"تدبير منزلي" لمارلين روبنسون: حتى وهم الأشكال الخارجية يفشل حين تتفرق العائلات

20-11-2011

"تدبير منزلي" لمارلين روبنسون: حتى وهم الأشكال الخارجية يفشل حين تتفرق العائلات

يظن البعض ان رواية "تدبير منزلي" للكاتبة الأميركية مارلين روبنسون (ترجمة سامر أبو هواش، لدى "هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث")، هي محض سيرة ذاتية تروي حياة فتاتين عاشتا بلا أب وماتت أمهما في ظروف غامضة، لكن جوهرها أبعد من هذا بكثير. انها مرآة تعكس الحقائق المتنافرة التي يتخبّط بها المجتمع الأميركي جراء تفكك العائلة بعناصرها المبعثرة، حيث النهايات التراجيدية: الموت قهراً أو الانتحار أو التشرد في الظلمات أو العبث.
روثي ولوسيل هما اسما الفتاتين. كل منهما تعاني ألم فقدان الأم بطريقة تتشابه مع الأخرى حيناً، وتتناقض معها حد التطرف حيناً آخر. فالأولى أكثر خجلاً وانعزالاً، فيما شقيقتها الصغرى أكثر طموحاً وشباباً واصراراً. تعيشان بانسجام لم يخل للحظة من التوتر والقلق، لكنهما تستطيعان الاستمرار في حياة شبه مستقرة في كنف جدتهما الى حين وفاتها. تتجلى معالم عزلتهما عقب مجيء العجوزين ليلي ونونا فوستر، أختي جدهما، للاعتناء بهما. كانت هاتان السيدتان شديدتي التشابه، حتى في أتفه التفاصيل. حياتهما ملل قاتل، وروتين لا يرحم أحداً، بعيداً من درب الازدحام المحتمل. يمسي البيت فضاء آخر، تطفو فيه الحياة منعدمة الوزن، غير محسوسة، متعذرة المزج والفصل، مثل الانعكاسات على سطح الماء.
فيض متلاحق من الصور السريعة يجتاح الفتاتين حالما تقرر العمتان ترك المنزل للخالة سيلفي. هي جزء من أمهما التي عبر الموت وخطفها من دون استئذانهما. ولكن، هل يطلب الموت اذناً من أحد كي يمد يده ويختطف من نحب؟ الجواب يظل لا دائماً. من الصعب وصف أحدهم، بما ان الذكريات في طبيعتها مجزأة ومعزولة واعتباطية، فكيف تكون سيلفي؟ هل ستشبه أمهما؟ ما لون شعرها؟
تتبدد هواجسهما عندما تدخل سيلفي البيت كطيف غامض يقف في ريح عاتية في تلك الليلة غير المقمرة. تبديان عطفاً تجاهها في البداية، إذ تخافان أن يطل شبح الفراق والموت ويأخذها من أمام ناظريهما فجأة كما حدث مع أمهما. تولى سيلفي مهمة التدبير المنزلي لحظة وصولها الى البيت، بيد ان تصرفات غريبة تظهر عليها مع الوقت: تنام دائماً بملابسها، أولاً منتعلة الحذاء، ثم بعد شهر أو شهرين واضعة إياه تحت الوسادة! تعاني تشرد الذهن قبل تشرد الجسد، هي التي لم تعرف يوماً الاستقرار. حياتها مع أمها كانت مليئة بالخيبات. ألق أسطوري ملحمي حزين، واختلاف قاتل في وجهات النظر. تترك بيتها أولاً ثم بيت زوجها ثانياً، كأن الاستقرار كابوس أزلي عالي النبرة يحرمها السكينة والصفاء. لم تنجب الأولاد، وأبدت عطفاً مبالغاً فيه تجاه الكلاب، فكانت تضع لها الطعام في الليل الدامس حيث الظلام والصقيع لا يرحمان حتى الحجارة.
هذه سيلفي إذاً، غارقة دائماً في الصمت والظلمة حتى حينما تأكل. تروح الفتاتان تتذمران من سلوكها الشاذ، ولا سيما لوسيل. يتحول شغف لقائها، وهي من بقيت لهما من رائحة أمهما، ارتدادات عكسية تلامس الكره الحاد في بعض المواقف. تتغيّر لوسيل كثيراً، فتعيش انفصاماً مرضياً بين الواقع وما فوق الواقع. تقول الكاتبة في شأنها على لسان روثي: "كانت لوسيل ميالة الى الموقف العام، وكانت تنظر الى الزمن الذي لم يأت بعد-شذوذ في حد ذاته- بوصفه واقعاً شديد الحضور. كان بمثابة ريح قاسية تلفح وجهها؛ ولو انها خلقت العالم، لكانت تلك الريح الثابتة أحنت كل شجرة فيه، وجردت كل غصن، وعرّت كل فرع. كانت ترى في كل شيء احتمالات لتغيير بغيض".
تسيطر العزلة بأبعادها الدراماتيكية على حوادث الرواية مثل أولاد يثرثرون في جنازة. الموت الجسديي رافق الشخوص الثانوية (الأم، الأب، الجد والجدة)، فيما الروحي والوجودي يرافق تلك الرئيسية (روثي، لوسيل، وسيلفي). تسيران على الطريق، ونظرات الناس تسحقهما كمرآة مشوهة. حياتهما لم تعد عادية: مد وجزر، رياح عاتية، غشاوة لزجة احتشدت فيها الكائنات غير المجسدة وتراكمت، على نحو ما تتراكم في شباك العنكبوت أو الزوايا غير المكنوسة في المنازل.
المشهد مظلم وبارد تماماً. لا مكان، لا جسد. لا حاجة الى وجود طلل، أو أثر، أو هامش، أو تذكار، أو إرث، أو ذكرى، أو فكرة، لو ان العتمة كاملة ودائمة فحسب. عيون الناس في كل مكان، كثيفة، جاثمة جثوم الكتلة الثقيلة. الوهم أيضاً في كل مكان، وكذلك التبدد والاندثار. وأخيراً تقول لوسيل لروثي: "اننا نمضي الكثير من الوقت معاً. نحتاج الى أصدقاء آخرين". ارادت قتل السنوات الطويلة التي قبعت فيها في العتمة كطفلة مسجونة في ذات مستوحدة انطمست معالمها. تقول: "بدا اننا بفعل سحر ما ضائعتان في مشهد ما، وتكفي أي نسبة من الضوء، حتى يصبح مألوفاً بالكامل، ونصبح قادرتين على استنباط المعاني من الأصوات والأشكال، وعلى معرفة أين نضع أقدامنا".
تنجح الرواية (الحائزة جائزة همنغواي-بن) في رسم صورة تاريخية عن مسار عائلة من خلال التوغل في الحكايات الصغيرة والهامشية والتفاصيل التي قد يعتبرها القارئ مملة أثناء القراءة. الموت، التشرد، الفقر، الغربة، العزلة، الألم، الخوف من الآخر، كلها تحضر، بأسلوب بين البلاغة والبساطة من جهة، والشعرية والواقعية من أخرى. فتجسد سير أناس كثيرين مشحونين بالألم والخراب، طامحين الى صفاء واستقرار لا ينفكون يسعون اليه جاهدين.

فاطمة عبد الله

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...