الفردوس الفلسطيني المفقود
في روايته «رجال في الشمس» رأى غسان كنفاني في المنفى عاراً، يشهد على فلسطينيين لاذوا بالفرار، التمسوا راحة مخزية خارج وطنهم الحقيقي. ولعلّ الشعور بالعار، الذي وطّدته المخيمات وبطاقات الإعاشة وكابوس الحدود، هو الذي أملى عليهم أن يخترعوا وطنهم المفقود، حتّى بدا فردوساً مفقوداً، ترابه من شعاع وذهب. أصبحت العودة حلماً جليلاً، وأعطى الفلسطيني الحالم ذاته من الصفات الفاضلة ما يشاء. وإذا كان الوعي بالحرمان قد حوّل «بيارة البرتقال» إلى أسطورة لا تنتهي، فقد أضاف الفلسطيني المقاتل إلى أسطورة الأرض أسطورة لاحقة، تبدأ بالشهيد والملصق والقصيدة ولا تنتهي بالمخيمات الكثيرة المحروقة.
جاءت الهوية الفلسطينية من الغربة واليأس، وفتح لها الأمل الضروري نوافذ واسعة، وتزايدت مساحة الأمل مع ولادة: الفدائي، الذي يعشق الكرامة «ولا يهاب الموت». بيد أنّ مجريات الأمور المتعاقبة، التي لا تُفسّر دائماً بـ «الشرط الموضوعي»، أخذت بالمركب الفلسطيني العائد إلى أرض فقيرة، فلا نوافذ الأمل مشرّعة، ولا الأرض خليط من الذهب والبرتقال. ومع أنّ الوعي المطمئن يوسّع «الكوّة» إلى نافذة، كما قال السيد المسيح، فإنّ شكلاً من الحسبان الفلسطيني الفقير ملأ «الكوّة» المتبقيّة بكثيرمن الشوك والوحل والوعود المميتة. وما التقاتل الجاري اليوم، في غزة ، بين «بنادق الأمل» إلاّ صورة عن هذا المآل الحزين، الذي يدفع فلسطينياً إلى قتل فلسطيني آخر، كما لو كانت الصواريخ الإسرائيلية وحدها لا تفي بالغرض. هكذا يعيش الفلسطينيون، وفي مشهد عامر بالخزي والفضيحة، مأساة النيران المتقاطعة، حيث ما تخطئه المدفعية الإسرائيلية ترديه «البنادق الوطنية». قتال عبثي وأقرب إلى الجريمة، ذلك أنّ الطرفيْن المتقاتلين يتوزعان على سجن ضيّق، أو على جملة سجون متقاربة، وأنّ الطيران الإسرائيلي لا يفرّق بين فلسطيني وآخر، معتدلاً وبارد الاعتدال كان، أو ناري المزاج وأقرب إلى الرعونة. كان من المفترض، في زمن يبدّد الأحلام ويحوّل الصبية والأطفال يومياً إلى شهداء، أن يكون الفلسطينيون صفاً واحداً، وأن يكونوا تلك الروح المشتعلة المطمئنة، التي تنبذ الشقاق والفرقة، وتعتصم بحبل الوحدة والتــكاتف.
والسؤال الأول: أين ذهب ذلك الفلسطيني الثائر، الذي يوكل إلى شعبه إيقاظ الأمّة العربية، كما جاء على لسان آلاف الفلسطينيين في زمن مضى؟ كان جبرا إبراهيم جبرا، في ساعة شرود أو في ساعة حالمة طليقة اللسان، قد تحدّث عن فلسطيني مثقّف لا يخطئ الحسبان، يعرف معنى الوطن والمنفى، ويعرف أنّ معنى فلسطين من أفكار وممارسات الذين ينتمون إليها، ويعرف أكثر أنّ التخلّف الذي أضاع فلسطين مرّة قادر على أن يضيّعها إلى الأبد. يبدو أنّ حلم جبرا قد دفن معه، أو لحقه إلى القبر بعد سنوات قليلة، تاركاً المكان صفحة بيضاء، فما شكا منه الفلسطينيون قبل الخروج يستطيعون الشكوى منه مجدّداً، وتاركاً المكان صفحة حمراء، فلا يجف الدم الفلسطيني إلاّ ويرويه «جيش الدفاع» بدم جديد، وتاركاً المكان صفحة سوداء، لأن تَقاتُل الأخوة يشعل النار بنوافذ السيد المسيح. كان المؤرخ الفلسطيني الراحل محمد عزّة دروزه قد شكا، في كتابه «القضية الفلسطينية»، «من مشهد سياسي يثير القرف والتقزّز»، غمر فلسطين قبل سنوات النكبة. يبدو أنّ بعضاً من الفلسطينيين حريص على إحياء هذا المشهد، أو على تجديده إذا خبا وانطفأ، كما لو كانت الدماء ماءً، والشهداء تراباً، قبل أن يذوبوا في التراب·
والسؤال الثاني: أين هو «الصبي الواعد»، الذي يجسّد الفلسطينيين جميعاً، ويذهب إلى المعركة ويعود حاملاً أكثر من بشارة؟ كان كنفاني، الذي كان يرهقه حلمه الثقيل، قد تحدّث في روايته «ما تبقّى لكم» من صبي، يدثّره الليل ويحرسه أيضاً، ينازل الجندي الإسرائيلي ويهزمه مع مطلع الشمس· وسواء كان غسان كثير الأحلام أم كثير الأوهام، فقد كان سؤاله الموجع: «ما تبقّى لكم؟» محمّلاً برفض شقاء المنفى وذل اللجوء، ومحمّلاً أكثر بالدعوة إلى «فلسطيني موحّد»، يدافع عن المجموع ويهبّ المجموع إلى إسناده ونصرته. وذهب غسان كما ذهب جبرا، وكما سيذهب من تبقّى من الحالمين، تاركاً فلسطينياً يقتل فلسطينياً آخر فوق أرض فلسطينية قتيلة. فما الذي تبقّى وقد غدت بقية الأرض سجناً، وما الذي تبقّى بعد أن قُذِف بالفلسطينيين إلى المعابر والجدار العازل والحواجز وإلى بيوت فقيرة مكتظة يقوّض جدرانها الطيران الإسرائيلي حيث يشاء؟ ما تبقّى هو الخيبة، وما تبقّى هو الوعد الخائب، الذي لا يدرك متاهة الخيبة، ذلك أنّ الوعي الجريح، الذي احتفظ بقسط من الكرامة، يعرف أنّ المدافع الإسرائيلية لا تحتاج إلى ظهير.
