عندما سقط النظام السوري
فجأة انقطع بث القنوات السورية عن الفضاء الخارجي، وبدأت الأشرطة الإخبارية الدوارة لقنوات التلفزة العربية والأجنبية تجتاح الشاشات وتغطي بلونها الأحمر العاجل أكثر من نصف الشاشة. لا يمكن إخفاء حالة النشوة الكبيرة التي تجتاح القنوات النفطية وشريكاتها العالمية وتوابعها في المنطقة. المشهد عارم ومثير ومؤثر، إذ يتوالى المحللون النفطيون ومعارضو «الخارج» بدون توقف... تُهدى التحايا وبشرات النصر وبطاقات الشكر لمستحقيها، لكل الدول التي وقفت بجانب «الثورة السورية»، وأصدقاء الشعب السوري من دول عظمى وإقليمية وعربان وخلجان، وتجتاح المشاهدين فيضانات من الأحاسيس المتناقضة والشعور الملتبس. الكل يذرفون الدمع ويطلقون العبرات فرحاً أو قهراً.
إن مذيعي هذه القنوات يشكلون جوقة لا تقهر، ما تزال تعزف على أنغام سيمفونيات الرجل الأبيض وأهوائه ويرقصون على حباله الممدودة. إنهم يتابعون ما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن منذ أشهر قليلة عند سقوط أنظمتها في سياق «الربيع العربي» الهائج المثير.
شاشاتهم اليوم ووجوهم المنتشية الثملة بالنصر وطريقتهم المفرطة في الحماسة تعلن: «لقد سقط النظام في سورية».
لقد دخل «الثوار» دمشق وحلب وبقية المحافظات السورية، لقد سيطروا على قلب العاصمة واستولوا على المباني الحكومية وأحاطوا بمبنى التلفزيون السوري وقنواته الزميلة، ولم تعرف المصائر الحقيقية للقيادات السورية... لقد تحقق المطلوب! وهاهي سورية تدار بزاوية أفقية معاكسة وتسلخ من محورها، وستضم قريباً للركب الأميركي في المنطقة، وستصبح قاطرة إضافية في سياق عولمي استعماري لطالما عاندته وعاكسته، واتهمت مراراً أنها مصابة بحساسية قومية عربية ووطنية سورية عميقة. ها هو النظام المتجذر فيها منذ عام 1963 تضطره الثورة إلى التبخر الإجباري والانزواء القسري والاختفاء الاضطراري. اتُبع في ذلك كلُّ الأساليب الممكنة، لعل طبيعة «الثوار» المنوعة الأطياف والانتماءات والايديولوجيات ومصادر التمويل والتأثير، من شباب متحمس وجهاديين غرباء وحالمين بدولة دينية بدأت باستخدام أساليب مختلفة في إقصاء قيادات الدولة والتنكيل بها. وبات الجيش السوري يخضع بدوره لحملة تشكيك وتصفية تأخذ بالشبهات الطائفية وتقتل على الشُبَهِ والظنون.
بدأت المدن الكبرى والبلدات والمناطق السورية تشهد انزياحات ديموغرافية، تفرضها حالات انتقام طائفية وعرقية ومذهبية، تأخذ صفة المجازر البشرية البشعة. إن أعداد الثائرين وروحهم الطائفية المتدفقة مع أحجام الجهاديين الغرباء كفيلة في تفسير عشرات المجازر المتنقلة الشنيعة التي تقع في بقاع مختلفة من سورية.
اجتاحت الحارات والأزقة في المدن حالات من الفوضى العارمة، وفرض أمر الواقع، واستبيحت أبنية الدولة كلها ونهبت البنية التحية، وصودرت مصالحها الحيوية بأيدي جماعات مسلحة غير منضبطة، وقطعت الطرقات بين المدن والبلدات ووضعت السواتر والحواجز والمتاريس وأعلنت بقع كثيرة كإمارات لأمراء حرب، عددها أكثر من أسماء الكتائب والألوية الثورية التي فرختها «الثورة» السورية.
