى ميّز الحافظ بين محاولتي نهضة شهدهما العالم العربي: الأولى، التي قادها محمد علي باشا، والتي حمل جيلها أيديولوجيا "تقليدية". والثانية، التي مثلتها وقادتها التجربة الناصرية، والتي حمل جيلها أيديولوجيا "تقليدية جديدة"، لم تشكل تجاوزا بالمعنى التاريخي للأيديولوجيا التقليدية.
في المشهد السياسي العربي ميّز الحافظ ثلاثة تيارات رئيسية:
ـ تيار إسلامي، تراثي، سلفي "يكره الحاضر، ويرى بخوف إلى المستقبل، ويتطلع بشوق وحنين وتقديس إلى الماضي".
ـ تيار قومي أو "قوماوي": "قومي في أهدافه، شبه عصري في نواياه وشبه تقليدي في واقعه، وتلفيقي في منهجه... تحت وطأة العصر وإذلاله أصبح يرنو إلى هذا العصر، ولكنّ ثقل رواسب الماضي يجعل سعيه إلى ولوج العصر أشبه بسعي المهربين، إذ يريد الدخول إلى العصر خلسة عن أعين الماضي أو بمباركة منه".
ـ ماركسي أو "ماركساوي"، بقي هامشيا ولم يستطع الانغراس في متن الأمة، وذلك نتيجة نهجه الدوغمائي واغترابه كوعي، وافتقاره إلى عمق ثقافي وبعد تاريخي.
ردينا رحال: بوهيميا
إضافة تعليق جديد