الديمقراطية .. وقرينة الصمت

18-12-2011

الديمقراطية .. وقرينة الصمت

الجمل ـ عبد الله علي: ترسخ اعتقاد عن الديمقراطية أنها تضفي "المثالية" على أنظمة الحكم، ويبدو أن مجتمعات العالم الثالث هي أكثر من تعطي للديمقراطية هالة "المثالية" تلك، ربما بسبب افتقاد أنظمة الحكم في دول العالم الثالث إلى الديمقراطية وحرمان شعوبها منها. ومن المعلوم في علم النفس أن الغياب، سواء شخص أو شيء أو فكرة، يحرض الذاكرة على الاحتفاظ بالأمور الجيدة عن الغائب، وتدريجياً يتحول هذا الغائب إلى نموذج مثالي خالٍ من العيوب. وهذا ينعكس على النظرة إلى الحاضر، عند المقارنة بينهما، بحيث ينظر إليه على أنه خالٍ من الإيجابيات أوأية محاسن. والحقيقة أن علماء السياسة والقانون في البداية، كانوا ينظرون إلى الديمقراطية ليس على أنها مثالية وإنما باعتبارها "الأفضل" في حل المشكل السياسي، ومنذ ستينيات القرن الماضي بدأو بوصفها بأنها "الأقل" سوءاً من بين الأنظمة السياسية.

*****

الديمقراطية الغربية، كما هي مطبقة حالياً، تقوم على افتراض مسبق بأن الكتلة الصامتة من الشعب، راضية. بمعنى لا تتطلب الديمقراطية الحصول على أغلبية أصوات الشعب، وإنما أغلبية أصوات الناخبين الفعليين. توضيحاً لذلك لقد تمَّ اختزال الشعب إلى كتلة الناخبين، وتمَّ اختزال كتلة الناخبين إلى مجموعة الناخبين الذين مارسوا حقهم فعلاً، وقد لا يشكل هؤلاء سوى نسبة 30% أو 40% من مجموع الناخبين، وبما أنها نسبة غير كافية، فقد جرى تبني الافتراض السابق بأن الصامت راضٍ، أي يعتبر كأنه أعطى صوته لمن حاز أكبر نسبة من الأصوات. ومن الواضح أن هذا الافتراض لا يقوم على أساس واقعي، وهو من مساوئ الديمقراطية الكثيرة. بل يمكن القول أن هذا الافتراض هو نوع من الخديعة التي تفرغ مبدأ الديمقراطية من مضمونها الشعبي، وتحولها من حكم الشعب إلى حكم أقلية من الناخبين.
ثم يطرأ اختزال آخر، إذ بعد تشكيل المجالس النيابية من الفائزين بالانتخابات، يجري اتخاذ القرارات وفق أغلبية أعضاء هذه المحالس، أي يتم اختزال الشعب بكامله إلى أغلبية أعضاء المجلس النيابي فقط، والتي لا تمثل في الواقع إلا نصف أصوات الناخبين الفعليين أي ما يمثل فقط نسبة 15% أو 20%  من مجموع كتلة الناخبين.
وبالتالي فإن الديمقراطية وعلى خلاف ما يشاع بأنها حكم الأغلبية، هي في الواقع لا تمثل إلا حكم أقلية من الشعب، إلا أن هذه الحقيقة لا تظهر بشكل واضح وذلك بسبب الافتراض الذي تحدثنا عنه والذي يفسر صمت الكتلة الصامتة على أنه رضا وقبول.

*****

ولا يجري أبداً الحديث عن هذا العيب الديمقراطي، رغم أن بعض نتائج الانتخابات التي تكون المشاركة فيها قليلة جداً، لا تكون في الواقع إلا تجسيداً عملياً لحكم أقلية صغيرة من الشعب، وهو ما يناقض مفهوم الديمقراطية بأنها حكم الأغلبية.
وهنا لا بدَّ أن نقول أن المراقبين ووسائل الإعلام، غالباً، ما يهتمون بنسبة المشاركة في الانتخابات، وتتم الإشارة إلى أن ضعف الإقبال على صناديق الاقتراع وقلة عدد الناخبين، تمس بقوة التمثيل الشعبي للفائزين. وهذه الإشارة إلى المساس بقوة التمثيل الشعبي، رغم أنها لا تُطرح على هذا النحو بشكل مباشر، إلا أنها تحمل في طياتها تلميحاً إلى أن الافتراض المسبق برضا الصامتين هو افتراض غير واقعي وغير حقيقي. ومع ذلك لم نجد أي ديمقراطية تشكك بنتائج هذه الانتخابات، أو تحاول أن تفكر بحل بديل عن هذا الافتراض الوهمي الذي تقوم عليه.

*****

ولكي تكون الإشكالية التي نطرحها أكثر وضوحاً في أذهان البعض، يكفي أن نتصور كيف ستكون نتائج أي انتخابات ديمقراطية، لو افترضنا أن أصوات الصامتين تعني الرفض وليس القبول!!!!!. مثلاً، إذا جرت انتخابات وكانت نسبة المشاركة فيها 60% من كتلة الناخبين التي نفترض أن عددها مليون ناخب، وحاز مرشح على نسبة 40% من أصوات المشاركين الذين هم أصلاً لا يتجاوزون الـ 60% من مجموع كتلة الناخبين، أي يكون قد حاز عدداً من الأصوات يبلغ فقط 240000 صوتاً من أصل مليون ، فهذا المرشح وفق ما هو معمول به حالياً يعتبر ناجحاً رغم أنه لم يحظ إلا بأصوات تمثل أقل من الثلث. بينما يتم تجاهل أصوات 760000 صوت هي مجموع أصوات الصامتين مع أولئك الذين لم ينتخبوا هذا المرشح، والتي تبلغ أكثر من ثلثي الأصوات.
أما من الجهة الأخرى، سيعتبر هذا المرشح غير فائز إذا لم نأخذ بفرضية رضا الصامتين الوهمية.

*****

والسؤال: لماذا لا تتبنى الديمقراطيات الغربية مبدأ الأغلبية الشعبية الحقيقية؟ لماذا لا تتطلب أن يفوز المرشح بأغلبية أصوات كتلة الناخبين جميعاً، وليس فقط بأغلبية المشاركين الفعليين؟ ولماذا لا ينظر إلى الانتخابات التي تقل المشاركة فيها عن نسبة معينة على أنها لا تمثل الأغلبية الشعبية وبالتالي ينبغي إعادتها؟ ولماذا لا تتخذ إجراءات تضمن مشاركة جميع الناخبين، سواء بإلزامهم بالتصويت، أو على الأقل افتراض أن موقف الصمت يحمل على سبيل الرفض وليس القبول؟.
قد يقول قائل أنه لا يجوز إلزام الناخب بالتصويت لأنه يتعارض مع حرية التعبير عن الرأي، ولكن في المقابل ألا يتعارض مع هذه الحرية أن نفسر صمت الناخب على نحو معين رغم أنه لم يعبر عنه صراحةً؟ فما بالك عن تفسير صمت مجموعة ضخمة من الناخبين قد تصل إلى نسبة 50% من إجمالي كتلة الناخبين، أي النصف! هل يعقل أن نفسر صمت هؤلاء على أنه قبول ورضا دون أي قرينة تدل على ذلك؟ ألا يتعارض هذا مع حرية التعبير أيضاً؟

*****

اليوم هناك اتجاه في عدد من البلدان العربية إلى تغيير دساتيرها، في مواكبة منها لمبادئ الحرية والديمقراطية وترسيخاً لمقولة حكم الأغلبية الشعبية. لذلك نقترح على واضعي هذه الدساتير أن يعيدوا النظر في مفهوم الأغلبية كما هو معمول به في الديمقراطيات الغربية والذي أصبح كما قلنا أقرب إلى مفهوم الأقلية، وأن يسلكوا في ذلك مسلكاً وسطاً يجمع بين ضرورة التأكد من تمثيل الأغلبية الجقيقية وبين احترام حرية التعبير. وقد يكون ذلك على سبيل المثال باشتراط أن لا تقل المشاركة في الانتخابات عن نسبة معينه 70%  أو ما فوق من مجموع كتلة الناخبين. أو اللجوء مثلاً إلى تغيير دلالة الصمت من الرضا إلى الرفض. أو غيرها من الطرق الأخرى التي يراها واضعو الدستور ويكون من شأنها ضمان تمثيل الأغلبية الحقيقية.
ولما لا؟ أليس من حقنا أن يخالجنا الأمل في أن يحقق العرب إضافتهم الخاصة على عالم الديمقراطية الذي شرعوا بالالتحاق به وهو على وشك التداعي بعد أن مضت عليه عشرات العقود دون أن يقوم أحد بصيانته أو إعادة تطويره.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...