منذر مصري بين مجازية العنوان وشفوية المتن

16-03-2008

منذر مصري بين مجازية العنوان وشفوية المتن

تبرز العنونة كإشكالية نصّية حادّة، تفترق عن المتن وتبتعد منه، في مجموعة الشاعر السوري منذر مصري الجديدة «من الصّعب أن أبتكر صيفاً» الصادرة عن دار رياض الريس - بيروت 2008، حيث تشكّل لنفسها فضاءً دلالياً مستقلاً، يكاد يكون منقطعاً عن نسيج القصيدة وبؤرة نموّها. فالعناوين الداخلية تبهرنا ببريقها المجازي، بصفتها فخاخاً بلاغية هدفها الإيقاع المبكّر بقارئها، من خلال ما تختزنه من طاقة إغراء وجذب. وإذ تمثّل العناوين عتبات نصية معلنة، تقودنا، جدلاً، إلى الفضاء الداخلي للقصائد، نراها هنا تنحرف مراراً عن متنها، وتأتي مستقلة، معزولة عن سياقها العام، معلّقة في فراغ دلالي لا صلة له بالحركة الدلالية للقصيدة.

العنوان لدى مصري يعلن عن نفسه كشرك يُرمى في وجه القارئ، والمحصلة فجوة واضحة بين الهامش والمتن، العتبة والبيت، أو لنقل المتلقّي والنص. فعناوينه جاءت، في مجملها، عبارات مكتملة، تلفت الانتباه إلى بذخها الرّمزي، حتى أنها تصلح لأن تُسمّي لوحاته التشكيلية (هو الرسّام أيضاً)، وليس قصائده، ليبرزَ التباينُ على أشدّه بين مجازية العنوان وشفوية المتن.

هذا التباين بين الشفوي والمجازي يظهر بوضوح منذ القصيدة الأولى، «سطرٌ على خوائِه يُحسَد»، حيث يشير العنوان إلى تلك الفجوة، أو ذاك «الخواء» القائم بين نبرتين. فالمتن الشعري يعلن عن نفسه نحيلاً، مباشراً، وشفّافاً، يكاد يقترب من شفوية اللحظة ونحولها، على نقيض البنية المجازية للعتبة النصية، التي تشي بالتكثيف والاختزال. بمعنى آخر، يتعمّد المتنُ الشعري الهروبَ من مركزية المعنى الواحد، متمسّكاً بالفراغ المفتوح وتعدّدية أصواته، وهذا ما يدفع الشاعر الى توصيفه بالقول إنّ «الجميع يعلم أنه يحملُ/ آلافَ المعاني/ لذا على خوائِهِ يُحسَد». وتبرزُ عبارةٌ وحيدة، خارج هذا السياق، تشبّهُ الوقتَ بنصلٍ بلا مقبض: «يجرحُ/ لا لطعنةٍ منه أو لحدّ/ بل لسرعتِه»ِ، تعيد متن النص إلى رشده، وتنقذه من عريه الرمزي، عبر إحالته إلى بؤرة دلالية غنية الإيحاءات. في قصيدة أخرى في عنوان «تصادفَ أنّي كنتُ جناحاً من الحنان»، وهي الثانية في الدّيوان، يُفَاجأُ القارئ بالعتبة النصية المخاتلة، التي لا تتّسق مع رؤيا مصري العاطفية، فعبثاً يبحث القارئ عن جناحي «حنان» يرفرفان في النص، لكن العنوان يحنثُ بوعده، إذ تواجهنا القصيدة بموقف تهكّمي ساخر، لمتكلّم يقترب، في وعيه المأزوم، من العدمية المطلقة، وتكشف نظرته الى العالم عن عقل يرتاب بكلّ شيء، ولا يرى من إشارات العشق التقليدية سوى الخيانة: «تذكّرتُ/ أشمّ دائماً/ عطرَ الخيانةِ/ في الأزهار».

ويجب أن ننوّه بأنّ مصري يركّز على ثيمة الحب في ديوانه، لكنّه يتعمد الابتعاد من الغزل بمعناه التقليدي، وينأى بنفسه عن تكرار أو اجترار مفردات العشق السالفة، التي حافظت على عفّتها منذ كتاب «فن الهوى» لأوفيد وحتى ديوان «قالت لي السمراء» لنزار قباني. بل يفاجئنا خطابه العشقي بخلوّه من الوجدانية، بمعانيها العاطفية والذاتية، إذ يبتعد الشاعر كثيراً من عالمه الداخلي، وينبذ وقفات الحب المألوفة، فعاشقه يتكلّم أكثر مما يتأمّل، ويركّز على العابر، والمرئي، والبرّاني، أكثر من تركيزه على ذاته ولواعجها. وقد نقول إنه عاشق يهجر جوهر الأشياء ليتمسّك بقشورها، مقيماً في صدى الكلمة وليس معناها، ومركّزاً على «الخواء» الكامن خلف السّطور، بصفته درعاً يحمي التجربة من خطر الامتلاء.

في القصيدة الثالثة، التي تعتمد المقابلة والتضاد في العنوان، وتستثمر روح المفارقة الكامنة في قوله (هل تحبّينني أكثر إذا أحببتكِ أقلّ؟) يعترف المتكلّم بثقل ظلّه العاطفي، وبفداحة اقترابه من رقة الحبيبة، قائلاً: «سألتُكِ… ملقياً كلّ ثقلي/ على رقّتكِ». ويخشى القارئ أن تتهشّم تلك الرقّة العاطفية، عبر إغراقها بمزيد من الظلال الثقيلة، التي تتدفّق سريعةً، كمزقٍ من محادثة قديمة بين عاشقين ضجرين في مقهى. في قصيدة «على فخذيك كدمات غامضة»، تقترب العتبة النصية نسبياً من متن القول، لكنها سرعان ما تبتعد على أثر اعتراف العاشق بفشله في تأويل ظلام الأنثى، أو تجاوز كدمات جسدها، الذي تفوح منه رائحة الطريدة، ليطلب منها أن تمنحه ما يفتقده هو في الأصل، ونعني تلك الرّهافة التي لا يعيش حبّ من دونها: «افهمي هذا بشعورٍ مرهفٍ/ كظلامٍ يسير على يديه/ في قاعٍ عكرٍ/ لا قدرة لي بملكاتي الطبيعية/ على رصده». هنا، مرة أخرى، ينقذ الشاعر قصيدته من فقرها العاطفي، عبر الاستناد إلى بوح سريع، لا يحمل توتراً داخلياً، ولا يقوى على رصد الغامض الأنثوي، أو تخطّي ظلام الجسد، أو تذوّق ملوحة الدم المراق. في قصيدة «خذ قطاراً من الصفحة 100»، تتسع الفجوة بين العنوان والمتن، ويبرز العنوان رشيقاً، سريعاً كـ «قطار»، لكنّ المتن يخبّئ انفعالاته وهواجسه جيداً، ويسير بطيئاً كسلحفاة. هنا يتأرجح العاشق بين الحب والكراهية، ويقفرُ عالمه الداخلي فجأة، حيث لا يرى سوى «محطة موحشة، بأضواء خابية/ في آخر الخط». ويلفت سماعنا في نهاية القصيدة صفيرٌ يطلقه هذا العاشق الخائب، الباحث عن حبيبة مستحيلة حين يقول: «أداري خيبتي/ بأن أكوّرَ فمي/ وأصدرَ منه صفيراً خافتاً»، مذكّراً قارئه بقطار سريع آخر، ربما يتوقّف في الصفحة المقبلة. وفي قصيدة أخرى في عنوان «قمرٌ نهاري يذوبُ في ضوء قوي» يسهب مصري في تفسير فلسفته العشقية، ويعترف، في المطلع الأول، بأنه لا يريد البوح بأشياء حميمة للحبيبة، بل يريد للأشياء الحميمة، الخارجية، البرانية، أن تبوح لها بعالمه الداخلي، الذي يريده، مرة أخرى، خاوياً، يرنّ بالفراغ: «لم يكن في ودّي أن/ أحدّثكِ عن أشياء/ كنتُ أريدُ أن تحدّثكِ الأشياءُ عنيّ/ أن استعيرَ شفاهَها/ لأقولَ لكِ». إن استعارة الشفاه للتكلّم تقوّي، من دون شك، نزعة الشفوية في خطاب العشق ككل، وتخفّف من فواصل البياض والصمت والتأمّل فيه. وتصل الشفوية ذروتها، حين يعلن عاشق مصري أنّ الحبيبة لم تعد أسيرة قلبهِ وحده، إذ «بشفاهِ الآخرين/ أستطيعُ/ تقبيلَكِ». والحقّ أن الحبيبة تُطرد من مدار الخاص أو جنّة الداخل، وتشيعُ حتّى القبلة، لتصبح عمومية، مثل «دعوة خاصّة للجميع».