تطايرت القوانين الناظمة للمجتمع وفرضت قوانين السلاح والإرغام والترهيب، وبدت المجاميع البشرية في سورية تعود إلى قوانين ما قبل المجتمعات البشرية. التمزق والانقسامات الأفقية والشاقولية فيها لم تسمح حتى بالانكفاء إلى الحاضنة القبلية للاحتماء بها. سورية كانت قد تجاوزت هذه المرحلة إلى مجتمعات مدنية، نسفت الانتماء العشائري والقبلي في مناطق عديدة، حتى القبائل اختلفت سياسياً مؤخراً ووصلها الانفجار والتشظي في مواجهات المصير. يبدو واضحاً التمايز والاختلاف بين أطراف انتصرت معاً في ثورتها على النظام السوري وها هي تختلف عمن سيقود سورية اليوم وعن الطريقة المثلى لقيادتها (خلافة إسلامية، دولة مدنية ديمقراطية، دولة فيدرالية أم كونفدرالية طوائف أم...).
حُلَّ الجيش وتبخر أفراده في ليلة وضحاها، وبات كل مواطن يبحث عن أمنه الذاتي من الأخطار اليومية الداهمة. وقع الشعب تحت رحمة الميليشيات، وتمزق البلد إلى «كانتونات» أمنية طائفية مذهبية عرقية، تفصلها حدود من حقد وكراهية ودم ونار. انفجرت الحدود السورية بالنازحين، لا يمكن تخيل هذه الأعداد المذهلة الهاربة من جحيم الموت والحقد والخراب. فوضى عارمة ومجازر متنقلة، ولا يمكن الاتكال إلّا على رحمة القتلة والمجرمين الذين يملؤون الساحات والشوارع والطرق في المدن. لن يعير أحدٌ من المواطنين السوريين الواقعين تحت نير الأسلحة المتوحشة كلَّ الهذر الثوري والشعارات الكبيرة التي تصدرها شاشات العولمة النفطية التي تفتح بثها لخواجات المعارضة السورية في الخارج، لقد اعتادوا عليهم بأنهم دائماً يفتتحون بازارات الدم السوري ويَبِيضون أكبر الشعارات الثورية: «لقد انتصر الشعب السوري وحقق حريته».
يسير الواقع المتغير بسرعة كبيرة مثل الكثبان الرملية في موجات متلاحقة لا تتوقف، يشكلها الغازون للمدن والبلدات السورية، كل شهر أو أشهر عدة تحدث موجة تجتاح حياة السوريين وأمنهم وأرزاقهم، في حملةٍ يعلنها فصيلٌ جديد متشدد بعنوان تحرير جديد ومشروع جديد بشعارات مستجدة.
إن الذين لم يتفقوا على أسلوب إسقاط النظام في سورية، أنّى لهم أن يتفقوا وقد أسقطوه وبات وهج السلطة وبريقها يلوح أمام أبصارهم. سيخوضون حملات متكررة من التصفية والتصفية المضادة، ما سيجعل بسطاء الشعب السوري بأطيافهم يدفعون الثمن الغالي والأكلاف الباهظة. كيف لا وقد استخدمت كلُّ الشعارات الثورية الحماسية، ولعب التحريض الطائفي والمذهبي لعبته الدموية، وشُيطنت طوائف ومذاهب وأعراق وقطاعات من الدولة السورية، بخاصة الجيش السوري وجيش الدولة من الموظفين. استمرت فتاوى التكفير بتأثيرها في الرؤوس الحامية، وانقدحت روح الأحقاد والانتقام، وتمظهرت روح الله في تصرفات «المجاهدين»، فمارسوا سلطته في أَحكام المخالفين معهم فطبقوا الحدود بحماسة واندفاع.
تفرغُ سوريةُ من سكانها... من تبقى منهم بقيةُ مسلحين خلف متاريس الأزقة والحارات، يعيشون عبث الحكم فوق الخراب والدمار، وتهدد سورية بالزوال والذوبان في أقاليم جديدة تتشكل وفق تصور مجنون لبرنارد لويس في زمن السيولة الجغرافية وتوحش الأحلام الاستعمارية لدول الشركات متعددة الجنسيات.
إن سيناريو كارثياً مُتخيلاً كهذا نشاهد مثيلاً له اليوم في ليبيا وقد شاهدنا مثيلاً له في بغداد نيسان 2003. لا يلزم لتحققه إلا انصياعٌ تام للدولة السورية بمكوناتها الوطنية الجامعة (دولة عميقة وشعب حضاري وجيش عقائدي) لرواية الأضاليل والكذبات الكبرى المصدّرة لنا من مراكز التفكير والتوحش العولمي في الغرب.
