رضي القتيل ، ولم يرض القاتل !
( خاص الجمل ) منذ أكثر من عام عقدت الجمعية السورية للعلاقات العامة في مبنى اتحاد الكتاب العرب بدمشق ، ندوة تحت عنوان ( القيم الروحية للشرائع السماوية : تنشىء للعالم اقتصادا سليما وإنسانا كريما ) .
أول المتحدثين في الندوة كان ( مارك غوبن ) المفكر الأميركي ـ هكذا قدمته للحضور مديرة الندوة ـ الذي تكلم عن الدور السلبي الذي تلعبه وسائل الإعلام في ترسيخ مشاعر التطرف الديني بين أتباع مختلف الأديان ، لخلق صراعات دينية مدمرة وبث مشاعر الفرقة بين الشعوب . وخوفا على الأجيال الجديدة من نتائج هذه الصراعات ، تمنى غوبن أن تتضمن المناهج الدراسية معلومات تعرّف الأجيال بالثقافات المتعددة الموجودة في منطقة الشرق الأوسط لترسيخ مفهوم السلام ، كما تحدث عن معاناة الإنسان من الفقر والحاجة والظلم ، وأشار إلى تقاعس المؤسسات الدولية الاقتصادية عن أداء دورها للتخفيف من هذه المعاناة ، ودعاها إلى العمل لإزالة الغبن الواقع على الفقراء في العالم ، وتحسين أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية . ورأى أن اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء ، يعود إلى عدم وجود قوانين تحمي حقوق الفقراء وتتيح للناس جميعهم فرصا عادلة توفر لهم حياة كريمة . فالنظام الخيري العالمي المعمول به حاليا لإغاثة الفقراء والمحتاجين ، لا يحقق العدالة الإنسانية المتوخاة .ويجب تطويره بما يتماشى مع تعاليم الأديان السماوية ، التي تحض على كرامة الإنسان في العيش والحياة .
أما النائب البطريركي للكنيسة الأرثوذكسية المطران غطاس هزيم ، فتحدث عن رسالة المسيح عليه السلام وما تنطوي عليه من تعاليم ، تعزز المشترك الإنساني بين البشر جميعهم، وتدعو إلى المحبة والخير والتسامح ، وتندد بالظلم والقهر والجشع والأنانية ، وأشار المطران هزيم إلى أن العالم اليوم يعيش حالتين من إرهاب الفقر وإرهاب سطوة المال . فأصحاب المال يستأثرون بما يملكون ، ولا يقدمون من أموالهم للفقراء والمحتاجين مساعدات توفر لهم حياة كريمة ، متجاهلين ما أمر به المسيح عليه السلام من الإحسان إلى الآخرين ، وإقراضهم ما يحتاجونه بلا مقابل . وعبرّ نيافته عن أسفه لغياب هذه التعاليم السامية عن قلوب معظم الناس وعن أفعالهم ، لأنهم يعيشون من أجل المال ويركزون جلّ همهم عليه . بعد ذلك تحدث مفتي حلب ، آنذاك ، سماحة الشيخ أحمد بدر حسون الذي قال : إنه لا يعترف بوجود ديانات سماوية ثلاث ، وإنما يؤمن بوجود دين سماوي واحد وشرائع شتى . فالدين مصدره الله ، والله واحد . وتعدد الشرائع وتنوعها جاء من أجل الإنسان، لتتحقق له العدالة والتعاون. ودلل بعدد من الآيات والأحاديث، على اهتمام الدين الإسلامي بالإنسان وحياته وقوته ومائه وسكنه، لدرجة توعد فيها الله كل من يكنز المال ولا يسخره في خدمة الآخرين ورخائهم. فالمحور هو الإنسان، والهدف هو توفير حياة إنسانية لكل الناس، عامرة بالمحبة والرحمة والأمان، وخالية من الاضطهاد والقتل والتنكيل والتهجير.
ودعا حسون إلى قراءة التاريخ قراءة جديدة موضوعية ، بعيداً عن الأهواء والمصالح والغايات ، لإعادة الاستقرار والسلام إلى كونٍ انتشرت فيه الضغائن وأحرقته الحروب .
لم تكن هذه الندوة جديدة في محورها ولا خطوة رائدة في مجالها ، كما ظن بعض الحضور من الإعلاميين . فقد سبقتها ندوات عديدة أقيمت في دمشق وغيرها من المدن السورية ، ونظمتها مرجعيات دينية مسيحية وإسلامية وبعض المؤسسات الرسمية . لكن الجديد في الندوة أنها حملت إلينا صوتا لم يسبق لنا سماعه في مثيلاتها ، إنه صوت الحاخام اليهودي مارك غوبن ، الذي قدمته مديرة الندوة على انه مفكر وليس رجل دين !!
هذا الصوت الذي حاول بكلماته المنتقاة أن يغسل الوحل عن شريعة التلمود ، التي وضعها رجال آمنوا أولا وبالقتل ثانيا وبالقتل ثالثا ، لأن كل من هو غيرهم ، هو مارق كافر ويجب التخلص منه ، ومن خلال النقاش مع عدد من الحضور ، حاول السيد غوبن تقديم صورة إيجابية عن الساسة اليهود ـ كما يرى ـ تخلوا عن أفكارهم الصهيونية وعادوا إلى كلمة سواء بينهم وبين كل من هو مختلف عنهم بالعقيدة . ومن اللافت أنه عندما تحدث عن التطرف، أشار إلى وجود فئة من المتطرفين في العالم يجبرون الدين وفقا لمصالحهم. لكنه لم يدل بالإسم على هذه القلة ، متجاهلا أن الجماعة الدينية التي ينتمي إليها ، هي الأشد تطرفا بين جميع الفئات المتطرفة المنتشرة في العالم ، لأنها تتخذ من الدين اليهودي وشريعته ذريعة لإقامة وطن قومي على أرض شعب آخر ، شردته وقتلته ودمرت حضارته .
والأدهى من ذلك كله ، هو أنه عندما سئل عن رأيه في تقديم اعتذار من بريطانيا للفلسطينيين عن وعد بلفور ، أجاب : إن جميع من في المنطقة مدينون باعتذار بعضهم لبعضهم الآخر !!
يا للعجب رضي القتيل وليس يرضى القاتل .
إن مادفعني للعودة إلى تلك الندوة التي أصبحت في ذمة التاريــخ ، زمنا لافكرا ، وإلى عرض مجرياتها ، هو الخبر الذي قرأته منذ أيام على موقع الجمل الالكتروني ويشير إلى زيارة جديدة للحاخام غوين لسورية بدعوة من المحامية السيدة هند قبوات الموظفة في السفارة الكندية ونائب الرئيس في الجمعية السورية للعلاقات العامة . وجاء في الخبر أن السيدة هند تسعى من خلال هذه الدعوات إلى تقريب وجهات النظر بين رجال الدين السوريين والأميركيين ، لإزالة التوتر القائم بين سورية وأميركا ، وإلى رفع مستوى العلاقة بين دمشق وواشنطن التي تدنت كثيرا في الآونة الأخيرة . وترى السيدة هند أنه من الضروري التمييز في العلاقات بين الأنظمة الرسمية والحكومات، وبين الشعوب. فالشعوب يجب أن تتلاقى وتتحاور وتؤسس لعلاقات إنسانية بعيدا عن موقف الحكومات . وتمَثلّ على ذلك تلبيتها دعوة صديق أميركي لحضور حفل زفافه . ولابد لي من القول : كيف يمكن أن تستمر العلاقات بين الشعوب وتزدهر ، كما تأمل السيدة هند ، بعيدا عن سياسة الدول ومواقف حكوماتها ؟ فلدينا من محيطنا العربي عشرات الأمثلة على ارتباك التواصل بين الشعوب بسبب الخلافات في الرؤية والموقف بين الحكومات .
وذكر الخبر أيضا ، أن سماحة مفتي الجمهورية الشيخ أحمد حسون استضاف السيد غوبن في حلب وقدمه في أحد مساجدها على أنه رجل دين من الولايات المتحدة الأميركية ، وقد تأثر السيد غوبن بهذا الموقف تأثرا كبيرا ، ومنحه أيضا فرصة إلقاء خطبة على أكثر من ثلاثة آلاف مصلٍٍٍٍِِِ . ويشير الخبر إلى أن الضيف نوًه في خطبته بالإنسانية العالية التي يتمتع بها الأميركيون ، فهم على الرغم من تأييدهم جورج بوش في غزوه للعراق ، إلا أنهم لم يعطوه تفويضا بقتل المدنيين وتعذيبهم ! وفي هذا المجال تحضرني عدة تساؤلات :
- هل يسمح الحاخامات اليهود لسماحة الشيخ حسون أو لمن هو في مقامه ، أن يلقي خطبة على المصلين في كنيس يهودي ؟.
- هل يملك السيد غوبن بصفته أستاذًا في جامعة فرجينيا ، تأثيرا يمَكّنه من تغيير أفكار طلابه وآرائهم عن العرب والمسلمين ؟
- لاحظت من الخبر أن السيدة هند تعول كثيرا على مواقف ضيفها الحاخام، فهـــل يا ترى حقق الحاخام حلم مضيفته ؟ وهل استطاع حقا أن يساهم في تحسين العلاقات بين سورية وأميركا وإنقاذها من حالة التردي ؟
- هل طلب السيد غوبن من حكومة إسرائيل أن تلغي من مناهجها الدراسية العبارة التي تحدد دولة إسرائيل من الفرات إلى النيل ؟ أو إنه اكتفى بحضنا على تعريف أجيالنا بثقافات الشعب اليهودي ؟
- ما هو رأي السيد غوبن ، بكونه حاخاما يهوديا ، في الأعمال الهمجية التي تنفذها إسرائيل ضد المدنيين الأبرياء في غزة وبيت لاهيا وسواهما ، وحاليا في لبنان ؟
- كيف ينظر إلى الوجود الأمريكي في العراق ، بكونه مواطنا أميركيا ، وما يخلفه من دمار في البنى التحتية والبشرية والحضارية ؟
- هل جاءت الدعوة إلى السيدة هند من الشاب الأميركي بصفتها صديقة ، أو بصفتها مواطنة سورية تتبنى قضية بلدها وتحمل انتماءها العربي ؟ .
أتمنى من القراء ألا يفهموا من كلماتي أن لي موقفا سلبيا من الحوار والتحاور ، فأنا واحدة من فريق يعمل في هذا المجال ، لكن الحوار الناجع يحتاج إلى فرقاء لا إلى فرد واحد ، فرقاء متكافئين في الموقف ، وإن اختلفت نظرتهم إلى الأمور .
والحوار لا يكون مفيدا إلا إذا توفرت المصداقية لدى المتحاورين، أي إذا استطاع أن يقدم للمتحاورين نتائج مثمرة. فأي حوار سيجدي مع السيد غوبن وهو يضع الفلسطينيين والإسرائيليين في سلة واحدة ؟ أي أنه يساوي بين القاتل والمقتول ، بين المغتَصِِِب والمغتَصَب. وهذا يشير إلى أنه مؤمن بحق إسرائيل في الوجود على الأرض العربية الفلسطينية. أتراها سياسة امتصاص النقمة ، حتى صرنا نرى السيد غوبن وأمثاله ظاهرة إيجابية ، على ما فيها من سلبيات ترمم بعض التشوهات التي تحدثها دولتهم العنصرية ؟.
إن ما يجري في المناطق الفلسطينية غرة والقطاع ، يذكرني بإسحق رابين حين تمنى أن تغرق غزة في البحر . لا شك في أن غزة تغرق في هذه الأيام في بحرين لا في بحر واحد، بحر من دماء صنعه السفاحون الصهاينة، وبحر من خذلان حفره صمت الأنظمة العربية
وتخاذلهم عن اتخاذ قرار مشرف. لكن غزة كعادتها ستنهض من قلب الرماد مستعيدة حضورها ومجددة تألقها .
أما الحرب الهمجية التي شنها الصهاينة على لبنان أرضا وشعبا ، والدعم الذي يحظون به من الولايات المتحدة ومن منظمة الأمم المتحدة ومن بعض الأنظمة العربية ، فإنها تعيدني إلى مقولة فلاح مصري قديم اسمه ( خونابوف ) : " إن الذي ينبغي له أن يقضي بالعدل أصبح ظالما ، وإن الذي ينبغي له أن يستأصل الشرور أصبح شريرا . فمن ذا الذي يعيد للحق ويحمي العدالة ؟ " .
جمانة طه
إضافة تعليق جديد