غيورغ بوشنر رائد المسرح المأسوي الألماني يتجدد حضوره
مشير باسيل عون:
حين تناول الناقد الأدبي عالم القانون الكاتب الألماني هانس ماير (1907-2001) شخصية الأديب المسرحي الألماني غيورغ بوشنر (1813-1837) في أعماله ومسرحياته ونصوصه النثرية القليلة، حرص الحرص كله على إظهار تنوع الحقول الإبداعية التي ارتادها الأديب الشاب متنقلاً بين الأدب الشعري، والمسرح، والفلسفة، والعلوم، والسياسة. "غيورغ بوشنر وزمنه" (Georg Büchner und seine Zeit) دراسة جامعة أنشأها ماير لتترصد أهم محطات بشنر الحياتية، وتستجلي أبرز المساهمات الأدبية التي أتى بها قبل أن ينطفئ نوره باكراً، وهو في سن الـ23. كان يكفي بوشنر أن يؤلف ثلاث مسرحيات وينشئ رواية لم تكتمل فصولها حتى يتسنى له أن يفصح ببلاغة قل نظيرها عن تحسره المرير أمام واقع الخليقة البائس. على رغم فتوته، استطاع أن يبتكر مسرحاً يضج بالعنف الإيحائي، ويتزين بالاقتضاب البليغ، وينحت في شخصيات أبطاله من سمات التبسيط الاختصاري والعتاقة البالية ما جعلهم رموز الإنسانية المتألمة التي تبعث في أعماق النفس الحزن والأسى. فلم تتأخر الأوساط الأدبية الألمانية عن معاينة التألق النبوغي المتجلي في إبداعات بوشنر المسرحية، ولم يلبث المذهب التعبيري (Expressionismus) أن عاين فيه أعظم أدباء المسرح الألماني المأسوي.
الطبيب الأديب الثائر
يعد بوشنر من أبرز رواد المذهب التعبيري في كتابة المسرح في منتصف القرن الـ19. نشأ في مقاطعة هسه، وترعرع في أسرة امتهنت الطب ونبغت في إتقانه. فالوالد كان طبيباً، والشقيق لودڤيغ (1824-1899) أيضاً كان باحثاً في العلوم الطبية والفيزيولوجية ينشر من الأبحاث الفلسفية ما جعله يؤثر تأثيراً بالغاً في توطيد دعائم المذهب المادي العلمي الأوروبي في منتصف القرن الـ19. لا بد أيضاً من ذكر الأثر الذي خلفه هذا الشقيق في المسرح الطبيعاني الذي ازدهر في أواخر القرن الـ19 عشر وأوائل الـ20، وفي انتشار المذهب التعبيري الذي كان يحتضن تأوهات الفنانين والمثقفين الذين عاينوا أهوال الحرب العالمية الأولى.
درس بوشنر الطب في جامعة ستراسبور وجامعة غيسن (Gießen). تأثر بالانتفاضة الثورية التي عرفتها باريس في عام 1830، فنشر عام 1834 في مدينة غيسن بحثاً سياسياً لاذعاً (Der hessische Landbote) يحرض فيه على الثورة الاقتصادية والسياسية، فضلاً عن ذلك، أسس تجمعاً سياسياً راديكالياً من أجل مناصرة حقوق الإنسان. غير أنه اضطر إلى الهرب واللجوء إلى ستراسبور لإكمال أطروحته في الطب، فذاع له صيت نضالي في بعض المدن الأوروبية، فاستدعته جامعة تسريخ للتعليم في كليتها الطبية. عاش بوشنر حياة كثيفة الحراك شديدة الاضطراب. يمم شطر ستراسبور للدراسة والإقامة الحرة المنعتقة من قيود الرقابة السياسية، وعلم في تسريخ بعد أن حصل عام 1836 على منصب تعليمي في كلية الطب. أثناء إقامته في سويسرا، فاجأته المنية بسبب من مرض التيفوس الذي أنهكه، وما لبث أن قضى عليه.
عاشر كوكبة من الطلاب الجامعيين الليبراليين النجباء الذين التأموا متضامنين متعاضدين هرباً من بطش السلطان السياسي. كان يطغى على أجواء هؤلاء الطلاب في كلية الطب وكلية اللاهوت في جامعة ستراسبور ميل إلى الغموضية والانكفائية والنخبوية. فإذا به يشاطرهم مشاعر الانتفاض الثوري والتمرد على تكلسات الماضي وترسباته السلبية، ويشاركهم في اختبار الاضطراب الوجداني الذي يستثيره الخوف من مقتضيات الزمن الآتي. ومن ثم، يمكن القول إن بوشنر عاصر أزمة أوروبا التي انفجرت في عام 1789 وأرخت بظلالها على جميع حقول الثقافة الإنسانية.
مؤازرة النضال السياسي الديمقراطي
من النصوص النثرية النادرة التي تركها لنا بوشنر مقاله السياسي الذي كتبه في مدينة دارمشتات عام 1834 يحرض فيه سكان الأرياف الألمانية على الثورة ويحثهم على مقاومة الإقطاعيين الاستغلاليين الذين لم يتورعوا عن قهرهم وإذلالهم. فإذا به يذكرنا بالنضالات الفلاحية التي عرفتها العصور الوسيطة وأفضت إلى ثورة الفقراء وانتصارهم. غير أن بوشنر لم يكن يكتفي بالمجاهدة السياسية الفكرية التي تعتمد على إصلاح الدستور وتعزيز الحريات المدنية بواسطة الكلمة الصحافية الجريئة، بل آثر كذلك استنهاض همة الجماهير الغاضبة ودفعها إلى استخدام العنف الثوري من أجل تحطيم سلاسل العبودية، والدفاع عن كرامة الإنسان ومصالحه الحيوية المادية اليومية، لذلك أنشأ يقول في عام 1835: "صراع الأغنياء والفقراء هو الصراع الثوري الوحيد في العالم".
الانقلاب الفكري في الأدب المسرحي
سعياً إلى التعبير عن التحول الأدبي الذي أسهم بوشنر في توطيد أسسه، كتب مسرحيتين دراميتين: "موت دانتون" (Dantons Tod) في عام 1835، و"ڤويتسك" (Woyzeck) في عام 1837، بيد أن العملين هذين لم ينتشرا انتشاراً واسعاً إلا في نهاية القرن الـ19، ومن ثم في ظل حكومة ڤايمار الألمانية. كان بوشنر رائداً في كتابتهما، إذ أخذ يقرع المثالية الطوبوية التي كان الشاعر المسرحي فريدريش فون شيلر (1759-1805) يقتدي بها في أعماله، فضلاً عن ذلك، كان بوشنر حريصاً على مخالفة أصول المسرح الكلاسيكي، فإذا به يجعل المأسوي المسكون بالمادية الجوفاء يساكن الغرائبي المهجوس بالاستهزائية العبثية، ويعطل البلاغة التعبيرية ويفرغها من رقيها الأسلوبي، مطلقاً العنان لضربين متناقضين من الأداء: السفسطة الكلامية المرعوبة بفظائع الأحداث، والكتمانية الهائجة التي تضطرم بها غرائز الناس المكبوتين المقموعين. وعليه، تتجلى على مسرح بوشنر الذي يضج بالفظاظة الاستفزازية آيات الزمن المضطرب في مسار المقاطعات الألمانية المتحاربة. فكان لا بد للأديب الشاب من أن يرسم لنا المشهد الإنساني هذا على علاته، مستجلياً آثار المحنة التي تتنازع الناس بين مشاعر الحقد العنيف، واختبارات التضجر اليائس.
لنتس رواية التضجر من رتابة الوجود
من النصوص النثرية السردية النادرة رواية "لنتس" (Lenz) التي ألفها بوشنر عام 1836 في ستراسبور من غير أن يكملها. بطلها الكاتب البلطيقي-الألماني ياكوب مايكل راينهولد لنتس (1751-1792) الذي أسهم في تعزيز تيار "العاصفة والاندفاع" (Sturm und Drang)، وما لبث أن التقى غوته (1749-1832) في مدينة ڤايمار، قبل أن يصاب بالاضطراب العقلي، ويعهد به إلى مصح نفسي في مقاطعة الألزاس. اعتنى بشنر بسرد الطور الاضطرابي الأخير من حياة هذا الأديب، ولكنه لم ينجز الرواية التي استثارت إعجاب الأوساط الأدبية لما انطوت عليه من جرأة على اقتحام مجاهل النفس الجوانية المتألمة، بحيث تحول السرد الجريء هذا إلى نموذج طليعي خليق باستهلال زمن الحداثة الأدبية.
ذلك بأن بوشنر يروي لنا كيف يسير الإنسان العبقري إلى الجنون. عوضاً عن تجميل صورة الإنسان، يعمد صاحب الرواية إلى دحض مزاعم المثالية مدعياً القدرة على إبادتها. على لسان بطله لنتس، يعلن أن "الشعراء الذين ندعي أنهم يعبرون عن الواقع إنما هم بعيدون من إدراكه، ومع ذلك، يمكننا أن نتحمل منهم ما لا نطيق أن نتحمله من أولئك الذين يصرون على تغييره". قد يعفو المرء عن شكسبير وغوته وبعض الأناشيد الشعبية الرقيقة. غير أن النار ينبغي أن تلتهم صعاليك المثالية الجوفاء حتى تأتي على الأتون عينه، فيذوب الجميع في لهيب الدينونة. أما لنتس فينسب إليه بشنر يأسه من الواقع الإنساني برمته، ويرميه في لجة التضجر، بعد أن يغلب عليه الإلحاد الشديد.
ومن ثم، أضحى التضجر سمة التعبير الأدبي الذي طفقت تتصف به أعمال بشنر كلها. آية ذلك ما نقرأه في الرواية: "معظم الناس يصلون من الضجر، ويحبون من الضجر، من الضجر بعضهم فاضلون، وبعضهم الآخر فاسقون. أما أنا فلست بشيء، حتى إني لا أرغب في أن أنهي حياتي، إذ إن في ذلك ما يبعث على الضجر الشديد". على هذا النحو، واظب بوشنر على وصف أدق انفعالات بطله النفسية واستجلاء انتفاضات وعيه الذي أنهكته مشاعر الفراغ الوجودي المرعب، حتى إن العالم والآخرين وذاته عينها حقائق تتلاشى شيئاً فشيئاً لتتحول إلى ظلمة كثيفة وتغور في قعر سوداوي يحاذي ضفاف الجحيم.
من الواضح أن هذه الرواية تحشد جميع الاختبارات السلبية المنهكة التي عاناها لنتس في مواجهة قسوة الجماهير المغفلة، والاكتواء بنار الوحدة الحالمة، والخضوع لاضطرام الرغبة الملتهبة ونقيضها من اللامبالاة القاتلة، والتعرض لارتعاشات الثوران الداخلي وما يجره من سأم وجودي مهلك. يدلنا ذلك كله على أن بوشنر كان يختبر مخاض الولادة الحضارية في القارة الأوروبية التي شارفت على إنتاج حداثتها، بما تنطوي عليه من عظمة المادية المهيمنة وبؤسها المرير. من جراء تنشئته المسيحية وثقافته الفلسفية والأدبية، أكب يطوع الكلمات والأفكار، فيخلع على مفهوم المادة سمات الاضطراب الوجداني الذي كان يهز وعيه هزاً إلهامياً.
التنازع المنهك بين القيم في موت دانتون
تناول بوشنر في مسرحيته الأولى "موت دانتون" حدث الثورة الفرنسية في جميع أبعاده ومغازيه، لا سيما في قرائنه الدموية التي تبعث على الاشمئزاز والقنوط. ومن ثم، غلب على هذه المسرحية طابع التشاؤم الجذري الذي اختبره الثائر دانتون، وقد رسم بوشنر شخصيته في هيئة الإنسان المصاب بأهوال الذعر لشدة العنف الدموي المستشري بين المتحاربين. تنسلك هذه المسرحية في سياق التنازع الذي جعل كاتبها تائهاً بين رغبة النضال السياسي والميل إلى الوحدة الإفنائية، بين إيثار ميدان السياسة والانكفاء إلى حقل الأسطورة، بين الانخراط في التاريخ البشري واستحسان ضربات المقصلة التي كانت تبطل كل أحداث الحياة وتزهق معنى الوجود برمته.
من خصوصية هذه المسرحية أنها تصف لنا مأساة إنسان الثورة الفرنسية تتقاذفه تصورات متعارضة، منها ما يجعله يرضى بفكرة التسامح المبنية على خلفية الفردية الإبيقورية، ومنها ما يفضي به إلى التصلب الحاد الذي تقتضيه فضيلة الحسم القاطع تطالب بها الجماهير الغاضبة التائقة إلى إعدام كل تجليات الظلم والعدوان في النظام الملكي القديم، لذلك اكتنزت نصوص المسرحية وأقوالها وحواراتها باستطلاعات حصيفة تستكشف حدث الثورة في ما انطوى عليه من أسباب وآثار، ومقاصد وأفعال، ومطالب وتسويات، وخصوصاً في ما استثاره من طاقات إبداعية جميلة وقدرات جنونية هدمية قبيحة، ذلك بأن الثورة مصنع التناقضات التي تضج في وعي الإنسان، بحيث يفضي التقدم المنشود إلى العنف الذي يلتهم الثوار أنفسهم. هنا تتجلى شخصية البطل دانتون الذي أدرك ببصيرته الثاقبة أثقال الجدلية المرعبة هذه، فألفى نفسه، وقد رسم مصيره على جدار التأزم التاريخي، مصاباً بضرب من التراخي البليد يناقض جرأته الاقتحامية الأولى.
أما القائد الثوري روبسبيار (1758-1794) الذي هزمه شر هزيمة، فيظهر أيضاً في مظهر المتردد المتسائل، على رغم القسوة الخارجية التي وسمت أقواله وأفعاله، ذلك بأن صفة التردد تطبع المسرحية كلها، من أولها إلى آخرها، وتنغل في شخصية أبطالها وفي كثافة أحداثها. تغلب عليها بوشنر تارة في تمجيد الإرادة الصلبة أو الاحتكام الحتمي إلى القدر، وتارة في الاستسلام للمزاجية المتقلبة أو الاعتباطية المتعسفة، لذلك يصعب على المرء أن يستخرج خلاصة المسرحية، إذ إنها لا تؤول دفاعاً عن الثورة ولا إدانة لها، بل تظل مشرعة المعاني، تترجح بين السياسيات والأسطوريات. حين يخيل إلى القارئ أو المشاهد أن شعرية العدم تتفوق على واقعية التقدم الملموس، فإنه لا يملك أن ينعتق من سطوة السؤال الفلسفي الذي يستفسر عن سر المشيئة الإنسانية ودوافعها الخفية تحرك الجماعة في أزمنة العزوف عن القرار النضالي أو في أوقات الاختيار الصعب. يبدو أن بوشنر كان يرهب الحتمية القدرية التي تضبط مسار الأمور والأحداث. فإذا به يعلن في إحدى رسائله: "ليس الفرد سوى رغوة تقذفها الأمواج، والعظمة سوى مجرد مصادفة، ومهارة العبقري سوى ألاعيب الدمى [...]. فما الذي يخادع فينا ويقتل ويسرق؟".
عري الإنسان الفقير وعبثية نضاله في مسرحية "ڤويتسك"
إذا قارن المرء مسرحية "موت دانتون" بمسرحية "ڤويتسك"، وجد أن الأولى تضفي على الثورة أبعاد المأساة وتملؤها بصخب الدعارة وأهوال التفكك، بحيث يجد العقل نفسه خاضعاً لتهديدات الانحراف الجنسي والميل الانتحاري الإفنائي، في حين أن الثانية تصور مأساة الإنسان في ملامح الهياج الثوري وتستثمر أهواء الإنسان المضطربة لكي تزعزع بنيان المجتمع المستهزئ المتراخي. في مسرحية "ڤويتسك" تضطرم حرارة الوجدان حين يعاين ذاته في صورة الجندي ڤويتسك الذي أعماه جهله المظلم، وأنهكته مسؤولية الأبوة، وأضناه فقر المنبت الوضيع، فإذا به يعكس على محياه صورة الكائن المنكسر المضمحل يغشاه العري الوجودي وينتابه امتحان الطبيعة الفظة.
ذلك بأن الإنسان فطر على طبيعة ضعيفة يغلفها الغبار والرمل والوسخ، بحيث ينوب القرد مناب الجندي في مهرجان القرية العيدي. من جراء الاختبار الأليم هذا، يرفض الجندي ڤويتسك الزي العسكري الذي فرضه الجيش عليه ويتمرد على السلطة، ولا يلبث أن يسقط في وهاد الهلوسات الذهنية التي تجعله يرى العالم جوفاً تستوطنه التناقضات المهلكة، والسماء مضرجة بكتل الدماء الملتهبة، والكائنات البشرية منزوعة الرؤوس تتهاوى في مستنقعات الإخفاق الآسنة.
تتميز هذه المسرحية باعتمادها على شخصية الإنسان الفقير المعدم المرذول ترفعه على خشبة الشهرة الأدبية وتكلل حياته بجمالية الوصف المأسوي العنيف الصاخب. بذلك يعاند بوشنر مجتمع الطبقة الألمانية المثقفة المغرورة بمثاليتها الزائفة، المنحازة إلى الغيبيات الفارغة والثرثرة المتافيزيائية الهذيانية، الخاضعة لناموس المشيئة الجاهلة المغفلة ولمراوغات الخبث الانتفاعي. كان لا بد لبطل المسرحية، والحال هذه، من أن ينتفض على أسياد هذا المجتمع ومروضيه، فيطلق العنان لانفعالاته ويحطم البنى الضاغطة والقوالب الصلبة. فإذا به، على غرار دانتون، يعاين في ارتعاش الرعدة قعر الخواء الرهيب الذي يبتلع الحياة كلها.
ضد الأرستوقراطية
في إحدى الرسائل التي دبجها بوشنر عام 1834، أصر على انتقاد الأنظومة الاجتماعية برمتها، رافضاً الثقافة السائدة والتبجح المعرفي الفارغ الذي تركن إليه النخبة العارفة المدعية، وقد تحول علمها إلى تقوقع أناني مستقبح يزدري الجماهير الشعبية البسيطة: "الأريستوقراطيا أبشع ضروب الخزي في نسيان الروح القدس الساكن في الإنسان، لذلك أحاربه بأسلحته، فأعارض الكبرياء بالكبرياء، والاحتقار بالاحتقار". لا ريب في أن هذه الكلمات كانت تحمل مرارة الإخفاق الذي أصاب مشروع بوشنر الثوري، وجعله ينتفض على واقع التخاذل المستفحل.
تتألف المسرحية من أربعة فصول لا يرتبط بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً، إذ إن اللحمة التأليفية ما برحت في طور الإنشاء التدرجي. ومن ثم، انعقدت المسرحية على مشاهد جزئية مستقلة لا يجمعها منطق سردي واحد. من الفصل الأول يدرك المشاهد تعلق الجندي ڤويتسك بصاحبته الجميلة ماري، وبالطفل ثمرة حبهما الصادق. كان الحبيب المقدام يغتنم سويعات راحته خارج الخدمة العسكرية لكي يرتزق حلالاً بالخدمات الاستثنائية يؤديها عن طيب خاطر، فيحلق تارة ذقن الضابط المسؤول، ويهب تارة أخرى جسده للاختبارات الطبية يجريها عليه عالم باحث اضطربت بصيرته الذهنية. غير أن حوادث الدهر ومحنه كانت أقوى من عزيمته، إذ صادف أن مر بالمدينة ضابط مغناج أغواه جمال ماري، فأهداها قرطين من الذهب تزين بهما أذنيها. تناهى الأمر إلى ڤويتسك بواسطة ضابطه الحريص على سمعة مرؤوسه، فأضمر الجندي المغتاظ الشر واستفز الضابط المغناج إلى المنازلة الجسدية، لكنه ما لبث أن سقط تحت أقدام الخصم الضخم البنية. فثارت ثائرته وقرر أن ينتقم من الحلقة الأضعف. فاصطحب ماري إلى مستنقع خارج المدينة، وضرب عنقها بسكين، فأرداها قتيلة الحسد والغيرة. ومن ثم، اضطر إلى الفرار خوفاً من العقاب. من جراء الحسد الذي تملكه، ذبح الجندي البائس خليلته ماري، تلك المرأة التي كانت تشبهه بفقرها وسذاجتها، ولكنها أثارت حفيظته لما استبد بها من غرور المجد الباطل في اقتناء المجوهرات ترصع بها جسدها الفاتن.
على رغم وحدة الحدث المأسوي، أصر بوشنر في مسرحيته هذه على الإكثار من المشاهد الموازية يرسمها على لوحات وجودية مستقاة من وقائع الغربة التي كان يختبرها في سياق أحداث حياته. فإذا به يصف لنا تارة تشنجات القلق الشديد الذي كان يعتصر قلب ڤويتسك، وتارة أناشيد الجدة يستذكرها البطل طلباً للتعزية، وأطواراً بعض الأغنيات الشعبية التي تزخر بحكمة الأجيال. علاوة على ذلك، لم يفت بوشنر أن يستهزئ بالعالم الباحث الذي كان يجري اختباراته العلمية الغريبة على مرأى من طلابه، فيرمي لهم من عل هراً تتكسر أضلاعه حين يصطدم بالتراب.
لا ريب في أن هذه المشاهد وسواها جعلت مسرحية ڤويتسك تتمرد على الهندسة الأدبية السائدة وتنقض أصول الدراما الكلاسيكية، بحيث أضحى بوشنر بفضل المخالفة الأدبية هذه رائد المسرح المعاصر الذي يؤثر تكاثر المشاهد، وتناثر الأحداث، وتنافر اللحمة بين الفصول. وعلاوة على ذلك، تجلت جرأته الإبداعية في الإعراض عن صورة البطل المنبثق من الطبقات النبيلة، كما في المأساة القديمة، أو الآتي من البيئات البورجوازية، كما في دراما القرن الـ18. بخلاف ذلك كله، يخرج بطل بوشنر من الأوساط الاجتماعية الفقيرة المرذولة، ويعبر عن ألم الناس ووجعهم، وينخرط في قرائن وجودهم الحي يستكشف نبراته المكتومة ويستنبش تأوهاته الدفينة.
بفضل الجرأة الابتكارية المنقطعة النظير هذه، تحولت مسرحية "ڤويتسك" إلى أفضل إنتاج مسرحي في القرن الـ20 تتقاطر إلى تمثيله جميع المواهب الأدبية التي جسد اقتناعها الراسخ الروائي المسرحي الفرنسي أنطونين أرتو (1896-1948) حين أعلن أن هذه المسرحية تنتمي إلى أرقى الابتكارات الأدبية النادرة في عصرنا: "ما من عمل مسرحي كتب في الزمن الراهن يبدو لي أشد إلحاحاً واستحقاقاً من هذه المسرحية".
الموهبة الشابة الاستثنائية الخالدة
لا غرابة، من ثم، في أن يتحفنا بوشنر بمثال من الدراما الرومانسية المعاصرة يرقى إلى مستوى الإبداع الفريد. تتوطد خصوصية هذا المثال الأسلوبية، كما تبين لنا ذلك في تناثر المشاهد المتوازية، بفضل المضامين الفكرية التي تنطوي عليها نصوصه الروائية والمسرحية، ذلك بأنه يسائل الشخص الإنساني مساءلة جذرية، ويدقق النظر في مقام الأنا المتعالية، ويستجلي وعي الإنسان المعدم المرذول المضطهد الذي سحقه الظلم الاجتماعي وشوه كيانه. فإذا بالأسلوب المسرحي المتناثر يحاكي الوجود الأليم المتفكك. وعليه، تتجلى في أعمال بوشنر المسرحية آثار أسلوب شكسبير (1564-1616) والتيار الرومانسي الألماني "العاصفة والاندفاع"، بيد أن هذه المسرحيات كانت طليعية في شكلها ومضمونها، سبقت عصرها، إذ انطوت فصولها الوجيزة الحادة الفظة على اجتهاد أدبي مبتكر يجمع الميول الطبيعانية (Naturalismus) المتطرفة والرؤى النفوذية الكشافة.
ما برح بوشنر يعاصرنا ويخاطبنا ويستنهضنا، إذ إن زمنه يشبه زمننا، لا سيما في أوروبا التي كانت تتعافى من حروب نابليون وتعيد النظر في حدود أوطانها ونفوذ سلاطينها إثر مؤتمر فيينا الشهير (1814-1815)، وكذلك في العالم العربي الذي يختبر مخاضات الولادة العسيرة في مصائر أوطانه. كانت القوى الأوروبية المهيمنة تبحث عصر ذاك عن نظام عالمي جديد يراعي التوازنات الطارئة. أما بوشنر فواجه الواقع الجيوسياسي الناشئ بتصور أدبي يعزز جمالية التناثر والتبعثر والتموج. يعلن جان-لوي بسون في كتابه "مسرح غيورغ بشنر: لعبة الأقنعة" (Le théâtre de Georg Büchner. Un jeu de masques) أن ما يميز أعمال الأديب الألماني هذا إنما هو تكاثر النغمات وتنافر الأصوات، إذ إنه يناصر التصور المأسوي الذي يرفض تعظيم القول المهيمن وتمجيد السردية السائدة.
على رغم إيثار صوت البطل دانتون، تظهر في المسرحية أصوات أخرى واقعية، منها صوت القائد روبسبيار، وأصوات وهمية، كصوت المرأة المومس أو صوت الرجل المتسول. لا ريب في أن استضافة تعددية الأصوات والأقوال في العمل المسرحي الواحد يدل على رغبة واضحة في تصوير زئبقية المجال الحيوي الذي تنسلك فيه، أو بالأحرى تنزلق فيه، حقائق الوجود الإنساني. حين تقع شفرة المقصلة على رقبة دانتون، يدرك المشاهد أن مصيره قد ختمته تناقضات الحياة المعاصرة الهائجة تمنعه من العزم المبين والقرار المناسب. آية ذلك أن قطع رأس البطل في المسرحية يجسد الحداثة التي قطعت رؤوس الحقائق المتوارثة، وأهلكت الهامات المرتفعة، وأعدمت القامات المنتصبة، لذلك يسأل المرء نفسه عن السبل الجديدة التي ينبغي أن يسلكها حين يعاين في نصوص بشنر القدر الهائل هذا من التنازع الجواني في استفاقات الوعي، وانتفاضات الإرادة، وعزائم الفعل.
إضافة تعليق جديد