إن استرجاعاً متأنياً ومراجعة دقيقة لنواتج اللوثة الهرمونية المرضية التي أصابت بعض الدول العربية في سياق ما دعي «الربيع العربي»، وما أفرزته من صراعات وانقسامات مجتمعية وسياسية وإثنية وعرقية في سيناريوهات سيئة، تتشابه في «كارثيتها» بين تلك الثورات التي سرعان ما أسقطت أنظمتها بالعنف الثوري أو بالهروب أو التنحي أو تلك الأنظمة التي أصاب إسقاطها الاستعصاء، يظهر أن الربيع العربي لم يقدم نموذجاً جيداً للاحتذاء والامتثال. كان نمطاً مشبوهَ المصدر والأسلوب في التغيير الديمقراطي القادم على أنغام جوقات استدعاء الناتو وسطوة الفصل السابع، وبتمويل باذخ من بلدان رياح الخماسين ونفط صحارى الربع الخالي.
إن المسارات التي اتخذتها صراعات السلطة في بلدان الربيع العربي وعدم المقدرة على سدِّ الفراغات المهولة الناجمة عن انهيارات السلطات الحاكمة في تلك الدول العربية المتجانسة بشرياً وإثنياً يجعل استعراض السيناريو السوري الكارثي، سابق الوصف، أمراً واقعياً كون المعارضات في كل البلدان العربية - بخاصة تلك المعارضات العريقة في مصر - لم تكن قادرة على تأمين بديل آمن من النظام السابق، فكيف بالمعارضة السورية التي اتسمت بالتشتت والتطرف والمراهقة وبكونها طفيلية غارقة في التبعية لجهات مختلفة، تعيش على الأحقاد القديمة وعلى الخطاب الطائفي المقيت، وكيف بسوريا المتنوعة الأعراق والأجناس والمذاهب والطوائف.
يفترض نجاح هذا السيناريو إغفالاً للدور الحضاري السوري الموغل آلاف السنين الذي شكّل نسيج البروكار البشري السوري في مواجهة غيلان الصحارى القاحلة وأحلام الواهمين باستعادة عصور سلطانية ماضية. تخوض سورية اليوم سيناريو اخر معاكساً لسيناريو سقوط دمشق. تختار فيه أن تقف في وجه العاصفة والجهل القادم من قلب التاريخ والجغرافيا، مزودة بسياسات تحدي ومقاومة وممانعة معاكسة لسيل لا يتوقف من التخلي والعمالة والركون للعولمة الغربية المتغطرسة ينهمر في بلدان المنطقة. تعدُّد العوامل المساعدة للسيناريو المعاكس يشكل مروحة واسعة من دوافع الصمود والمقاومة، تبدأ بنواة محور عالمي يتشكل من جديد، لينتهي بمواطن سوري معاند يرفع أصبعه معترضاً في وجه النظام العالمي الجديد، ويفضل أن يمارس طقوس ديكتاتورية المواطنة على أن يعيش ديمقراطية الطوائف والمحاصصة.
فُرِضت على سوريا معركتها، وهي معركة الجدار الأخير، تحتمي فيها بتراث إنساني حضاري عريق وشعب أصيل وجيش متمرس عقائدي، يدافع عن ترابه الوطني في وجه غرباء ومضللين وأصحاب أوهام وأحلام، وليس أمامه إلا الانتصار.
إن دولة كسورية وقفت وحيدةً مع كثير من الشعوب العربية والمسلمة في وجه الغزو والسطو المسلح الأميركي الغربي لدول المنطقة، واستطاعت بدعمها لحركات المقاومة في المنطقة (يجب التنويه بالمقاومة العراقية وإن شذّت بعض فصائلها وأخطأت الطريق والهدف)، واستطاعت عبر محورها الداعم التأسيس لسياسة «انهيارات الدومينو المعاكسة»، والتي عشنا بعض فصولها في انتصارات المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، وبسقوط الدور الوظيفي لدولة الكيان الصهيوني والأفول المتدحرج للسياسات المتغطرسة للقطب الأميركي في المنطقة.
إن كل الحلول القسرية التي تُصدّر إلى سورية عبر معارضاتٍ مشبوهة مرتزقة تعتبر إيغالاً في سفك الدماء السورية، واسترخاصاً لها في ألعاب الأمم. وتعدُّ عبثاً لا طائل منه ما لم تعتمد الحلول أساساً على التحاور السوري وعلى ثوابت الضمير السوري الجمعي، وتراكم فهم الوطنية السورية في القرار الوطني المستقل بعيداً من الإملاءات والرغبات الخارجية.
عبد المعين زريق
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد