الشكل في العمل الفني

21-06-2010

الشكل في العمل الفني

تنصب اهتمامات نظرية الشكل Gestaltung في الاساس على الطرق التي تقود الى تكوّن الشكل وادراكه. إنها نظرية عن الشكل اساساً، لكنها تركز على الطرق التي تؤدي اليه، أي تهتم بعملية التشكيل، كما يتضح من تركيب الكلمة نفسها. كان بول كلي من أكثر المهتمين بالحديث عن "نظرية التشكيل" وأفرد لها مؤلفاً كاملاً يمكن اعتباره مرجعاً مهماً في هذا المجال. لن نناقش هنا هذه النظرية أوالغداء الكبير، ليجيه نتعرض لها، بل سنحاول الحديث عن العلاقة بالشكل في حد ذاته من وجهات نظر مختلفة ومتباينة.
إن مشكلة تحديد هوية الشكل، أو الاشكال، أي بمعنى آخر، مشكلة كيفية الوصول الى إدراك قيمة فنية ما، استناداً الى وضوح معالم العمل الفني الذي قد يكون تصويرياً أو نحتياً، تعبّر عن هدف محدد يواريه ذاك العمل: تأكيد وجود حدس جوهري لا يُرى في الحيز الواقعي، أي من خلال المعاينة السريعة المباشرة. ثمة ما يختبئ وراء الغشاء الخفيف، أحياناً، في العمل الفني، وهذه الخفة التي تغلفه، أو تعتمل فيه، لا يجوز قياسها دائماً اعتماداً على المبادئ ذاتها. يطمح المنتج التشكيلي الى بلورة عملية انعكاس حيوية للواقع الموضوعي في مفهومه الحدسي، كما في حقيقته التعبيرية، ليصير هذا المنتج "المجال الذي يتجسد فيه الجمال على أساس كونه ظاهرة يتألق فيها الحدس على حقيقته"، على قول رينه جان كلو.
الطريق الى الشكل
ان اجتماع ما هو محسوس وما هو مرئي، يؤدي الى تطابق شبه متكامل في سيرورة تنظيم الشكل. هذا الشكل يمكن اعتباره غاية اساسية لدى الفنان، وطموحاً نحو إطالة الحدس، ليصار الى تحديده في الحركة التي تؤدي الى الجمال، على اختلاف معاييره وكيفية العلاقة معه من زوايا النقد المتباينة. في النتيجة سيتحول هذا الشكل، في خيالنا، مادةً للتأمل، في الوقت الذي تعود جذوره الى حقيقة موضوعية، ذات صلة أكيدة بالواقع.
بعض الفنانين، ممن عاشوا لقرون ماضية، ونطلق عليهم اليوم لقب "معلمين"، كانوا اقتبسوا أشكالهم من منابع واقعية غير منتظرة. رسوم جيوتو ومازاتشو وتآليفهما، تبيّن ان الانسان والموضوع تحققا، تشكيلياً، في وحدة تستقي منابعها من نظرة شمولية. هذا الحضور الشمولي يسيطر على المتلقي بفضل قوة الاسلوب، حينذاك يصبح الموضوع الطبيعي - الواقعي، ليس أكثر من شاهد سلبي. لقد سجل الفنانان بدايات العودة الى الفنون الكلاسيكية القديمة، بعدما غلب التسطيح على العمل الفني، وأهمل الانسان ككائن تحركه جملة من الاحاسيس. عادت تلك الفنون المنسية على أيديهما حية ومتوهجة، مع ما تحمله من غموض وأبعاد داخل إنتاجها وتجربتها. شهدنا لديهما، كما لدى معاصرين لهما أو من جاء لاحقاً ليكمل المسيرة، قدرة على السيطرة الكاملة على عناصر المشهد ضمن هندسة صارمة، تخفي عالماً عضوياً مراوغاً وطبقات مستترة خلفها.
ان كمال الشكل لدى هؤلاء، هو ما يدفع المتلقي نحو الشغف بالصورة كمرآة واضحة للكائن. على رغم ذلك، لا بد من ملاحظلقاء عند الباب المذهّب، جيوتوة الهمّ التجريدي في أعمال جيوتو ومازاتشو، إذ يتحول الانفعال في حالتهما نية ذهنية تهدف الى الاحاطة بالشكل للوصول بالعمل الجداري الى نهايات أو نتائج تشكيلية غير مسبوقة.
لا يتحدد الشكل على أساس اعتباره ازدواجية أو "نسخة عن الأصل"، إذ في حالة كهذه لا يكون أكثر من مظهر أو انعكاس سلبي، مما يفقده صلته بالحياة عبر سعيه الى تقليد مظاهرها، في حين ان علاقته بتلك الحياة تتطلب منه أن يصبح فسحة تعبيرية تدور في فلكها مجموعة من القيم. كما لا يكون الشكل ذا أسبقية في تموضعه الزمني حيال الفعل الفني، فهو يعبّر عن ماهيته كحضور ذاتي، أو كجوهر مستقل في ذاته يتطلب، في علاقته بالواقع، أشكالاً معينة من التعبير تضع حركته في أوج زخمها. على هذا الاساس لا يكون الشكل عبارة عن لغة فقط، بل هو الحاضر أو اللحظة الحاضرة بكل كثافتها وغناها التي تتطلب الاحاطة بها نوعاً من اليقين الفني.
الطبيعة كمصدر للإلهام
تشكل الايقاعات والنسب والقيم المعمارية سلّماً من التراتبية التي تقع في أساس تنظيم الشكل والتعبير عنه بحسب خيار معين، وبلغة واعية في أغلب الاحيان. لكن الأجسام والأشياء التي لا حصر لها، الموجودة في الطبيعة، تخضع لقوانين من التوازن، لها ما يقابلها في وعينا الذي يصوغ أفكاراً وتصورات حول مسألة التوازن، وذلك ضمن سلسلة من العلاقات والتعريفات الهادفة الى تحديد التناغم الذي نطلق عليه صفة "جميل".
النظام الذي نراه في نمو الشجرة، والتوزع المتوازن لأوراق الزهرة حول المركز أو المحور، هما شيئان يستحقان التقدير لما يحملانه من نقاوة في الشكل يمكن أن تلهم الفنان، لكنهما لا يتوافقان مع أفكارنا حول القيم الجمالية، إذ ان هذه الاشكال ليست أكثر من نماذج يمكن مصادفتها في كل وقت، وفي أكثر من مكان، ولا تتعدى سلطتها الغشاء الخارجي لطبيعتها كأجسام. وإذا كان من وظيفة للتشكيل، فهي تتمثل في عزلها عن جسم الطبيعة، تمهيداً لإعادة صوغ حضورها الجديد، المختلف، الذي لا يمكن أن يكون تقليداً لكينونتها الاصلية، وللضرورة البيولوجية التي تبقى وظيفة مباشرة وموضوعية للطبيعة نفسها، المحيطة بنا.
في كل الاحوال، لا يوفر الواقع، عموماً، هامشاً من الاكتفاء بالنسبة الى الفنان المتأمل، الذي يفرّق بين ما يمكن أن يتحول "موتيف"، وما يجب إهماله تبعاً لشروط العمل ومتطلباته. فأشكال الطبيعة تقدم الينا، يومياً، مشاهد على قدر عال من التناغم، لكن ذاكرتنا لا تمتلك القدرة على ضمان استمراريتها لكونها في حركة دائمة ولا تخضع لنواميس ثابتة، شأنها شأن الايام والفصول المتبدلة. ارتأى فان غوغ الذهاب نحو تقنية تتوافق، نسبياً، مع حركة الطبيعة. واذا كان من تفسير لضربات ريشة الفنان، الذي عُرف بمزاجه المتقلب وتعاسة أوضاعه النفسية والجسدية، فمن المناسب فهم حركتها الذاهبة في اتجاهات بين الاستدارة أو الدوران أو تتبع مسارات مائلة، كمحاولة لتثبيت الحركة الخارجية عبر موازاتها مع الدينامية الداخلية للوحة. لكن هذه ليست سوى نزعة فردية خاضعة لمقاربة تشكيلية ذاتية، إذ من الممكن أن تبرز الحاجة الى اقامة علاقة أكثر استقراراً وأكثر ثباتاً مع المحيط، فتتم حينذاك الاستعاضة عن الشكل المتحرك بآخر أقرب الى الهندسة، لما تحمله هذه من مدلولات الثبات. من هذا المنطلق، المختلف، يمكن النظر الى أشجار سيزان الاسطوانية وأشكال فردينان ليجيه الكروية أو المخروطية، على سبيل المثال.
في الفن اللاشكلي
يقول بول كلي: "يحدث أثناء عملية التجريد، أو بعبارة أخرى أثناء عملية التحول من الشكل الواقعي الى الشكل المجرد، أن تبرز أبعاد لا علاقة لها بالشكل الواقعي الذي بدأنا منه، وهذه العلاقات الجديدة تنبع من التداعيات العقلية، التي تولّد بدورها مثيرات ذات طبيعة خيالية، وتولد معها ايضاً روابط لهذه المثيرات الخيالية بالشكل الواقعي الاول. هكذا يتولد عالم خيالي، لكنه مقنع في الوقت نفسه".
لم تتم عملية التخلي عن الشكل المتناغم، الذي ألحقنا به صفة الجمال، مرة واحدة ومن دون مقدمات. سارت هذه العملية على نحو تصاعدي في اتجاه نفي العلاقة بالواقع، أو تجاهلها على الاقل، إذ ان جملة من المفاهيم الجمالية ترتبط، من قرب أو من بعد، بتداعيات غير مستقلة عن العالم المحسوس. وقد ترافق تطور هذه العملية مع تطور الفن اللاموضوعي، وما كان يعتمل داخله من تيارات هدفها تخطي الواقع بما يمثله من أشياء وظواهر يمكن إدراكها حسياً.آدم وحواء، مازاتشو
إن عبارات أو مصطلحات مثل الصور الجدرانية أو اللوحات البنيوية أو اللون المونوكرومي والتصوير الدلالي وسوى ذلك من تسميات، انما يجمع في ما  بينها ما يسمّى بالفن اللاشكلي، على اساس ان هذا الفن لا يرتبط، في مفهومه العام، بشكل او اشارة، بقدر ما يرتبط بظواهر اخرى قد يكون اللون احد ابرز تجلياتها. في حالات كهذه قد يتم التخلي عن التصاميم والرسوم التمهيدية والدراسات الاولية، ويتطور المنتج في سياق عملية صناعته، كما يقول بولوك: "خلال انهماكي في عملي لا أعي ما افعله، لكن مع مرور الوقت ارى ما صرت اليه". هذه الطريقة في العمل، على ما تنطوي عليه من عفوية وانفعالية، لا تترجم شكلا، بل قادت غالبا الى اللاشكل. انها عملية "لبلوغ الصورة في اطار ما قبل الشكل، الشكل الذي لم يتكون بعد"، كما يشير هوفستاتر. هذا المنحى، اللاشكلي، لا يخلو من الاختلاط والتشويش، وما يرافقهما من خطوات غير محسوبة قد تكون وليدة اللحظة، اي ما يتنافى مع المفهوم التقليدي، وما يفسر موقف الفنان اللاشكلي الذي يرفض كون اللوحة انعكاساً وتكراراً للواقع المرئي، ليصبح هذا الرفض "هيكل اللوحة وجسدها"، بحسب بولان.
ولكن، هل يدور الحديث هنا حول "وجود" الشكل ام حول نوعيته وطرق التعامل معه، على اساس طبيعته الدينامية؟ يرى امبرتو ايكو في كتابه "العمل الفني المفتوح" ان وفرة الاشكال في التصوير الفعلاني (ذي العلاقة بالحركة) المرهقة للمشاهد، بما تترك له من حرية التفسير، لا علاقة لها بتسجيل حدث ارضي. هي اذاً تسجيل لحركة، وهي اشبه بخط له اتجاه فضائي وزمني تعبّر عنه اشارته التصويرية، ويمكننا تتبع هذه الاشارة في مختلف اتجاهاتها ومن خلال الاشارة تشدّنا الحركة لتقفي آثارها الضائعة، ونتوقف عندها مع اعادة اكتشافها، وفي ذاك اكتشاف للغاية الاتصالية".
مقاربات جاكسون بولوك
اللاشكلي هو رفض للأشكال الكلاسيكية بحسب امبرتو ايكو، لكنه يؤكد، وهذه ملاحظة على جانب كبير من الاهمية، انه "ليس تخلياً عن الشكل من حيث هو شرط اساسي للاتصال". لا نعتقد اننا هنا في صدد اعلان موت الشكل، بل هي دعوة الى ان نصوغ منه مبدأ اكثر ليونة، اي الى ادراك الشكل بصفته حقل إمكانات. في كلامه على عمل بولوك، يقول ايكو "ان فوضى الاشارات، وتفكك الأطر، وتفجر الصور، تدفع المشاهد الى ان يقيم بنفسه شبكة علاقات. لكن الحركة الاساسية كما اثبتتها الاشارة، تحدد توجهاً، وتسمح باكتشاف غاية المؤلف، بحيث ان الأثر الناجم عنها يكمن في ان الحركة ليست خارج الاشارة، بل ان الحركة والاشارة تجدان هنا توازنا فريدا يستحيل اعادة انتاجه، هو حصيلة انصهار مواد جامدة بتأثير من الطاقة المكوّنة".
من الناحية العملية، التطبيقية، كان لا بد لبولوك من ابتكار تقنية خاصة ذات ادوات مختلفة كالمالج والرمل والزجاج المسحوق والالوان السائلة، ليتم استعمال تلك المواد بحسب طريقة الصب والتقطير، التي يُقال ان اندره ماسون هو من ابتكرها، ثم كان بولوك اول من استعملها على نطاق واسع. في تقنية كهذه، تختفي الريشة، اداة التلوين التقليدية، ويُقذف اللون او يُصبّ على القماشة الممددة على الارض، بواسطة علبة معدنية أُحدثت في قعرها ثقوب، ومن ثم يُصار الى تحريك العلبة ذهاباً واياباً في كل الاتجاهات فوق صفحة اللوحة. بهذه الطريقة شبه الآلية يربط بولوك عملية التصوير بالقوانين الفيزيائية للحركة، وبما ينتج منها من خطوط متشابكة ومتنوعة الكثافة والتناغم. هذه الكتابة الموجهة للإدراك البصري اكثر من توجهها للمخيلة التي لا تجد فيها ما يغذيها، تبدو كأنها من عمل المصادفة، مع الاشارة الى ان الفنان يعرف كيفية التحكم بها ليجعل منها نتيجة مباشرة لأحداث محددة يدرك وظيفتها في شكل حدسي، هادفاً، كما يشير بولوك، الى الدخول في اللوحة بحيث يصبح الفنان جزءاً منها.
لكن قانون المصادفة وعدم التخطيط المسبق الذي اتبعه فنانون آخرون، ادى الى نتائج شكلية غير متوقعة. يشير هوفستاتر في كتابه عن التصوير المعاصر، الى ان ما يتناقض مع اللاموضوعية في اعمال كبار الفنانين اللاشكليين، هي الاشكال ذات الطابع الشبحي الشهبية بالصور – الاحاجي التي تتراءى لنا من خلال معاينة اعمالهم. وهي صور لم يقصدها الفنان، انما تتوصل عين المشاهد الى جمعها، في ما يشكل ظاهرة لافتة كان التحليل النفسي قد اهتم بها، لخدمة اهدافه العلاجية. تبيّن، في هذه الحال، انه في غياب العنصر الموضوعي، ترتسم صور من هذا القبيل في مخيلة الذين يخضعون لاختبار نفسي انطلاقا من رسوم حرة. لكن ظهور هذه الصور في الفن يعكس العملية برمتها، اذ يشير هوفستاتر الى ان "كل ما هو موضوعي وكل ما هو ذو صفة سماتية يكون الفنان قد أدخله في السياق الشكلي اللاموضوعي. هذا ما يحصل عادة في حالة نصف الوعي الهلسي، اي الحالة التي يفتش عنها بعض كبار الفنانين اللاشكليين على اساس كونها حالة خلاّقة. وقد يكون مصدر هذه الحالة طبيعة الفنان نفسه، كما من الممكن ان يكون مبعثها المرض او تناول المخدرات".
يتضح مما سبق ان الفن الحديث، من خلال رفضه المفاهيم التقليدية، يسعى، اذاً، الى بناء عالمه الخاص بمعزل عن العالم الموضوعي، او من خلال الاشارة اليه عبر اشكال قد يكون تحديد هويتها موضع بحث وجدال. لقد بنت الحداثة صلة مباشرة بالمادة واختبرتها قبل تحويلها انتاجا فنيا، ولم يستغن فن ما بعد الحداثة عن هذه الصلة، لا بل سعى الى استثمارها بكل الطرق والامكانات. هذه العلاقة مع المادة اصبحت، مع ظهور الفن اللاشكلي وسيره في اتجاهات مختلفة، احد المكوّنات الاساسية للخلق الفني. هذا النوع من الاختبار لا يقتصر على الفن الحديث وحده، بل يمكن تلمسه في الاعمال الفنية المنتمية الى عصور سابقة، لكن هذا الاختبار التقني لم يكن آنذاك الا وسيلة لبلوغ التكامل الفني، من دون ان يكون هدفاً في حد ذاته، او مقياساً لتقويم العمل الفني الذي كيفما نظرنا اليه رأينا انفسنا مجبرين، بدافع الفطرة والفضول، على البحث عن شكل ما، مهما يكن نوعه ¶

محمد شرف

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...