الحداثة بوصفها موضوعاً فلسفياً

16-04-2010

الحداثة بوصفها موضوعاً فلسفياً

الشكوى من وجود التباس في فهم معنى الحداثة ليست جديدة، إذ غالباً ما يتم الخلط بينها وبين التحديث، بينما في واقع الأمر، تختلف الحداثة عن التحديث في المعنى والمفهوم والمبنى والمركبات والحمولات. وفي هذا السياق يستند عزّ الدين الخطابي في كتابه «أسئلة الحداثة ورهاناتها» (الدار العربية للعلوم، 2010) إلى جورج بلاندييه، الأنثروبولوجي الفرنسي، لينقل عنه شكوته من أن أغلب الدراسات الاجتماعية ركزت على موضوعة التحديث أكثر من اهتمامها بموضوعة الحداثة، حيث لم تسمح هذه الدراسات، على كثرتها، بإزالة الخلط الذي يشوب استعمال المفهومين. وغالباً ما يستخدم لفظ الحداثة لوصف الخصائص المشتركة بين الدول المتقدمة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، فيما يستخدم لفظ التحديث لوصف العمليات التي يتم بواسطتها اكتساب هذه الخصائص.
غير أنه يجب التمييز ما بين الحداثة، بوصفها نموذجاً عقلانياً في التفكير والتدبير، يطاول مختلف مجالات الفاعلية الإنسانية، ويشمل، إلى جانب العلم والتقنية، التنظيمات والمؤسسات الاجتماعية والسياسية والحياة اليومية وبين التحديث، بوصفه عملية مقترنة بتدبير واستهلاك التقنية، وقد أكد ألان تورين على أن فكرة الحداثة تتلخص في كون العقل لا يتحكم فقط في النشاط العلمي والتقني، ولكن أيضاً في أنشطة الحكم وإدارة الأشياء.
ويرى الخطابي أن هناك مفارقة تبرز أمام كل باحث يعالج مسألة الحداثة، وتتمثل في الاستعمال المكثف لهذه الكلمة، وسعة انتشارها في الأوساط الثقافية والسياسية والإعلامية من جهة؛ وغموضها والتباسها وتعدد مدلولاتها من جهة أخرى، معتبراً أن الحداثة غابت عن القواميس الفلسفية، فيما شكلت موضوعة العالم الحديث موضوعاً فلسفياً بامتياز. والأدق هو أن الحداثة أيضاً شكلت موضوعاً فلسفياً، خاض فيه فلاسفة كثر، وتعرضت لنقد واسع من طرف نيتشه وهايدغر وفوكو وليوتار ودريدا ودولوز وهابرماز وسواهم.
بودلير أولاً
وبالعودة إلى البدايات نجد أن الشاعر الفرنسي بودلير، أول من استخدم كلمة الحداثة، ونظر لها على الصعيد الفني (الشعر والفن)، واعتبر أن الحداثة «هي الانتقالي، العابر، الجائر، وتشكل نصف الفن الذي يشكل نصفه الآخر الأزلي اللامتغير». إذاً، فالحداثة ولدت - بالمفهوم البودليري - من تقاطع الزمن الراهن مع الأزل.
وكان بودلير يتحدث عن جوهر الفن الأزلي السرمدي للحداثة، وقدم صورة نظرية للحداثة، يكسوها الانبهار بأضواء المدينة، وبإرهاصات الشاعر المتسكع في شوارعها المليئة بالحياة، لذلك صور «البولفار» كمرآة للحداثة، وقد سحره على الدوام ذلك الجمال العابر، المتلاشي للحياة الحديثة. وعنت الحداثة بالنسبة إليه، تدمير كافة الأشكال الجامدة المتحجرة التي تقف في وجه الفن والشعر.
غير أن الحداثة لم تصبح مشروعاً فلسفياً، إلا مع نهاية القرن الثامن عشر، على يد كانط، ثم هيغل على وجه الخصوص، حيث فصل الأول بين عالم الميتافيزيقا وعالم الفيزياء، وإليه يعود السبق في افتتاح الحداثة الفلسفية، حين اعتبر أن عالم الميتافيزيقا يقع خارج إمكانات العقلانية والعلم، وأن الذاتية تدرك فلسفياً في صورة وعي مطلق للذات، كذات عارفة في فلسفة التفكر التي تنكب على ذاتها، والتي جعلت من العقل محكمة عليا. أما الثاني فيعتبر أول فيلسوف نظّر للحداثة وأسس بوضوح مفهوماً لها، يقوم على مبدأ الذاتية، حيث أن حرية الذات هي مبدأ العالم الحديث، والحداثة لديه لا تقاس إلا بذاتها، لذا، على الحداثة أن تجد ضماناتها في ذاتها، وليس في أي شيء خارج عنها، لأنه لا وجود لأي ضمانة لها خارج حدود الذات.
والذاتية، بالمفهوم الهيغلي، لها دلالات أربع هي، الفردية، وحق النقد، واستقلال العمل، والفلسفة المثالية، وصور هيغل العقل باعتباره معرفة للذات وقد تصالحت مع روح مطلقة. وأضحت الحداثة، والدولة، والمجتمع والأخلاق، والفن، والحياة الروحية، تتبدل وفقاً لتجسيدات مبدأ الذاتية. أما الأحداث التاريخية التي فرضت مبدأ الذاتية كما يراه هيغل، فهي حركة الإصلاح الديني، والأنوار، والثورة الفرنسية.
وقد واجهت الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين نقداً واسعاً، وجاء هذا النقد من قبل فلاسفة اعتبروا أن الحداثة قد انتهت وولى عهدها إلى غير رجعة، منهم الفيلسوف الفرنسي جون فرنسوا ليوتار، وكذلك جاك دريدا، وميشيل فوكو، ونظّر هؤلاء الفلاسفة لاتجاه عرف باسم ما بعد الحداثة. بينما انتقد فلاسفة آخرون الحداثة من الداخل، واعتبروها مشروعا لم يكتمل، وخير من يمثل هذا الاتجاه الفيلسوف الألماني يورغين هابرماز.
قطيعة نيتشه
ويمكن القول أن نقد الحداثة تجلى مع نيتشه بقطيعة تفكرية مع الميتافيزيقا التي عبّر عنها بالعقلانيات، سواء منها المثالية أو التجريبية، وتوجب عليه قلب الفلسفة هيكلاً ومنهجاً، لأن الفلسفة كانت تبث عن معرفة الحقيقة ونسيت تماماً مشكلة الحقيقة، فمنذ افلاطون إلى هيغل كانت الفلسفة تنزع إلى غاية عليا وكلانيّة، باحثة عن تجليات الحقيقة المطلقة، بوصفها السلطة العليا التي لا يطالها الشك أو النقد. وهكذا يجابه لأول مرة العقل المتمركز على الذات المطلق الآخر للعقل، بوصفه المرجع المعارض.
وتابع هيدغر ما بدأه نيتشه من إعادة بناء نقدية لتاريخ الميتافيزيقا، عبر تفكيكها، واعتبر مشروعه الفلسفي على أنه تأويل للكينونة، لذا توجب عليه مواجهة مختلف أشكال يقينيات ومسلمات عقل متمركز على الذات بوصفه مبدأ الحداثة، ورجع إلى العصور القديمة، كي يعثر في ما وراء بدايات التاريخ الأوربي على ما يدحض تلك الأشكال، التي طرحت بدءاً من أفلاطون إلى هيغل كبدائل تفكرية عن الوجود (الكينونة).
ومن جهته، اعتبر دريدا أن الحداثة تظل غير مفهومة من منظور تاريخ العقل، بوصفها متكونة من ظواهر انسحاب، ولا يريد ترك ما ينسحب يفلت من يديه وكأنه مجرد انسياب لتاريخ الوجود، وهذا ما ينطوي بحد ذاته على مفارقة. وكان لابد من القيام بنقد شامل للعقل، باعتبار أن الغرب تمركز تاريخياً حول ذاته، ووضع نفسه في مواجهة الآخر، محاولاً إلغاءه.
وعلى الجهة الأخرى، اعتبر هابرماز الحداثة مشروعاً لم يكتمل، بمعنى أنها لم تحقق بعد النتائج المرجوة منها، ذلك أن مشروع الحداثة عانى الكثير من الانكسارات والتراجعات، مما حال دون إمكانية تنقية فكر الحداثة من بؤر التمركز، وأدى إلى إرهاق وعي الإنسان الحديث بجملة متناقضات أفضت إلى اختلال توازنه النفسي، لذلك، انصب جهد هابرماز على إمكانيات إخضاع ما يشكل لاعقلانية النظام لقوانين العقل الإنساني، من خلال فهم جديد للحداثة وممارسة جديدة لعقلانية قائمة على الفعل التواصلي لا تلغي الآخر، ولا تهمشه، بل تتحاور معه خطابياً، عبر عقل تواصلي، يعبّر عن نفسه في فهم انفك تمركزه على العالم. وعليه أضحت الحداثة، التي أفرزت فلسفة الوعي الذاتي، مطالبة بتجاوزها نحو ما يسميه هابرماز «العقل التواصلي»، من خلال نظرية الفعل التواصلي التي تحاول إعادة النظر في حراك الحداثة ومؤسساتها، وإعادة بنائها من خلال الظروف التاريخية والاجتماعية التي تمر بها، لكنها محاولة قد تصطدم لا محالة بأجهزة الحداثة السلطوية، وغائيتها، وثوابتها المتمثلة بإرادة المعرفة وإرادة التغيير وإرادة الهيمنة والتي شكلت معضلات الحداثة.

عمر كوش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...