شوبنهاور: الفن هو الخلاص
ولد آرثر شوبنهاور في مدينة دانزيغ (غدانسك الآن)، وهو ابن لتاجر ثري. مات والده منتحراً وهو في سن صغيرة، تخلت عنه أمه، عاش حياة الوحدة في سن مبكرة. لديه موقف تجاه النساء، فهو يزدري المرأة وظل غير متزوج طوال حياته. أمضى شوبنهاور معظم حياته في فرانكفورت، وعندما سُئل عن المكان الذي يريد أن يُدفن فيه، استخف كثيراً بهذه المسألة وأجاب: «لا أبالي أين أدفن، سيجدونني». لقد انصب تركيز شوبنهاور على فلسفة الحياة، وهي الفلسفة التي يتردد فيها صدى التشاؤم باستمرار.
أول عمل كبير لشوبنهاور يدور حول فلسفته الأساسية هو كتاب «العالم كإرادة وأداء»، ولكن مع ذلك كانت مبيعاته ضعيفة للغاية، وقد تم إتلاف أغلب النسخ المطبوعة. لم يكن شوبنهاور مقبولاً من الآخرين وكان سيئ الصيت، ولكن في السنوات الأخيرة من حياته بدأت كتبه تلقى إقبالاً كبيراً، وقد طبعت بطبعات جديدة، وأصبحت في متناول الجميع. ومن بين الأمور التي اجتذبت أنظار القراء إلى أعمال شوبنهاور، هو أن كتبه قدمت خلاصة فلسفته في الحياة، حيث أثارت اهتماماً عاماً كبيراً. وحول فلسفة الحياة وما وراء الطبيعة، بالنسبة لشوبنهاور العالم هو إرادة وأداء، وهو يستخدم كلمة «إرادة» للتعبير عن طاقة نقية، خالصة ليس لها اتجاه معين، ومع ذلك فهي أساس لكل شيء يتجلى في العالم الظاهراتي. إنه مثل كانط تماماً، يرى أن الزمان، المكان، والسببية تابعة للعالم الظاهراتي، وتبعا لذلك فإن الزمان والمكان والسببية هي عبارة عن مفاهيم في وعينا وليست أشياء خارجية، ولذا فإن إرادة العالم لا تحدد بالزمن، أو تتبع قوانين سببية أو جسدية، مادية. وهذا يعني، في رأيه، أن الإرادة يجب أن تكون أبدية، غير مرئية وخالدة. كما يتحتم على إرادتنا الفردية أن تكون كذلك أيضاً. ويترتب على ذلك، إرادة الكون وإرادتنا الفردية هي واحدة؛ أي نفس الشيء، وأن العالم الظاهراتي تسيطر عليه هذه الإرادة الأبدية الممتدة، الثابتة، الدائمة والخالدة.
عالم بلا معنى
ومن هنا يبدأ تشاؤم شوبنهاور في الظهور. بينما معاصروه أمثال هيغل نظروا إلى الإرادة كطاقة إيجابية، في حين نظر شوبنهاور إلى الإنسانية على أنها مستسلمة تماماً للإرادة الكونية، ورأى أنها شيء متروك بلا خطة ولا تفكير. وبالنسبة له، إن العالم ليس خيراً ولا شراً، لكنه بلا معنى، الإنسان ليس مدفوعاً بالمنطق أو التفكير العقلاني وإنما بالدافع الغريزي. وليس هناك هدف أو قيمة جوهرية، وإنما فقط احتياجات وسعي وراء إرضاء شتى أنواع الرغبات التي لا تنتهي، بل تتغير باستمرار فقط. وعلى أية حال، لا يمكن تلبية هذه الاحتياجات بالكامل أبداً. وبمجرد أن نحقق هدفاً ما، لا يمكن مقارنته بما كنا نحلم به. إن سعينا وكفاحنا يولد من الضعف، من العوز والمعاناة، وبذلك فإن هدف سعينا وهمي ومزيف.
إن السبيل الوحيد للهروب من هذا الشرط البائس هو بحسب شوبنهاور، عدم الوجود، أو على الأقل التخلي عن تلك الرغبات.
وكذلك تظهر نظرة شوبنهاور التشاؤمية حول التاريخ أيضاً وحتى المجتمعات. إذ يقول إن تطور التاريخ لا يتم تحديده بالعقل ولا يقره إحراز التقدم، وإنما بأفعال الشر القادمة من الحاجة. وكل هذا يحدد مسار التاريخ في المجتمعات لأن الأخلاق البشرية هي نفسها كما هي لا تتغير. ويقترح شوبنهاور حلاً للعثور على الراحة وتخفيف المعاناة والشقاء البشري وذلك من خلال التأمل الجمالي، ويقول إن الفن هو الخلاص، لقد كان الفن الضوء المنير في حياة شوبنهاور المتشائمة. ثم يُضيف لحسابه أيضاً جمال الطبيعة، فهي تتيح لنا النسيان لبعض الوقت ويهدأ سعينا ونضالنا نحو الأشياء. إن الأبدية تعيش في الأعمال الفنية. وأكثر أنواع الفن الذي يكن له التقدير هو الموسيقا، لأن الموسيقا تنقل القوة والطاقة بشكل مباشر إلى الإنسان، إنها الصورة الحقيقية للإرادة.
الإرادة الكونية
لقد درس شوبنهاور أيضاً فكر المفكرين الشرقيين وتعمق في الأديان الشرقية. ومن خلال الفكرة التي تدور حول الإرادة الكونية طور شوبنهاور فلسفته الأخلاقية التي تبدو مفاجئة بعض الشيء، بالنظر إلى سوء تشاؤمه وبغضه للبشرية. أنه إذا استطعنا أن نفهم وندرك أن انفصالنا عن الكون هو في الأساس وهم كبير، لأن كل إرادتنا الفردية وإرادة الكون هي نفسها، عندئذ يمكننا أن نتعلم الشعور بالتعاطف مع كل شيء ومع كل شخص، وقد يأتي الخير الأخلاقي من الشعور الكوني. وهنا يعكس شوبنهاور أفكاره مرة أخرى من الحكمة الشرقية. ويرى أن السعادة الحقيقية يمكن تحقيقها من خلال التخلي عن الذات، وأن السلام يكمن وراء تجاوز الماديات.
لقد تم تجاهل شوبنهاور إلى حد كبير من قبل الفلاسفة الألمان في حياته، ومع ذلك كان له تأثير كبير، فقد أصبحت فلسفته مؤثرة بقوة على العديد من الفلاسفة، كما كان له تأثير خاص على كُتاب كبار أمثال ليف تولستوي، حيث يمكن أن نجد أفكار شوبنهاور بين سطور روايات تولستوي.
ويمكن التكهن بأنه في نهاية القرن التاسع عشر، كان شوبنهاور الأكثر قراءة على نطاق واسع من بين جميع الكُتاب. في حين ما وراء الطبيعة وميتافيزيقية شوبنهاور لم يكن لها تأثير دائم يذكر. ولكن نصوصه ظلت محتفظة بجاذبيتها، وأسلوبه الخاص في الكتابة والتعبير عن الأفكار يتمتع بامتياز وتفوق، مما يعني أن نصوصه تُقرأ خارج الأوساط الأكاديمية أيضاً.اقتباس من شوبنهاور
«ليس لوجودنا أساس آخر نستقر عليه سوى اللحظة الحاضرة التي تختفي باستمرار. لذلك، فإن الشكل الأساسي للحياة هو الحركة الأبدية، دون إمكانية سعي الروح وتوقها المستمر، الدائم إلى السكينة والسلام. إن وجودنا يشبه سقوط الكائن من أعلى الجبل، إذ ينبغي عليه إذا أراد أن يبقى ثابتاً عليه أن يظل مستقيماًً فقط خلال الاندفاع المستمر. إن الحياة مثل العصا بين أصابع اليد تظل ماسكاً بها للموازنة كي لا تسقط، إنها مثل كوكب الأرض، الذي من شأنه أن يغرق في كوكب الشمس بمجرد توقفه عن الدوران. القلق إذن هو الشكل الأساسي للوجود».
ترجمة: أثمار عباس
إضافة تعليق جديد