التنجيم والعرافة رافقا الإنسانية من البدء

10-01-2010

التنجيم والعرافة رافقا الإنسانية من البدء

الجواب واحد وحازم: لا للتنجيم والعرافة. الدينان المسيحي والاسلامي اعلنا من البداية موقفهما من ممارسات المنجمين والعرّافين، على اختلاف اشكالها وانواعها، لتعارضها مع قيمهما ولما تكتنفه من "تدجيل وغش وتضليل مقصود بهدف الربح المادي او غيره، واحيانا الأذية". الادانة الدينية لهما لم تكن كافية لمنع انتشارهما، خصوصا في الاوساط الشعبية، ويتقاذف تطبيق القوانين عدم جدية وتساهل او "علاقات ووساطات" احيانا كثيرة، في وقت بينت دراسات علمية حديثة بعد التنجيم والعرافة من كل موضوعية او حقيقة. ورغم ذلك، تواصل "هذه الظاهرة المتجددة" تفشيها، في ظل "تشجيع" وسائل اعلام لها، تحقيقا لارباح وجذباً للمشاهدين. 

ما بين النجوم والارض... والغيب

منذ بداية العصور، رافق التنجيم والعرافة مسيرة الانسانية ونموها، وتطورا بدورهما، وكانت لهما دائما مكانتهما وتأثيرهما الاجتماعي والديني والسياسي... ويرجع علم الفلك والتنجيم الى ما بين الألفين الخامس والرابع قبل الميلاد، إذ انتشر في عدد من البلدان، كبلاد ما بين النهرين ومصر والهند واليونان والصين واميركا الجنوبية. وقد ارست له الحضارة السومرية قواعد نحو السنة 3500 ق.م، وتولى الكهنة مهمة مراقبة الكواكب والظواهر الكونية والفلكية، بهدف التنبؤ بالمستقبل، بعدما ساد الاعتقاد بأن النجوم تؤثر في الحوادث على الأرض. وازدهر لاحقا في ظل الحضارتين البابلية والمصرية، وتناقلته الحضارات اليونانية والرومانية والعربية. ونحو العام الف ق. م، ارست حضارة الاولميك في منطقة الغولف المكسيكي قواعد لعلم التنجيم، تناقلتها بدورها حضارات التولتيك والمايا والازتيك والانكا.
ومع ان علمي الفلك والتنجيم ارتبطا بقوة في العصور القديمة والقرون الوسطى، الا ان أول تمييز بينهما يرجع الى القرن الحادي عشر على يد الفلكي الفارسي أبو ريحان البيروني، وبات اليوم الفارق كبيرا جدا بينهما. فالاول (Astronomie) يُعرَّف بانه علم درس وضعية الافلاك السموية وتحركاتها، اما الآخر (Astrologie) فيعرَّف بانه مجموعة انظمة وتقاليد واعتقادات حول أوضاع الأجرام السموية والتفاصيل التي يمكن أن توفر معلومات عن الشخصية والشؤون الإنسانية وغيرها.
وخلال تلك العصور القديمة جدا، ظهر الى جانب علماء الفلسفة والفلك في اليونان وروما، عرافون اعتمدوا في تنبؤاتهم على قراءة احشاء الحيوانات او هلوسات تحصل لهم بعد شربهم اوراق غار او غيرها. وتنوعت على مرّ العصور اشكال العرافة، ومنها ايضا الضرب بالحجارة او العظام، الضرب بالرمل، علم الاعداد والارقام، قراءة الفنجان، ورق الشدة، التارو، قراءة الكف، البلورة، الحدس، التنبوء، الرؤى، الاحلام، الحلقة، الوساطة الروحية، القنقنة، زهر النرد، اوراق اللعب، ضرب المندل، صب الرصاصة، قراءة الوجه... الخ.

المطران حداد: نمنع وندين

ومع انتشار المسيحية، بقيت ظاهرة التنجيم والعرافة مستشرية. واستمرت رغم محاربة المسيحيين لها، في وقت برزت اسماء لمنجمين ومتنبئين عديدين على مرّ العهود. فالتنجيم والعرافة "ناتجان من حاجة الانسان وتوقه الى معرفة المستقبل، وهو امر نابع من شعوره بالقلق على المصير"، يشرح متروبوليت صيدا ودير القمر للروم الملكيين الكاثوليك المطران ايلي حداد الى "النهار"، ملاحظاً انه "عندما يضعف الايمان، تكثر مظاهر التنجيم والعرافة، خصوصا ان فيهما سهولة المعرفة، بينما استنباط ارادة الله في الاحداث والحياة يتطلب جهدا وصلاة. والناس يميلون عادة الى السهولة. لكن هذا لا يعني ان لدينا بدعا او ازمة كنسية، انما الانسان ضعيف ويميل الى السهولة".
الشعور بالقلق او الخوف من المستقبل، الفضول، الرغبة في السيطرة على امور الحياة... عوامل عدة تؤدي دوراً رئيسياً في اندفاع اشخاص الى استشارة المنجمين او العرافين، وحتى الادمان عليهم. وعنها يجيب المطران حداد بالتشديد على انه "لا يمكن، كمؤمن وككنسية، وضع شعور الخوف في خانة المواقف الصحيحة والسليمة، من الناحية النفسية والايمانية". واذ يلفت الى ان "الكتاب المقدس مليء بالعبارات المشجعة التي فيها رجاء وطمأنينة الى ان الانسان في ايدي الله الامينة"، يرى انه "لا يمكن احداً ان يعرف الازمنة والاوقات التي حددها الله في سلطانه الخاص. ولا يمكن الانسان ان يطلب المستقبل".
الكنيسة الكاثوليكية، وغيرها من الكنائس المسيحية، اعلنت موقفا حاسما وثابتا من موضوع التنجيم والعرافة. "الكنيسة تمنع كل ما هو تنجيم وتبصير وتدينهما، لانهما لا يستندان الى حقيقة علمية او علم اكيد. وتطلب من مؤمنيها عدم الانجرار وراء هذه الظاهرة التي تخفف نوعا ما الاتكال على نعمة الله"، يقول حداد. وفي العقيدة المسيحية، ممارسة التنجيم والعرافة من جهة، واستشارة المنجمين والعرافين من جهة اخرى، "خطيئة". "الآتي عند المبصر خائف، والمبصر يدّعي. انها اذا خطايا، والخوف وعدم الثقة بالله من جهة، والادعاء بمعرفة المستقبل والكبرياء من جهة اخرى"، يقول حداد. "وهي خطايا مهمة، لكن ثمة خطايا، اكبر بالتأكيد. وبالطبع، كل خطيئة تجرح قلب الله".
الى جانب نصوص واضحة وضعتها الكنيسة الكاثوليكية في كتاب تعليمها المسيحي (العرافة والسحر- 2115، 2116، و2117)، تأتي القوانين الكنسية لتعزز موقفها، "اذ تنص على عقوبات، خصوصا اذا كانت نتيجة ممارسات التنجيم والعرافة التعارض مع العقائد الايمانية وتحريك الشعب ضد ارادة الله والاتكال على نعمته والقيم الاخلاقية، وقد تصل الى درجة الحرم الكنسي"، يشرح حداد. وتجاه الواقع السائد، ينبه الكهنة الى اخطار هذه الظاهرة، ويعظون، في ظل رفض معلن لما يدعيه منجمون وعرافون انهم يتمتعون بقوة الهية او روحية خاصة. "لم يتبين من التاريخ او العلم او الكتاب المقدس او الاديان ان الله اعطى احدا هذه البادرة"، يقول حداد.   
ويميز ما بين المنجمين والعرافين من جهة، والانبياء الذين ارسلهم الله ليعدوا طرقه. "بالطبع، هناك الانبياء الذين كانوا ينقلون رسالة روحية هي الارتداد والتوبة. اما المنجمون، فلا علاقة لهم باي رسالة روحية". ويتدارك: "لا ننسَ ان ثمة وسائل اعلام تستغل هذه المسألة، كما تستغل ايضا حاليا برامج الضحك الاباحي التي صار من الضروري خفض صوتها، علما انه يمكن ان نضحك بكل براءة".

الشيخ فخري: تقوية ايمان الناس

واصل علم التنجيم والعرافة تقدمه في العصور الاسلامية، مع ان القرآن حظّر كل هذه الممارسات. وتقول مراجع ان الحقبة الممتدة من العام 750 الى العام 1550 شهدت انتشار علم الفلك العربي، الذي وصل امتداده الى الشرق الادنى وافريقيا الشمالية والهند واسبانيا وسيسيليا... فالعرب شجعوه، وحققوا تقدما كبيرا فيه وفي مجال العلوم الرياضية. وقد اشتهر آنذاك عدد من الفلكيين العرب الذين كانوا يراقبون حركة الكواكب لمعرفة تأثيرها في مصير البشر والامم. وفي عهد هارون الرشيد، اكتسب المنجمون مكانة مهمة لدى الخليفة الذي عمد الى حمايتهم وبناء مرصد لهم. وعلى مرّ العقود، اعتمدهم خلفاء مستشارين لديهم، واقتدى بهم لاحقا ملوك ورؤساء دول وسياسيون ونافذون... وصولا الى ايامنا هذه.
وموقف الاسلام واضح من ممارسات التنجيم والعرافة. يقول المدير العام لازهر لبنان وفروعه الشيخ صلاح الدين فخري لـ"النهار": "نعلم ان التبصير والتنجيم والضرب بالرمل وغيرها من امور الغيبيات. والغيبيات استأثر بها الله وحده. وفي عقيدتنا، الله قال: "قل لا يعلم من في السموات والارض الغيب الا الله". وهذه الاعتقادات الفاسدة يعتقد بها الناس من دون دليل وبرهان، لان علم الغيب قال عنه النبي: من اتى كاهنا او عرافا فصدقه فقد كفر بمن انزل على محمد". والعقيدة التي نؤمن بها هي ان الاسلام اراد ان يطهر العقول والنفوس والقلوب وربطها بالله ربطا مباشرا، كي لا يكون لادنى بشر سلطة على الانسان في ما قدره الله وقضاه. ولذلك قال النبي: "الكهانة والكهان في النار".
الاتكال الكلي على الله يدعو اليه الاسلام ايضاً. "نعلم ان الانسان تصيبه مصائب وبلايا وضوائق. لكن عليه ان يسلم امره الى الله، ويعلم ان ما قدره الله سيكون، وما امر به سيحصل، من غير ان يتصرف البشر في حياتهم اطلاقا، بل المتصرف الاوحد هو الله"، يشرح الشيخ فخري. وجوابه حاسم بالنسبة الى ادعاءات منجمين وعرافين بالتمتع بقوى خارقة: "من يدّعون ان لديهم قوة خارقة او علاقة بالجن او غيره ادعاءات واكاذيب لا دليل عليها، وهي تمويه وتلبيس على الناس واستحواذ لعقولهم واللعب بعواطفهم، بحيث يجعلونهم يتمسكون بحبال الهواء او العنكبوت. هؤلاء العرافون كاذبون على الله والحقيقة الناس".
وازاء ذلك، حدد الشرع الاسلامي عقوبات بحق المنجم او العراف. "الشرع يعاقبه على ممارسته، ويحاسبه اذا لم يتب عنها"، يشرح الشيخ فخري. كذلك، يحرم استشارة العرافين او المنجمين او السحرة. ورغم الفتاوى الاسلامية الواضحة في هذا الشأن، فالظاهرة منتشرة "بكثرة" في مختلف المجتمعات. "نحن في زمن جفاف روحي وعقائدي. وكثر يحتاجون الى قوة ايمان ليتكلوا على الله"، يقول الشيخ فخري، مشددا على ضرورة "تقوية ايمان الناس، بحيث يعرفون ان هذه الامور غير صحيحة وغير واقعية. وعليهم اللجوء الى المؤسسات الرسمية والمراجع الروحية والعلماء الذين يضعون الامور في موضعها".

لماذا لا يطبّق القانون؟

ولوضع الامور في موضعها، اجريت دراسات علمية في الاعوام الاخيرة  حول دقة توقعات منجمين بيّنت ان اقل من توقع واحد على 100 الف تحقق. كذلك، بينت الدراسات العلمية حول من يدعون الوساطة الروحية دائماً غياب كل أثر لهذه الوساطة. ولوضع الامور في نصابها، وقطعا للطريق على كذب المنجمين والعرافين وتدجيلهم، وضعت دول كثيرة قوانين تعاقب هذه الممارسات، وصنفها بعضها كـ"جنحة". وفي لبنان، تنص المادة 768 من قانون العقوبات على المعاقبة "بالتوقيف والغرامة من يتعاطى، بقصد الربح، مناجاة الارواح والتنويم المغناطيسي والتنجيم وقراءة الكف وورق اللعب وكل ما له علاقة بالغيب... ويعاقب المكرر بالحبس والغرامة...".
وفي وقت تتعالى شكوى من عدم تطبيق القانون في مواجهة ازدهار مواسم المنجمين والعرافين، يدعو المطران حداد الى "تطبيق القانون"، مشيرا الى اننا "لم نسمع يوما ان اي مسؤول اخذ على عاتقه ملاحقة المنجمين والعرافين جزائيا". اما الشيخ فخري فيعزو عدم تطبيق القانون الى "تمتع هؤلاء بوساطات واتصالات والعلاقات هنا وهناك، مما يمنع محاسبة القانون لهم".
ويتوجه المطران حداد الى مستشيري المنجمين قائلا: "لا تخافوا، لان الخوف اساس كل مشاكلنا. وعيشوا كل يوم بيومه. فالانسان الناضج هو الذي يقرأ الاحداث في وقتها، ويفهمها اكثر يوما بعد يوم. لكن من يستبقها يكن يعش خارج الزمن، وهو في هروب". ويتحدى المنجمين والعرافين بان "يحددوا لاي شخص، ساعة موته بدقة، على سبيل المثال، كي يثبتوا صدقهم. واذا لم تكن لديهم اجوبة دقيقة، فليبقوا في منازلهم، ويوقفوا ضحكهم على الناس".
من جهته، يدعو الشيخ فخري مستشيري العرافين الى "التزود بالايمان وقراءة الكتب التي انزلها الله والتمسك بالاخلاق والآداب، ويسألوا اهل العلم والمعرفة، كي ينقذوا انفسهم واولادهم وحياتهم مما هم فيه من انغماس في هذه الاساليب الفاسدة". ويقول للمنجمين والعرافين: "عودوا الى نفوسكم وقلوبكم وربكم، واتركوا هذا التلاعب بعواطف الناس".

هالة حمصي

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...