كتاب للكوثراني حول الاصلاح الشيعي وولاية الفقيه

يدرس الباحث وجيه كوثراني، في كتابه "بين فقه الاصلاح الشيعي وولاية الفقيه - الدولة والمواطن" الصادر لدى "دار النهار للنشر"، الاشكالية الكبرى في التاريخ العربي الاسلامي ويسائلها، وأعني أزمة التحول من الدولة السلطانية الى الدولة الوطنية الحديثة. يلاحظ كوثراني ان حال المثقف الناقد لطائفته المعبأة حول ايديولوجيا وثقافة وخط واحد، يعطل دوره كمواطن وكمنتج للمعرفة، متوقفاً عند المعادلة القابعة في الذاكرة الجماعية وهي استقواء أهل السياسة بالدين واستقواء اهل الدين بالسياسة، وما ينتج من ذلك من اشكاليات معقدة. وصولاً الى سؤال أصعب هو الآتي: هل قيام السياسة على يقينيات دينية يحل عقدة الطائفية في لبنان ويتجاوزها؟ يجسد هذا السؤال الاشكالية التي يحملها "حزب الله": أي التوفيق بين مفهوم المواطنة وولاية الفقيه والطائفية السياسية. ولكن "حزب الله"، في رأي كوثراني، يؤسس لخط جديد من الشيعية السياسية، يختلف عن المدرسة الاصلاحية الشيعية. لكن هل يستطيع هذا التمايز أن يغني الحالة اللبنانية أو يجعلها عرضة لأزمات على مستوى الاجتماع السياسي والدولة والنسيج العام؟
في بحثه المعنون "أفقاً للبنان: المواطن والجماعة والدولة"، يتوصل كوثراني الى أن ازمة النظام السياسي المفترض اصلاحه قد استنزفته السياقات التاريخية، وهي: الميثاق المتعلق بقوة الطوائف وتغيرها مما يستدعي اعادة النظر في العقد الاجتماعي، مع الاخذ في الاعتبار الاختراقات التي مورست في السياسات الداخلية. سياق الخلط والالتباس القائم والدائم بين الصلاحيات والسلطات الدستورية والقضايا الكبرى المندرجة في صيغة الميثاق. حالة التطيف وتجدد الوعي الاصولي للجماعات الدينية، وتأثير ذلك على العيش المشترك. اذاً، ثمة مأزق وللخروج منه، لا بد من: الانتقال من حيز الدائرة الطائفية الى حيز المواطنية. التأسيس لدولة تنفصل فيها السلطة الدينية عن السلطة المدنية. يقف دون ذلك سبب بنيوي في الثقافة السياسية اللبنانية القائمة على وسائط السلطة بين المجتمع والدولة، أي الطائفيات السياسية. وهذا يعني عدم توافر ارادة سياسية لتطبيق الحلول والمقترحات. يسأل كوثراني: ما المحصلة اذا استمر العمل السياسي الاسلامي المعاصر في تأسيس نفسه على الثقافة الدينية؟ الا يشكل ذلك قابلية للصدام مع الآخر؟ في الواقع، يعطي كوثراني مثلين معاصرين حدثا في بيروت أخيراً "ومرا على سلامة": الاحتجاج على الرسوم الدانماركية والاحتجاج على البرنامج التلفزيوني الساخر الذي تناول السيد حسن نصرالله. حيال ذلك، هل يمكن الحديث عن قابلية الثقافة الاهلية العربية للفتن والحروب الاهلية؟ السؤال معلّق في ارهاصات ما يحدث في المنطقة وصعود الظاهرة الاسلامية واليقظة الاصولية. ولكن في ما خص لبنان، يظل السؤال حول كيفية توسيع الدائرة المدنية ومشروع بناء الدولة، وأي دولة يمكن أن تحمي الوطن، في ظل ما يسميه كوثراني "ثقافة فقهية"؟ من هنا نلج الى الخلفية الفقهية لمشروع الدولة. في العودة الى المبادئ التأسيسية لـ"حزب الله" هناك: الاسلام كمنهج كامل شامل، مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، والقيادة الشرعية لولاية الفقيه. وثمة الصلاحيات وطبيعة العلاقة وآليتها بين الجزئي والعام، وكيف يمكن المواءمة بين اسلامية المنهج ولبنانية المواطنة. وتالياً من يرسم السياسات؟ ويعطي الباحث مثلاً تاريخياً هو تجربة الاحزاب الشيوعية في العالم وصعوبة الموافقة بين مركز الأممية (موسكو) والخصوصيات الوطنية للاحزاب في دولها. ويحدد كوثراني في ذلك اشكاليتين: صعوبة الانتظام في الدولة، بمعنى دولة مواطنية لا دولة طوائف، والايمان بولاية الفقيه التي تشكّل قطيعة مع منهج الاصلاحية الشيعية الذي شهده التاريخ الاسلامي الشيعي.
يفضي هذا المأزق الى مسارات مرتقبة: ان يرتضي الحزب التعايش مع الطائفيات السياسية ويسير على هدي الاصلاحية الشيعية (موسى الصدر، محمد مهدي شمس الدين) كمرجعية لبنانية وليست ايرانية. وان يذهب بالدعوة الى الغاء الطائفية السياسية. يصبح هنا امام اعتراضين ومن موقعين: موقع الطوائف الاخرى وموقع العلمانيين القائلين بفصل الدين عن الدولة. ويلاحظ كوثراني ان "حزب الله" ينتقد الطائفية السياسية من موقع المعتقد الديني ويستخدمها بوعي في الممارسة السياسية. ما الحل؟ يرى كوثراني الحل في ما سمّاه "الشيعية الوطنية" التي عبّرت عن نفسها بفكر اصلاحي يفتح الباب للحديث عن اصلاحية شيعية في تاريخ الافكار لدى الشيعة. ويفرد كوثراني لهذا الموضوع القسم الثاني من كتابه ويوضح ان قاعدة الغلبة العصبية الاستقواء بالدعوة الدينية، ويتوقف عند تلاقي التجربتين العثمانية السنية والصفوية الشيعية في نصاب الوظيفة في الدول وفي المنهج والتفكير الاصولي. وتختصر بمشاركة السلطان في الحكم طالما ان السلطان يطبق الشريعة. ويميز الباحث بين ثلاثة اتجاهات لخصت نماذج من أطروحات الفقهاء الشيعة: اتجاه اخباري مثّله الشيخ الحر العاملي، اتجاه اصولي اصلاحي مثّله الكركي والمجلسي وزين الدين بن علي، واتجاه نقدي عرفاني مثّله الشيرازي والعاملي. يسمّي كوثراني هذه التيارات "الاصلاحية الشيعية الحديثة"، موضحاً ان ثمة فقهاء حصروا الدور في التقليد المحافظ في حقل العبادات والمعاملات مثل محسن الحكيم والسيد الخوئي مع اهتمامات مؤسسية اصلاحية اجتماعية. وثمة من تخطى الدور في اتجاه السياسة من دون أن يدمجها بالدين. وفي هذا الاطار يذكر كوثراني محسن الامين ومحمد جواد مغنية وموسى الصدر وكلهم لا يقولون بولاية الفقيه المطلقة بحسب الخميني بل كان لهم رأي مخالف.
ويعتبر الباحث أن نظرية ولاية الفقيه اثارت مناقشة واسعة في الفكر الاسلامي بعد الثورة الايرانية. وبعد ان يعرض رأي الشيخ شمس الدين العميق في هذا الموضوع، يطرح السؤال: كيف يمكن ان نجنب الدين استغلال السياسة (أو استغلال رجال الدين للسياسة) والذي أوجدت له العلمانية حلاً من خلال فصل الديني عن المدني؟ يذكّر الكاتب بملاحظات الامام شمس الدين حول النظام السياسي، ويختم بوصيته المشهورة: "وصية للشيعة في لبنان وفي كل مكان ان يندمجوا في اوطانهم كمواطنين، وان يتجنبوا شعار حقوق الطائفة والمطالبة بحصص في النظام، على ان تعترف الانظمة التي تضم مجموعات متنوعة، بالهوية الدينية والمذهبية لكل مجموعة من المجموعات". ويكرر دعوة الشيعة الى الاندماج الوطني، "فكل شيء دون هذا هو مشروع فتنة أو فخ للاستخدام والاستدراج والتورط". ويستنتج كوثراني من ذلك ان صيغة ولاية الفقيه الدامجة لمجال الدين والسياسة، لم تجد طريقاً الى أدبيات الشيعة ومواقفهم، فكيف استطاع "حزب الله" ان يخلق طبائع جديدة في الطائفة الشيعية لم تعهدها قبلاً؟ هنا يدخل كوثراني في صلب الاشكال القومي (الايراني - العربي) ومسألة المرجعية وولاية الفقيه، حيث يطرح في القسم الثالث من كتابه موضوع صورة ايران في الادراك العربي من خلال المرايا: مرآة الاسلام، مرآة القومية، مرآة المذاهب، مرآة الجغرافيا الاقتصادية والبشرية. ويعالج نقاط الاشكال الآتية: الاشكال القومي وأزمة الاجتماع السياسي الاسلامي، والاشكال الايديولوجي المتعلق بقضايا الوحدة والثورة والمرجعية وولاية الفقيه، ليصل من خلال ذلك الى السؤال المأزق: كيف نتجنب استخدام الوعي القومي للتجزئة كمطية للاحتلال الاجنبي؟ وكيف يمكن ادراج الحالة القومية في وعي اسلامي اشمل؟
يتقصى كوثراني الخلفيات الكامنة وراء صور الادراكات المتبادلة بين العرب والايرانيين في مسائل الدين والقومية والدولة والسلطة السياسية ومسألة الولاية الدينية والمجتمع المدني ودور الفقيه، كما يعقد المقارنة بين المشروع الاصلاحي الايراني والمشروع النهضوي العربي.
وفي بحثه الاخير يتناول كتابات المفكر الايراني عبد الكريم سروش في "القبض والبسط في الشريعة"، ويقارب اسئلة من نوع: ماذا يحصل اذا اصطدمت المعرفة الدينية بالمعرفة العلمية؟ ثمة سؤال لعبد الكريم سروش يساعد في فهم ابعاد اشكالية اللغة والثقافة: هل بقيت عرضيات الاسلام هي نفسها لو نزل القرآن بلغة اخرى؟ هذا ما يدفعه تالياً الى التفكير بلاهوت اسلامي عالمي جديد. وازاء هذا الطرح والمقارنة بين المشهدين الثقافيين العربي والايراني، يلجأ كوثراني الى ما قاله أحد الكتاب العرب "ان المجتمع الايراني يناضل للخروج من قوقعة الشمولية فيما اغلب المجتمعات العربية تناضل لأجل دخول هذه القوقعة".
كتاب "بين فقه الاصلاح الشيعي وولاية الفقيه - الدولة والمواطن" هو مساهمة فكرية غنية وقيمة تأتي في أوانها. ويضع كوثراني يده على الجرح الحقيقي في معالجة قضية الاصلاح الديني عموماً والاصلاح الشيعي خصوصاً، علاقة هذا كله في بناء الدولة والمواطن وفي نمذجة التجربة اللبنانية. كتاب مشغول بحذاقة وعمق وسعة أفق، وبوعي مثقف نقدي كبير يحاول أن يقول شيئاً في زمن الصمت أو يضيف وعياً جديداً لاشكالياتنا الصعبة.

المصدر: النهار