أدونيس: تاريخ يتمزق في جسد إمرأة
عن "تاريخ يتمزّق في جسد امرأة" يكتب أدونيس في إصداره الشعري الأخير. يكتب بكل التوق الذي لطالما كان له في العبور من الضيق والضئيل الى الأكثر شساعة والأوسع أفقاً. واذ نقرأه، نفعل ذلك خارج إشكاليات الشعر وأسئلته الما بعد حداثية والراهنة، ومن ثم وفي درجة ثانية، خارج إيقاع هذا الزمن وأطروحاته الأكثر التهاباً. نقرأه كبيان فكري، كموقف لا يتنكّر لحظة للعناوين العريضة التي طبعت مسيرة أدبية ما انفكت منذ نصف قرن تبتكر معاركها الفكرية والنقدية والشعرية وتخوضها باستبسال لا يعرف مهادنة. واذ يستعيد الشاعر هنا جوهر الحياة، كما لطالما آمن به وعبّر عنه شعراً وفكراً ومواقف في المرأة والدين والمجتمع والجنس والعلاقة بالجسد، يعود مرة أخرى ليرفع لواء هذه الوثنية التي رافقته منذ أول أعماله في مواجهة شرق محكوم بقواعد الغيب وكتبه وتعاليم أنبيائه.
مرة أخرى، تعود هذه اللغة "الأدونيسية" التي حسمت خياراتها الكبرى في ستينات القرن الفائت، وجعلت من الشعر المساحة الذهنية الخالصة التي تتشكل فيها الفكرة المنسوجة بصلابة لغوية ومتانة بلاغية والمتكاملة على مستوى المنطق الداخلي للجملة. اللغة الواثقة من أدواتها، سليلة موروث بلاغي ما فتئت تنقلب عليه وعلى صروحه الجامدة وقيمه الجمالية وهي تنهل منه في الوقت نفسه.
في الكتاب الجديد الصادر عن "دار الساقي"، يبني أدونيس قصيدة متعددة الصوت، ذات بنية درامية أقرب الى أن تكون أفقية الامتداد، تنكبّ على الحفر في نقطة مركزية واحدة، تتوالد فيها العبارات من ذاتها وتتغذى من ذاتها معلنة استقلاليتها عن كل تصاعد في الوتيرة او الايقاع أو البنية. يجعل الشاعر من صوت المرأة محور هذه القصيدة، فيما يوزّع الأصوات الأخرى بين الرجل والراوية والجوقة، التي تتضافر لتشكل ما يشبه الصدى لكلامها، فيصف بذلك تاريخ البشرية كلها لكن في شكل خاص تاريخ هذا الشرق الذي يسير صاغراً ومن دون سؤال على هدي رسل الغيب وممثليه، أصناماً وآلهة وأنبياء، متجاهلاً طبيعته الحسية، كابحاً جماح فطرته ومستسلماً لما لا يمكن الا أن يكون مخالفاً لهذه الطبيعة.
تتوزع القصيدة اشارات متفرقة، ميتولوجية من ناحية وتلك التي تستقي صورها وأفكارها من النصوص السموية من ناحية ثانية، الا أنه يبرز واضحاًً انحياز الشاعر للأولى وتبنّيه وثنيتها وعلاقتها بالمادة وارتباطها العضوي بالطبيعة في كل فطرتها وحضورها الحسي والملموس، جاعلاً من المرأة ومن علاقتها بجسدها وانحيازها المطلق اليه والى الحياة المتفجرة منه، ومن إيثارها التراب الممزوج بالغرائز والشهوات والغوايات طريقاً للارتفاع عليه والسمو فوقه في لحظات تتحد فيها الذات بالكون وتتوحد فيه. أما الرجل فيظهر في "المشاهد" كلها، حاملاً كتاباً ومقلّباً صفحاته، تتنازعه حيرة لا تبلغ حد الرفض، ويرفع خطاباً فيه بعض التشكيك لكنه يغص بالاشارات والإحالات على فكر سلفي متوارث، مطبوع بالعنف والدم. خطاب يحاول التحايل على منطق غيبي، مجاهداً لكي لا يحيد عما "كُتب" وفرض من سماء لا سبيل الى إدراكها. من ناحيتها، تتخذ "الراوية" موقفاً وسيطاً ووسطياً، تعلّق على المجريات لكنها لا تفعل ذلك بالحياد والسلبية المعروفين عن الرواة عادة، ويأتي استخدامها صيغة المتكلم ليفضح تورطها هي الأخرى ودورها في الصراع الدائر أمام ناظريها والذي ستكون المرأة وحدها ضحيته.
في صلب المواقف كلها، الفاعلة منها (المرأة) والأكثر تسجيلية (الجوقة والراوية وفي درجة ثانية الرجل)، تناضل المرأة وحدها ضد هذا الهدي الآتي من السماء والذي يُعمل فيها الختان تلو الختان، رافعة خطاباً ملؤه الشك والرفض والألم والحزن والتمرد والثقة والحب، لكن قد يختزله منطق واحد عنوانه "لا كتاب": "لا كتاب. خطواتي كتابي" تقول، وفي مكان آخر تتوجه الى زوجها داعية: "جئني في ثياب الطبيعة/ لا نشوة، لا كتاب/ غير هذا التراب".
لكن لا يخدعنّنا هذا التصريح الحاسم والمنطوي على كل العنف الرفضي الممكن، فهو أبعد من مجرّد إلحاد سهل وفي المتناول، ترفعه نعجة متمردة "تدحرج ميراثها في الطريق الى قدس أو مكة"، بينما البشر "سائرون الى ربهم:/ قدم في التراب، وأخرى/ في السماء. قطيع خراف"... بل هو أقرب الى نوع من الصوفية المادية تتفجّر من تحت. تنبثق من المادة وترتفع عليها. تشقّ التراب وتسمو عليه حاملة عبق الأرض ورطوبتها المبللة بالشهوة: "جسدي ما أراه وما لا أراه". فلنسمّها اذاً صوفية وثنية، الجسد عنوانها ومآلها والطريق إليها، والشهوة دليلها وفضاؤها والشرط لإبحارها. وفي حين يبدو الرجل، بمواقفه وتعليقاته السريعة والقصيرة، حائراً بين أرض وسماء من دون أن يحسم موقفه تماماً، يصير جسد المرأة الفضاء الحر الأصيل والحقيقي الوحيد، تحتفي به وتتركه يقودها، وتهرب إليه من قيود مجتمع - عنكبوت "يجرّ خطاه على وجه قيثارة" ولا ينفكّ ينسج من حولها خيوط قوانينه الخانقة.
"أصلّي لجسمي وإسمي"، هذا هو خيارها اذاً، المتمثّل في الانغماس في ذاتها كسبيل للتوحد بها وبالعالم في ما بعد: "وأسير على هدي جسمي/ وأرى كل شيء". انه التوق الى الانكشاف يقودها ويحكم خطواتها وصولاً الى حد التماهي التام مع الجسد أولاً: "جسدي خالقي، وحبي خلاّقه"، تقول عن عملية الخلق المتبادل هذه، ومن ثم مع الطبيعة الأم من خلال اعلان الانتماء اليها وحدها: "أشهد الآن ان الطبيعة أول ما انتمي اليه/ وآخر ما أنتمي اليه". كأنها كلما غرقت في المحسوس اكثر، ارتفعت عليه، بينما لا تفعل السماء سوى مضاعفة انحدار من يستدلّ بها.
أما رفض المرأة العنيف هذا للسماء فليس موقفاً اعتباطياً أو مجانياً، بقدر ما هو رد فعل على الجحيم المقذوفة اليها، جسداً ومشاعر، حتى بات النفي بيتها والفجيعة عرسها. وهو رد فعل كذلك على قواعد يزعم المجتمع أنه يستمدها من السماء، ويعتبر فيها المرأة محض إناء "لاحتضان المنيّ" وناظراً اليها على أن نصفها "رحم وجماع والبقية شر". لذا، نراها تعترض وتسأل: "جسدي ليس منّي تقول تعاليمهم/ أتقلب فيه/ واهتديت وتهت وغنيت، صليت وانسقت/ فيه من فضاء الى آخر/ فلماذا تقول تعاليمهم جسدي ليس مني؟". أسئلة تبدأ تشكيكية هادرة: "لماذا اذاً يولد الانبياء/ في فراش امرأة؟"، قبل أن تعبّد الطريق تحضيراً للحظة الإنكار القصوى: "أذلك وحيٌ؟"، وتعلن تسليمها الكامل لسلطة الحب التي تقول عنها "الجوقة" انها "اعلى والارض اوسع/ مما تقوله النبوّات"، وتعلن استسلامها أيضاً: "اختطفني/ ايها الحب، واقذف بجسمي أنى تشاء/ ضد هذي السماء".
من ناحية أخرى، يتعدى رفضها زوجها والموت الذي يحمله في فراشه ومنيّه، رفض البعل وحده، بل هو رفضٌ للأب الذي فيه كذلك. واذ تعلن عالياً عن رغبتها بموت الأبوة، نجد ان الشاعر ايضاً لا يجعل من وجودها حضوراً أنثوياً شهوانياً محضاً، بل أمومياً كذلك. لكنها أمومة تفصح عن نفسها من دون أن تسقط عنها غريزتها، لذا لا نستغرب اقدام الحشد في المشهد الما قبل الأخير على رجمها بالحجارة هي وطفلها معاً. فهو جزء منها ومن خطيئتها، أرضعته أوهامها وزرعت فيه بذرة التمرد، الامر الذي لم يكن في وسع من عهدوا الى أنفسهم مهمة الاقتصاص منها، تجاهله أو التسامح معه.
هذا الصراع بين الأرض والسماء، يكاد يكون في الواقع صراعاً بين الطبيعة التي ترفع المرأة لواءها والسعي الغيبي الى خنقها وإحلال ما يخالفها مكانها. يخالفها، لأنه في كل بساطة من طبيعة أخرى، طبيعة غيبية تناقض جوهر النزعة الحسية التي تعلن المرأة انتماءها اليها: "لا حياة اذا لم تكن حضوراً"، تُعلن، رابطةً وجودها بكل ما هو حسي وملموس. تظهر هذه النزعة في المشاعر التي تتقاذفها من حزن وشهوة وخيال وعشق واحساس حاد بالزمن... وأكثر. واذ تفضح ليل البشر الموثوق بحبال النبوات كما تصفه، تسأل زوجها: "هل أنت حي/ في كتابك، أم في حياتك،/ أم أنت ميت؟"، بينما تحسم هي خيارها بالانحياز الى أنوثتها وحدها: "لا اريد الحياة اذا لم تكن بدعة". أما هذه الحياة البدعة التي لا تريد سواها فهي "طين لم يلامسه وحي". حياة لم يبق لها مكان حتى في المدينة التي لم تعد الفضاء الوحيد الذي يحضن هذه الحرية ويغذيها ويؤمّن لها شروط نموها وتفتّحها، بعدما أصابها ألف تحوّل وتحوّل منذ أن اجتاحها زمن الآلة وأحكامها: "ما المدينة يا ايها البدوي الذي طوّح المدينة في آلة؟".
يختار الشاعر لقصيدته نهاية مغرقة في تراجيديتها وهمجيتها تتمثل في الرجم كفعل بدائي يفضح استلاب مجتمع بكامله وتسليمه الأعمى لسلطات الغيب المختلفة، وعجزه عن احتواء مفهوم آخر للحياة ذي طبيعة أكثر حسية، لكن خصوصاً رفضه للخيال كسلطة أخرى محرِّرة: "لا تطف أيها الخيال على أرضنا"، يقول الحشد في اللحظة التي تسبق هجومه على المرأة ورجمها. لكن قبل الوصول الى نقطة الذروة هذه، يجمع أدونيس في قصيدته خلاصة فكره المنحاز الى صوفية وثنية تفضح الغيب ولا توفر في ذلك سماءً، وتعلن على لسان المرأة المرأة جهاراً: "آه ما أجمل الحياة وسحقاً لجنتها المرجأة".
سيلفانا الخوري
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد