منحوتات فراغية في دمشق
في تظاهرة هي الثانية من نوعها على المستوى السوري اجتمع خمسة وأربعون فنانا من أجيال مختلفة، محترفين وهواة، على مدار ثلاثة اشهر للعمل ضمن ورشة المنحوتات الإسمنتية التي أقامها الفنان مهند ديب في مشغله الخاص الكامن في سوق ساروجة، وأسفرت الورشة عن معرض جماعي مثير للاهتمام، افتُتح مساء التاسع من حزيران الحالي في المركز الثقافي الفرنسي في دمشق تحت عنوان "التشكيل في الإسمنت".
افتتح المعرض السفير الفرنسي إيريك شوفاليه وسط حشد كبير من الحضور، وذكر السفير في كلمته أنه لم يكن يتوقع أن ينتج الإسمنت هذا القدر من الجمال، معربًا عن إعجابه بحركة الفنانين الشباب في سوريا، مشيرا إلى أنه بعد النجاح الذي حققته دورة العام 9002 لمعرض "الاسمنت في التشكيل"، يستقبل المركز الدورة الثانية هذا العام بالتعاون مع محترف "شغل وفن".
وتنبع مواضع الأهمية والتميّز في المعرض من غرابة الخامة المستخدمة في صنع المنحوتات، فالإسمنت خامة معدة للبناء، ولم ترتبط بأي قيم جمالية، ولم تدخل حيز الفنون التشكيلية من قبل في سوريا، وكان من المثير حقا لدهشة المتلقي أن تنتج منها مجموعة منوعة من التكوينات الجميلة التي تنتمي إلى أساليب ورؤى فنية متباينة.
التميّز الآخر نابع من كون المنحوتات اعتمدت مفهوم التشكيل الفراغي، فهي لم تُنفذ بتقنية الصب في قوالب، كما جرت العادة في الحالات القليلة التي استُخدمت بها خامة الاسمنت في النحت على المستوى العالمي، كما هي حال معرض العام الفائت، فالمنحوتة مصنوعة من عجينة الإسمنت في مرحلة تصلبه التي تستغرق حوالى الست ساعات، وبعد ذلك يجري تشذيبها وإخراجها على شكلها النهائي.
وبخلاف المعرض السابق الذي أُقيم بمشاركة مئة وستين فنانا واقتصر على الجداريات النحتية فقط، يضم المعرض الحالي خمساً وثلاثين منحوتة بأحجام متوسطة، لا يتجاوز ارتفاعها المتر، بعضها يميل إلى الواقعية التعبيرية، وبعضها الآخر يتجه نحو التجريد، ويتعشّق الإسمنت في بعض التكوينات بمواد أخرى كالزجاج الملون والمعادن أو حتى النفايات.
ومجموعة من المنحوتات جاءت موقعة بأسماء نحاتين محترفين من خريجي كلية الفنون الجميلة في دمشق، أمثال: ميسان سلمان، علاء أبو شاهين، سماح شتي وعماد صبري، كما عُرضت أعمال من صنع هواة النحت من أصحاب الاختصاصات الأخرى كمنال الصفدي وأوس عبد الدايم، لكن ما يلفت النظر في الحالتين هو حجم المشاركة النسوية في المعرض التي احتلت مساحة النصف تقريبا، حيث هنالك ما لا يقل عن سبع عشرة منحوتة جاءت موقعة بأسماء نحاتات، منهن: أليف الخطيب، نسرين الصالح وسارة الحاج.
اللافت في الأمر أيضا أن المبادرة بجميع خطواتها جاءت من قبل مهند ديب، وهو هاوي عشق النحت منذ نعومة أظفاره، وتبع شغفه حتى انتزع اعتراف الوسط التشكيلي، وبات يشارك في المعارض ويحصد الجوائز، وقبل عامين فكّر بتأسيس تجمّع "شغل وفن" لتبادل الخبرات والمعارف ما بين النحاتين المحترفين والهواة، ونجح بتنفيذ فكرته على أرض الواقع.
سألنا مهند، كيف وقع اختيار محترف "شغل وفن" على خامة الإسمنت، مع أنها مادة ذميمة يحمّلها السوريون كل أسباب القبح الذي طرأ على مدنهم، لا سيما دمشق؟ فقال: "وُلدت فكرة التشكيل بالإسمنت من خلال النقاشات والحوارات المطوّلة التي أجريناها في مشغلي لاختيار خامة زهيدة التكاليف، مطواعة ونادرة وقادرة على إنتاج منحوتات معدّة للعرض في الأمكنة العامة بهدف تجميلها. كنا حوالى مئة وستين فنانا، وبدأنا العمل، ونفذنا مجموعة من الجداريات النحتية بتقنية الصب، وأقمنا المعرض الأول، وقد لقي الكثير من الاهتمام والتشجيع، ما دفعنا لمواصلة العمل الاتجاه نفسه".
أضاف الفنان ديب: "ورش النحت بالإسمنت لن تكون مقتصرة على دمشق فقط، بل سوف ننتقل للعمل مع فنانين من مدن أخرى، وقريبا جدا سوف تكون اللاذقية أولى المحطات".
وقد لا تكون تكوينات محترف "شغل وفن" هي الأهم على مستوى النحت السوري، لكنها مبادرة جديدة ومبتكرة، حملت بين طياتها أوجه تكاملها وتميّزها، كما أنها استقطبت جمهورها، وأفرزت آفاق استمرارها وتطويرها في المستقبل بانطلاقها من موقع الجدل والتلاقح ما بين قواعد الاحتراف وشغف الهواية.
تهامة الجندي
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد