نذير جعفر في أساور الورد وقلائد الوفاء

15-01-2011

نذير جعفر في أساور الورد وقلائد الوفاء

لم أستمتع فقط برواية نذير جعفر "أساور الورد" الصادرة حديثاً عن دار نون في حلب على غرار استمتاعي بشقيقتها السابقة "تحت سقف واطئ" التي صدرت عن الدار نفسها قبل عامين.. بل إن الروايتين قد قدّمتا إليّ ثقة مبهجة بأن هذا الكاتب، الذي اشتغل في حقل النقد والدراسات وعُرف من خلاله بما كتبه وأصدره، هو روائي بحق غير أن هذا الجانب فيه ظل مؤجلاً إلى أن "أفرج عنه" الكاتب فحضر في ساحة الأدب بجدارة!
في الغالب، يشتهي النقاد والدارسون، العارفون نظرياً بأسس الرواية والقصة والشعر ومعمار هذه الأجناس والمطّلعون على إنتاجٍ وفيرٍ منها؛ أن يشاركوا بعمل أو عملين روائيين أو شعريين أو غيرهما، إلا أن النتيجة ـ في الغالب أيضاً ـ تأتي مخيّبة لآمالهم قبل أن تخيّب آمال القراء.
نذير جعفر، في عمليّه، لم يبدُ لي صاحب نزوة طارئة، بل كان أصيلاً وممتعاً في تجربته الأدبية، إذ نحّى الجانب النقدي في شخصيته وأبعده حين همَّ بتقديم نصّين روائيين مشغولين بحكاية أساسية "هي حكاية النفوس المرهفة، النبيلة، المتعطشة للحياة، والعطاء، التي تصطدم بشرطها الحياتي القاسي، فتعيش ما بين الحلم والانكسار، الأمل واليأس مراهِنة على الأجمل الذي يأتي ولا يأتي" كما جاء في كلمة الناشر على غلاف روايته الثانية.
وما يوازي الموضوع، وربما يفوقه أهمية، هو الكتابة نفسها. ففي الروايتين سينعم القارئ، كما أحسب، بمتعة فنية إبداعية قلّما توفّرت في أعمال صادرة حديثاً هي السلاسة في السرد، والتدفق الطبيعي الحر كما تتدفق المياه الصافية من الينابيع الجبلية فتُغري بارتشافها، وتُمتع بعذوبتها، وتُبهج برقرقتها وانسيابها، حتى ليأسف المرتشف، حين يرتوي، من أنه ارتوى، إذ لن تفارقه الرغبة الجامحة بالمزيد!.
وإذا كان نذير قد اشتغل في روايتيه على موضوع خبره جيداً، وعايش آثاره الجارحة، وامتلأ بأحلام شخصياته، ورنا إلى ما رنت إليه، وانكسر كما انكسرت... فإنه قد حرص، الحرص كله، على رواية حيوات الشخصيات، والغوص في بحار توقها، والتعبير عن محاولاتها المستميتة لتحقيق أحلامها أو جزء منها بلغةٍ أقل ما يُقال فيها إنها تليق بتلك العوالم، وتحلق عالياً في فضاءاتها، من دون فهلويات إيديولوجية، وتنظيرات وأحكام سياسية أو اجتماعية أو غيرها.
ثمة في فصول روايتيه ما يُشعر القارئ أنه إزاء نسيج قصص قصيرة مشغولة بإبرة واحدة في كثافتها، واقتصاد شريطها اللغوي، وثراء مفرداتها، كما أنه إزاء عمل روائي محتشد بالأحداث والوقائع والتداعيات والشخصيات والمسارات والمآلات المتعددة المتنوعة، في الوقت ذاته.
وكما في تجربة القراءة، حين وجدت نفسي مأخوذاً بالكامل لمتابعة حكاية جنكيز إيتماتوف الطويلة "الكلب الأبلق الراكض على حافة البحر" كذلك عشت تجربة القراءة مع "أساور الورد" منذ صفحتها الأولى التي وضعتني في قلب الحدث، ثم اصطحبتني معها حتى الصفحة الأخيرة، من دون ثقل، ولا تكلّف، ولا إملال، بل عبر نصٍ شبيه ببوح صديقٍ لصديقه الحميم، في جلسة واحدة، تختزل وتكثّف كلّ الماضي على امتداد نحو ربع قرن من الزمن.
ما أودّ التأكيد عليه، كانطباعات لقارئ، هو بنية الكتابة، سلاستها، وقربها الشديد، وحرارتها، ودرجة الصدق فيها، مما يأخذ القارئ ـ أو أخذني على الأقل ـ لأكون إحدى الشخصيات التي حلّقت يوماً وكسَّر الواقع أجنحتها بلا هوادة، لتجيء "أساور الورد" قلائد وفاءٍ على صدور أرواح وحيوات الذين قضوا "تحت سقف واطئ" أو لازالوا يقبعون، بعد أن نذروا أنفسهم لإشادة وطنٍ أكثر جمالاً وأوفر عدلاً وأعمق طمأنينة، مكتفين بشرف المحاولة، أو مغلوبين على أمرهم بذلك، وحسبهم أن ثمة مَنْ شهد لهم، وكتب عن محاولتهم بما استطاع، وبما ملك، من قدرة فنية وصدق خالص يليقان برفعة ما رنوا إليه وتطلّعوا.

 

إبراهيم صموئيل

المصدر: جريدة الرأي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...