في قصيدة «كلما ضاعَ يجدُ نفسَه في المرآة» يكتفي العنوان بنفسه، لأنه يستثمر ثيمة نمطية مألوفة، محرقها جدلية الأنا والآخر في المرآة. ولكن ماذا بعد العنوان؟ وماذا خلف المرآة؟ هنا، مرة أخرى، لا تقود القصيدة إلى ضالّة دلالية، وتكتفي بخاتمة مألوفة تستثمر أحجية المرآة ورقصتها الأكثر إبهاراً: «كلما ضاع/ يجد نفسه في المرآة/ مردّداً: انتصرتُ عليّ/ ولا أعرف/ لي/ عدواً آخر». هنا، حقاً، لا ميتافيزيقيا، ولا تصوّف، ولا حتى رغبة بأمثَلَة الأنا ووضعها في برج عاجي. بل تبلغ الفجوة بين العنوان والمتن ذروتها في قصيدة «تنينٌ سماويٌ ذو ذيلٍ مبهرج»، فالعنوان كما نرى، يبدو مكتفياً بذاته، يعتمد سطوة الاستعارة البصرية، وغناها البلاغي، بيدَ أنّ متن القصيدة يجيء شفوياً، عارياً، يقترب في بنيته من إيقاع الكلام العادي: «وكان عليّ في المقابل/ أن أنتقي شكلاً لائقاً/ لاختفائي/ فلم أجد أشدّ تفنناً/ من تنين سماوي/ ذي ذيل مبهرج». ليس صعباً أن نستنتج أن اختفاء الأنا كفاعلية سيكولوجية، يفسح المجال لحضور الصوت كحالة شفوية محضة، وهي تمثّل في النهاية قناعاً ترتديه الذات، للتستر على فقرها، وربما إفلاسها الروحي. هل وظيفة المذنّب السماوي أن يضيء بصيرةَ القارئ أم يُعميها، وهل يصلح دليلاً لتائهٍ في صحراء العشق؟ هذا المرشد/ المضلّل يظهر في قصيدة أخرى تحمل عنواناً فاتناً هو «يرشدني الخطّاف بلمعانِ جناحه». والمفارقة أن العنوان هنا يمثل حقاً جملة بلاغية قوية، مصقولة ولامعة كجناح طائر، مضيئة ومغرية كذيل شهاب، لكن، مرة أخرى، ندخل متن القصيدة، فيختفي كل أثر للبلاغة، وكل أثر للفتنة، لدرجة أنه كان من الأجدى أن يُبقي مصري ترتيبَ سطوره أفقياً دائماً، وليس عمودياً، للتشديد على نثرية نثره، وطابعه الإخباري العاري، بل وخلوّه من كلّ ترنيم موسيقي أو إيقاعي. فعاشقه الافتراضي يربط كل نبوءة أو ميتافيزيقيا بنبرة صوته قائلاً: «أهي نبوءةُ سعدٍ/ أن تعرفيني من صوتي/ لأنّي أوّل من أجابكِ على الهاتف؟».

في قصيدة «أنا هنا لأني لستُ في مكانٍ آخر»، يخيل للقارئ أن عنواناً يطرح ازدواجية القريب والبعيد، الهنا والهناك، لا بدّ من أن يلامس معضلة نفسية أو روحية أو جمالية، أو يعلن عن مفارقة فلسفية من نوع ما. ولكن، لا شيء من هذا القبيل، فالشاعر ينجح في تسخير الشفوية للدلالة على المرئي والملموس، كأن يصف ديكاً يخرج بكامل برقشه من الكوة الضيّقة لساعة الحائط «ويصيحُ/ كلّما خطرَ له خاطرٌ/ دون أي اعتبارٍ للمواعيد». وعاشق مصري، مثل ديكه، يخرج دائماً بكامل برقشه، ويتكلّم ثم يتكلّم كلما خطرَ له، من دون أن يتوقّف لحظة، كأنمّا في تشديد عنيد على مجّانية العلاقة وشيوعها، ما يجبر الحبيبة على القول: «أرجوكَ/ أرجوكَ كفّ عمّا تقوم به/ تأتي وتهرّج/ وتهذرُ بأشياء لا تُصدّق». ربما هنا بالضبط، تكمن براعة منذر مصري، وأعني تلك القدرة على هذا الهذر المتواصل، الخالي تقريباً من كلّ تكلّف أو صنعة. فالشاعر لا يخفي رغبته في التكلّم كثيراً وطويلاً في القصيدة، وأحياناً يهذي ويهرّج، محولاً نصّه «علبة فارغة تذكّر بما كانت تحتويه»، أو ضوءاً مشاعاً يغيب فيه الحد الفاصل بين الداخل والخارج، فمشكلةُ الضوء «أنه/ يعترفُ بكلّ شيء»، بحسب قوله.

تطغى إذاً، نبرة المكاشفة، في قصيدة مصري، ويسطع متنُها الشفوي جلياً، فهي لا تعرف محنة الانزواء أو الصّمت. تفرح بضجيجها، وتُعرى وتذوبُ أمام أعيننا، متحولةً «صوتاً» شعرياً مديداً. في هذا الصوت، تحضر تفاصيل كثيرة، فائضة وعنيدة، وتغيب لحظات التأمّل والبياض والإشراق، ما يجعل اللغة مشجباً يعلّق عليه الشاعر عواطفه النيئة، في انتظار أن تجفّ وتنضج، وتبتكر صيفاً من الصّعب نسيان كلماته الحانية.

عابد اسماعيل

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...