والسؤال الثالث: من هو العدو المشترك، وما هي الحدود بين «الاختلاف الأخوي» الذي يحلّه الحوار و «التناقض الجوهري» الذي لا يقبل إلاّ بفتوى الرصاص؟ في زمن مضى أكثر الفلسطينيون الحديث، ليس من دون بلاغة ماسخة، عن «شذّاذ الآفاق، العصابات اليهودية، الدولة اللقيطة، وهؤلاء الذين لُعنوا في كل كتاب.
لم تكن هذه الصفات البلاغية إلاّ صفات العدو الصهيوني، الذي اغتصب الحق الفلسطيني أكثر من مرّة· وهذا الإيمان اليقيني، الذي يجعل الفلسطينيين جميعاً فلسطينياً واحداً والإسرائيليين جميعاً إسرائيلياً واحداً، هو الذي كان يدفع بـ «البطل المطمئن» إلى الذهاب إلى هدفه دون خطأ أو ارتباك، حال الصبي المطيع، الذي أتقن الذهاب من البيت إلى المدرسة ومن المدرسة إلى البيت. بيد أنّ زمن التداعي الفلسطيني، ولكل الشعوب نهضة وسقوط، ما لبث أن «قَسَم الواحد»، إذ وراء الفلسطيني فلسطيني آخر، وإذ رصاصة البندقية متعددة الجهات، وإذ البندقية العمياء تقتل الفلسطيني قبل غيره، قتلاً بلا دماء أو قتلاً مادياً عادياً يُفضي إلى المقبرة ومع أنّ في كتب الفلسفة ما يتحدّث عن التناقض والانقسام وانقسام المقسوم، فإنّ ما يجري اليوم في غزة لا تقبل به كتب الفلاسفة، فهو انقسام رخيص أقرب إلى الابتذال، يحيل على الربح والخسارة، بالمعنى التجاري، قبل أن يلتحق بالموضوعية ومجال الأسئلة الفلسفية·
السؤال الرابع: هل دورالذاكرة الفلسطينية تحويل «بيارات البرتقال» إلى فردوس مفقود، أم أنّ دورها حفظ دروس التاريخ، وعدم نسيان الأسباب التي سهّلت طرد الفلسطينيين خارج أرضهم؟ حين كان نجيب نصّار، مؤسس جريدة الكرمل اللبناني الأصل، يستعرض بناظريه صفوف «الساسة الفلسطينيين»، في الربع الأول من القرن الماضي، كان يستبدل بكلمة «الساسة»، وهي كلمة تحظى أحياناً ببعض الاحترام، بكلمة أخرى أكثر وضوحاً وتحديداً هي: المتزعّمون، أي هؤلاء الذين يبادلون المصالح الوطنية العامة بالمصالح المتحزّبة الخاصة، محوّلين السياسة إلى تجارة، والتجارة إلى سياسة، ومحوّلين «القضية» إلى سلعة كبرى، لها مخازن وأسواق وزبائن. وكان خليل السكاكيني، كما جاء في مذكراته الشاسعة، ينظر إلى «المتزعّمين» باحتقار، لأنّ مصالحهم الأسرية تسبق مصالح عائلاتهم، والمصالح الأخيرة تسبق مصالح محازيبهم، ومصالح المقرّبين والأصدقاء والوجهاء تصادر مصالح الوطن، والمرض القديم لا سبيل إلى علاجه، فقد رحل المرضى وظل المرض حاضراً فاعلاً منتصراً، لا يهاب «الفدائي» ولا يخشى «المجاهد» ولا يتراجع أمام النصائح، ولا أمام تلك الخيبة المتراكمة، التي تكاثر الثكالى واليتامى والمعوّقين بين الفلسطينيين، كما يتكاثر الفطر بعد يوم مطير.
في الذكرى التاسعة والخمسين لسقوط فلسطين تسقط فلسطين اليوم في غزة مرّة أخرى. مآل حزين يثير السخرية، لأنّ شعباً مقاتلاً عانى الكثير، ولا يزال، جدير بمصير أكثر عدلاً.
فيصل درّاج
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد