حمص خارج الزمن بتوقيت "كرجية الحداد"
الجمل – حمص – بهيج وردة:" لقد كسروها و باعوها خردة " يقول سائق التاكسي لـ ( شعلان ) .آخر يقول هازئاً: "تخيل لقد باعوا الساعة ،و سيأتي يوم لن تجد هذا البناء حتى " مشيرا ً بيده إلى البناء الحجري الأبيض الموشى بالأسود ،الذي يحمل ساعة كرجية حداد ,المتعارف عليها في حمص بـ ( الساعة الجديدة ).( شعلان ) ضاق ذرعا ً بالشائعات ،التي يتفنن سائقو التاكسي في تداولها مع ركابهم ،ترك أسرته لتذهب إلى البحر يوم الجمعة الماضي ، و مضى ليركّب مينا الساعة و عقاربها التي يحبّ، موقفاً عقربيها على الـ ( 12) تماما ً ،فهو الخبير الجديد الذي تعاقدت معه بلدية حمص لصيانة الساعة ،بعد وفاة والده (عبد الله كيشي ) الخبير السابق، المجدّد و المطوّر لها .
الساعة المتوضعة أمام دار الحكومة، تحمل اسم المغتربة ( كرجية حداد )،التي زارت سوريا عام 1951 برفقة وزير سوريا المفوض في البرازيل الشاعر ( عمر أبو ريشة ) , و تبرعت بكامل تكاليفها التي وصلت إلى 100 ألف ليرة ، لبناء ساعة تضبط إيقاع مدينتها ، فتم تدشينها في 14 آب 1964 ، كما هو منقوش في اللوحة الحجرية التي تحمل اسمها و صورتها الموجودة على إحدى وجوه الساعة مربعة الشكل ، التي وضع تصميمها المهندس (عمر مالك )،حيث بلغ ارتفاعها 16.56 مترا ً ، أما المواصفات الفنية الأخرى، فيقول شعلان عنها : " طول عقرب الدقائق 90 سم ،و عقرب الساعات حوالي 70 سم ، أما قطر مينا الساعة فبلغ 2.4 مترا ً " .
الساعة الجديدة كانت ضحية لشغب الملاعب - برغم بعدها عن ملعب المدينة - إلا أن بعض الغوغائيين قام بكسر بابها ، و قطع أسلاك التغذية عنها، فزادوا على هرمها الذي فرضت السنين ثقله على أدائها ، مما استدعى إسعافها إلى طبيبها الذي يعالجها حاليا ً ،و يقوم بترميم ماكيناتها المرهقة من أثر الأعوام الطويلة التي مرت عليها و الذي يقول : " ماكينات الساعة لازالت نفسها منذ افتتاحها عام 64 ،حيث نقوم بصيانتها و إصلاحها يدويا ً "إضافة إلى هذا، فقد قام مع والده بتطوير الساعة عما كانت عليه ، حيث تم تحويلها من ميكانيكية إلى نصف الكترونية ، من خلال استخدام النبضات الكهربائية بدلا ً من استخدم البندول في ضبط توقيتها , و قام بوصل بطارية قابلة للشحن تستمر في عملها لمدة ثلاثة أيام ، في حال انقطاع التيار الكهربائي ، حيث يضيف: "أيضا ًقمنا بإضاءة الساعة من الداخل , دون أن يؤثر هذا على شكلها الخارجي، و أضفنا لها جرسا ً ليدق كل ربع ساعة , بنغمة ساعة بيغ بين الشهيرة " ، أما المشقة الكبيرة التي يتكبدها في تصنيع قطع غيار للساعة , فيراها شعلان متعة لا يضاهيها متعة فلا أجمل من إعادة الحياة إلى الأشياء المعطلة, ويرى أن استبدال الماكينات القديمة بأخرى حديثة " يفقد الساعة قيمتها المادية و التاريخية الجميلة " .
(مات الخبير .. فتوقف التوقيت ) هكذا عنون أحد الصحفيين بجريدة ( العروبة ) الحمصية زاويته ، في عددها الصادر يوم وفاة عبد الله كيشي ، متسائلا ً عن مصير الوقت في حمص , التي بقي وقتها غير دقيق , حتى تمّ توقيع عقد الصيانة مع ( شعلان كيشي )، الذي يقول: " أحب هذه الساعة و أحترمها ،لي ذكريات جميلة معها , أتفقدها كل يوم ، كحبيبتي و أطمئن عليها " . شعلان مع إخوته و أبناء عمومته هم الجيل الرابع في العائلة التي تصلح الساعات , حيث بدأت هذه المهنة مع والد جده الذي كان يصلح ساعات الجيب في العام 1890 ،و توارث الأبناء المهنة و قاموا بتطويرها ، فالجيل الرابع قام بإدخال الإلكترونيات على (كار) الساعات المتوارث ، و وسع أعماله إلى مدريد و واشنطن , إضافة إلى بعض الدول العربية ، حيث يختص ّ ( شعلان ) و أخواه ( سمير و أمير ) بالساعات البرجيّة
فلم تجد البلدية من يصلح ساعة كرجية، التي توقفت سنوات عشر ، سوى (عبد الله كيشي ) في منتصف الثمانينيات ,خبير عدادات النفط في شركة ال (IPC) ،الذي تفرغ لهوايته ( الساعات ) بعد تقاعده .
دقت الساعة الواحدة بعد الظهر في منزل شعلان بينما أشارت ساعة يده إلى الواحدة إلا دقيقتين ! باب النجار مخلوع ! ينتفض شعلان : " لا ، التوقيت الصحيح هو كما في ساعة يدي ، فأنا أحب الدقة جدا ً " ،يضحك و يعرّف الساعاتي بــــــــأنه : "رجل يضيّع وقته في ضبط أوقات الآخرين " إلا أنه يعد الحماصنة أن تعمل الساعة على خير ما يرام، و أن يعودوا إلى ضبط ساعاتهم على إيقاعها ، قبل نهاية الأسبوع الحالي .
الجمل
إضافة تعليق جديد