مفهوم المثقف النوعي
كتب بول نيزان، في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، كتابه المشهور «كلاب الحراسة»، فحمل حملة إدانة شديدة على المثقفين ومواقفهم المتخاذلة. ورأى نيزان في هذا الكتاب أن المثقّف الحقيقي هو الذي يحترف الثقافة لكنه يتمتّع أيضا بالشجاعة الأدبية الكافية ليعلن دون مواربة عن نتائج تفكيره. من أجل ذلك دان نيزان المثقفين الصامتين وتوقّع أن تتراجع أدوارهم وثقة الناس بهم مع اتساع الهوّة بين ما يكتبون وما يعيشه الناس ويصطلون به من وقائع. وتوقّع نيزان أيضا أن يظلّ هؤلاء يعيدون نفس الأفكار ويكرّرون نفس الكتابات إلى أن يتحوّل موقف القرّاء منهم ثورة أو استهزاء. ومضى بعد نيزان كتاب آخرون في تصوّر العلاقة بين المثقف والالتزام على هذا النحو، منهم مواطنه الفرنسي جون بول سارتر والإيطالي أنطونيو غرامشي.
ثم جاء ميشيل فوكو مع بداية الثمانينات من القرن نفسه فعدّل هذه النظريّة وطرح القضيّة في صورة مختلفة، لكنّها تحافظ على الروح النضاليّة لسابقيه. فقد انطلق فوكو من معاينة أخرى هي أن المثقّف بالمعنى المتمرّد قد أصبح قادرا على الإدلاء بموقفه وأصبح دوره النقدي مسلّما به بين الجميع. لكنّ هذا الوضع قد دفع إلى مشكلة أخرى. إذ أصبح المثقف يرى أنّه رمز الصواب والعدل والتقدّم وممثّل الحقيقة الكونيّة. فأصبح الرأي العام ينشد ما دعاه فوكو «المثقف النوعي»، ويعني المثقف الذي يستأنس الناس برأيه في قضايا نوعيّة محدّدة. فهؤلاء لئن ضاق مجال تدخّلهم في الحوار العامّ فإنّهم حصلوا على مكسب آخر هو تحوّل مواقفهم من باب المجردات الكونيّة إلى قضايا الناس الواقعيّة، فانتقلوا مثلا من الحديث عن العقل والجماهير والبروليتاريا إلى مسائل موضوعيّة ومحسوسة.
ولا شكّ أن فوكو كان ينظر إلى نفسه مجسّدا هذا النمط من المثقفين، فهو قد سخّر نضاليته من أجل إدانة وضع المهمّشين في المجتمعات الحديثة، ومنهم أصحاب الأمراض العقليّة والمثليّين، فهذا نوع من قضايا الثقافة النوعيّة. وهكذا قابل فوكو بين المثقّف الكوني والمثقّف النوعي وجعل الأوّل بديلا عمّا أسماه أصحاب الفكرة السابقة بالمثقّف العضوي.
أخيرا تفطّن عالم الاجتماع بيار بورديو في بداية القرن الحادي والعشرين إلى أهميّة الجانب المؤسساتي في الثقافة. فهو لم يقارب قضية الثقافة والمثقفين من الزاوية الفرديّة للالتزام والموضوعيّة وحسب، لأنّ الثقافة هي أساسا مؤسسات تنشر الأفكار في المجتمع وتعيد إنتاجه وتواصل علاقات السيطرة بين أطرافه بإعادة إنتاج نفس الثقافة وتكوين نفس النمط من المثقفين. ولئن كانت دراسات بورديو حول المؤسسات التعليميّة مشهورة فإنّ القليلين يعلمون أنّه اهتمّ أيضا بتحليل ظاهرة جديدة بالنسبة إلى المجتمعات الأوروبيّة هي ظاهرة «صناديق الأفكار» (Think Tanks ).
فقد انتبه بورديو إلى أهميّة دورها وتوقّع أن ينمو هذا الدور في ظلّ سيادة الأيديولوجيا الليبرالية الجديدة، وتوقّع أن تصبح ذات أثر يوازي أثر المؤسسات التثقيفية التقليدية من مدارس وجامعات ومراكز بحث عموميّة، وهي في رأيه مؤسسات محافظة ومسخّرة من أجل نشر الفكر المحافظ. واقترح بورديو سبيلا للتصدّي لنزعتها المحافظة وثقافتها الرجعيّة إقامة شبكات نضاليّة بين المثقّفين النوعيّين بالمعنى الذي حدّده فوكو. على أنّ ذلك لا يعني العودة إلى مثقّفي الأحزاب من اليسار الذين تختلط لديهم النضاليّة الثقافيّة بالنضاليّة الحزبيّة.
فالشبكات المنشودة هي ذات وظيفة تضامنيّة لا حزبيّة. وهي تضطلع بنوعين من الأدوار. فالدور الأوّل لا يتردّد بورديو في وصفه بالدور السالب، ومعناه أن يُعمل المثقف مبضع النقد في كلّ المصطلحات والمسلّمات التي تسود في فترة معيّنة فتصبح حقائق غير قالبة للنقاش. والدور الثاني إيجابي وفحواه أن ينخرط المثقف في عمل سياسي مباشر، لكن شرط أن يكون هذا التدخّل محدودا ومرتبطا بأهداف نوعيّة، كي يظلّ المثقّف في صنف النوعيّين كما ينأى بنفسه عن أن يحوّل الفعل الثقافي إلى احتراف سياسي.
هكذا عدّل بورديو مفهوم فوكو للمثقف النوعي بأن أخرجه من الفرديّة (وقد ميّزت حياة فوكو نفسه) إلى العمل الجماعي دون أن يترتّب على ذلك تسخير الثقافة في العمل الحزبي. فالجماعيّة لديه لا تتحوّل خضوعا لإدارات فكريّة ونضاليّة مركزيّة، بل هي المساهمة الحرّة عبر شيكات تضامنيّة في الدفاع عن مواقف مشتركة في قضايا محدّدة، دون أن يدّعي أصحاب الشبكة الوحدة العضويّة التي لا يقدر على ادعائها إلاّ من وطّنوا أنفسهم على أنّهم ملاّك الحقيقة المطلقة الكونيّة، من أحزاب وأفراد.
محمد الحدّاد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد