أمر قبض دولي لا سابق له ضد البشير يلقي السودان في المجهول
لورانس بليرون، المتحدثة باسم محكمة الجزاء الدولية في لاهاي، أمام قاعة مملوءة بالصحافيين، أعلنت من دون أي انفعال، أو تحسب لاستثنائية أو عواقب ما، ان «الدائرة التمهيدية الأولى، أمرت بالقبض على الرئيس السوداني عمر البشير».
لكن «العواقب» قد تكون خطيرة على السودان، الدولة العربية الأكبر مساحة، التي تكافح منذ سنوات طويلة للحفاظ على وحدتها وتماسكها، في الشرق كما في الغرب، وفي الجنوب كما في الشمال، ويجيء القرار الاول من نوعه ضد رئيس دولة لا يزال في السلطة، من جانب هذه الهيئة القضائية الدولية الباحثة عن أدوار دولية، ليضرب السودان في الصميم، ويؤكد مخاوف كثيرين، في السودان وخارجه، بأن هذا الاقتحام الفظ للنسيج السوداني، باسم حماية سكان دارفور، قد لا يكون سوى محاولة تسلل برداء إنساني وأخلاقي، يهدد بتمزيق البلاد. وإذا كان هناك إجماع، في السودان وخارجه ايضاً، على رفض لا لبس فيه، للمعاناة الإنسانية الهائلة التي عاشها إقليم دارفور منذ سنوات، فإن كثيرين في الوقت ذاته، يطرحون تساؤلات وشكوكاً جدية حول مغزى مذكرة الملاحقة الدولية بحق الرئيس السوداني، فيما تجري محاولات حثيثة من جانب حكومة الخرطوم للبحث عن السلام المفقود في هذا الإقليم السوداني المضطرب. ومهما كان هذا القرار المعلن في لاهاي، «نزيهاً»، فإنه بالنسبة الى كثيرين يبقى انتقائياً بعدما شاهد العالم اجمع، وعلى الهواء مباشرة، الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل في غزة مؤخراً، وقبلها في حرب تموز على لبنان، وعلى امتداد عشرات السنين في فلسطين عموماً، وما فعله الرئيس الاميركي السابق جورج بوش بالعراق، حيث خلف دولة مدمرة وملايين الضحايا بين قتلى وجرحى ونازحين، من دون أن يحرك أي قضاء دولي، لا في لاهاي ولا في غيرها، ساكناً. وفي هذه الأثناء، ثلاث قاضيات حسمن مصير الرئيس السوداني، ومنحن بليرون، المتحدثة باسم المحكمة، الورقتين المشفوعتين بسلسلة من الحجج القضائية وأرقام الفقرات التي يستند إليها القرار للقبض على البشير، وتفنيد حصانته التي لا تقوم في لاهاي، أو لتحديد اختصاص المحكمة في الدعوى، ومقبوليتها، وما ارتكب البشير من جنايات نسبت إليه.
كما منحت القاضيات التمهيديات الأرجنتيني والمدعي العام في محكمة الجزاء الدولية لويس مورينو أوكامبو، ما كان ينتظره منذ شهر تموز الماضي: مذكرة اعتقال بحق محمد عمر البشير بتهمتي ارتكاب جرائم حرب وخمس تهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، في إقليم دارفور.
وفي حين أودعت القاضية البرازيلية سيلفيا شتاينر، والغانيّة آكوا كوينيها، موافقة على طلب أوكامبو تثليث الجرائم المنسوبة للبشير، لم تجد آنيتا أوشاكا، القاضية اللاتفية، ما يكفي من أدلة في الملف المقدم إليها من أوكامبو لتجريم البشير بتهمة الإبادة، وهي أخطر اتهام يوجه لرئيس دولة منذ محاكمات نورمبرغ لقادة ألمانيا النازية، غداة الحرب العالمية الثانية.
وكان أوكامبو ينتظر أن تنهي رئيسة القلم سليفانا اربيا قراءة المطالعة الاتهامية التي وافقت عليها القاضيات الثلاث، كي يبدأ مرافعة الإدعاء العام المبكرة، والهجومية، ضد الرئيس السوداني، بنبرة كان يجريها على وتيرة واحدة لم تتغير طيلة الدقائق العشرين لمداخلته «الانتصارية».
وبصوت مهدد وواثق، لم يتوقف أوكامبو عن تهديد البشير بتحويل السودان إلى سجن كبير له، وبالاستعانة بمجلس الأمن الدولي لإخراجه من الخرطوم، وإجبار دول العالم والأمم المتحدة، بموجب
الفصل السابع، على التعاون مع محكمة الجزاء الدولية لتسليمه. ذلك أنه «لا حصانة لرؤساء الدول، أمام محكمة الجزاء الدولية، وعندما يسافر البشير في أول فرصة خارج السودان، وينتقل في المجال الجوي الخارجي، سنلقي القبض عليه».
وقالت سيلفانا اربيا لـ»السفير» إن دولة قطر مجبرة على التعاون مع المحكمة لتسليم البشير، فيما لو حضر القمة العربية المقبلة في الدوحة في 30 آذار الحالي، لأنها عضو في الأمم المتحدة. وإذا لم تفعل، فإن المحكمة ستأخذ علماً بهذا الرفض للتعاون منها، و»سنتقدم من مجلس الأمن لنطلب منه أن يقوم بما يلزم لكي تتعاون الدول الموقعة على ميثاق الأمم المتحدة معنا للقبض على البشير».
ويأخذ أوكامبو على البشير، وضعه وتنفيذه منذ نيسان عام 2003، خطة انطلقت للرد على هجوم نفذه المتمردون في حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة ضد مطار الفاشر. وأعدت الخطة لهجمات انتقامية غير مشروعة ضد المدنيين في دارفور قامت بها قوات تخضع لإمرته، من ميليشيات الجنجاويد والجيش والشرطة والاستخبارات ولجنة المساعدة الإنسانية. وارتكبت أعمال قتل، وتهجير قسري، وإبادة، واغتصاب، وتعذيب، ونهـــب، وإبادة جمــاعية بحـــق قبائل الفور والمساليت والزغاوة.
وسيقوم أوكامبو بالطلب من السودان أولاً بتسليم رئيسه، لأن حكومة السودان ملزمة بذلك أمام القانون الدولي. وإذا لم ينصعْ السودان لذلك، «فسننقل الطلب إلى مجلس الأمن، والدول (العربية) التي لا تمتثل للطلب، تمثل أقلية معزولة في الأمم المتحدة».
ولم يتوقف أوكامبو عند الآثار التي قد يخلفها قرار القاضيات الثلاث، على الأوضاع الداخلية في السودان واستقراره، لأن «ما حصل في دارفور يتصل بحياة مليونين ونصف مليون بشري يعيشون في المخيمات، وهم في وضع مزرٍ، ويموتون ببطء».
ولن يتــغير بأي حال موقف مجلس الأمن من القضية في المستقبل «لأن مجلس الأمن هو من طلب مني ملاحـقة البشير... لقد تغيرت الأوضــاع الآن، وآن أوان العدالة». ولــــكن متى يتــوقع أن يضع الأصفاد في معـــصمي البــشير؟» في شهرين يجيب أوكامبو، عامـين على الأكثر، وهنالك مثل الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش، والليــبيري تــشارلز تايلور، «ومهـما طال الزمن، لا بد أن يمثل البـشير في المحـــكمة مثلهما، ليواجــه العدالة».
محمد بلوط
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد