جائزة البومة الذهبية للروائي الشاب أرنون غرونبرغ
لنفترض أن جائزة عربية ما، أعلنت عن ترشيح خمسة أعمال روائية جديدة كي تتنافس على نيلها، ومن بين هذه الأسماء روائي كبير، اسماً وسناً وقيمة وأهمية، أما المتنافسون الأربعة الآخرون فمن الشباب، فإلى مَن من هؤلاء تذهب الجائزة؟ المؤكد، بحسب المعايير العربية السائدة، أن تذهب الجائزة إلى هذا الكاتب الكبير، بغض النظر عن استحقاق عمله المرشح للجائزة، ذلك لأن الجوائز العربية عادة ما تلتفت إلى معايير أخرى غير قيمة الأعمال المرشحة وأحقيتها في التنافس في ما بينها.
على العكس من ذلك، تأتي الجوائز الأوروبية، في الغالب، كي تكون مثالاً على الحيادية. ففي اليوم الأخير من شهر آذار الفائت أعلنت في مدينة أنتويرب الواقعة في الشمال البلجيكي نتائج جائزة "البومة الذهبية" التي تبلغ قيمتها المادية 25 ألف أورو، وتعد واحدة من أكبر جوائز الرواية الهولندية، وأهمّها، أو بالأحرى الأدب الروائي المكتوب باللغة الهولندية، حيث يرشَّح لها سنوياً العديد من كتّاب هولندا وبلجيكا، ومن بين خمسة أعمال روائية رُشحت هذه السنة، نالت الجائزة رواية "تيرزا – Tirza" للروائي الهولندي الشاب أرنون غرونبرغ (من مواليد 1971)، متفوقة بذلك على أربعة أعمال روائية أخرى هي: "الزواج الثالث" للروائي والشاعر البلجيكي توم لانواه (من مواليد 1958)، "المادة 285 ب." للهولندي كريستيان وايتس (من مواليد 1976)، "خسارة الأشياء" للروائي البلجيكي ديمتري فيرهولست (من مواليد 1972)، أما الرابعة فهي "القلب السّاتاني" للكاتب الهولندي والشاعر الكبير ريمكو كامبرت (من مواليد 1929). إلا أن لجنة تحكيم الجائزة أشارت في تقريرها إلى أن رواية "تيرزا" لغرونبرغ كانت الأحقّ من بين الأعمال المرشحة، أضف إلى ذلك أن الرواية نفسها رشّحت قبل أسبوع واحد من إعلان نتيجة "البومة الذهبية" لجائزة أخرى لا تقل أهمية عنها هي جائزة "ليبريس" والتي تقدّر قيمتها المادية بخمسين ألف أورو. ثمة إشارة أخرى مفادها أن أرنون غرونبرغ إنما يحصل على الجائزة نفسها للمرة الثانية في حياته الأدبية القصيرة، حيث نالها عام 2002 عن روايته "الحمد للإنسانية"، حيث لم يردع حصوله الأول عليها لجنة التحكيم من منحها له ثانية، مشيرة في تقريرها إلى أن "الجائزة لا تذهب إلى رواية تصيب قارئها بالدهشة أو السعادة أو الإنتشاء فقط، بقدر ما تمنح هذه المرة إلى رواية صادمة وهي تقدّم العالم في صورته الحقيقية من دون تزييف أو بهرجات، إلى الدرجة التي يشعر معها قارئ الرواية بأن شيئاً ما حميمياً وملاصقاً له يخزه في الصميم كلما غرق في تفاصيل العمل، لكنه غير قادر على سبر كنه هذا الشيء، وهي الحالة التي تشعره بأنه ليس في إمكانه ترك الرواية إلا بعد أن يدرك الجواب عن الأسئلة الصادمة التي تتولد في داخله كلما أوغل أكثر في عوالم الصفحات التي بين يديه".
ولد أرنون غرونبرغ في أمستردام في الثاني والعشرين من شباط 1971، وقدّم العديد من الأعمال في مجالات الرواية والشعر والمسرح والقصة القصيرة، إلى جانب مقالاته التي يكتبها بشكل دائم في العديد من الصحف الهولندية والبلجيكية. بدأ بنشر أعماله منذ كان في الثالثة والعشرين. كتابه الأول ضم قصصه القصيرة وصدر عام 1990، لكن روايته الأولى "أيام الإثنين الزرقاء" (1994) كانت الخطوة الحقيقية في مشروعه ككاتب، وسرعان ما حصدت العديد من الجوائز وترجمت إلى أكثر من خمس عشرة لغة بما فيها اليابانية. عام 1997 صدرت روايته الثانية "كومبارس" ثم توالت أعماله الروائية الأخرى: "أنطونيو المقدس" (1998)، "آلام شبح" (1999) والتي نال عنها جائزة "آكو - AKO" ورشحت كذلك لجائزة "البومة الذهبية" إبان صدورها. وإذا كان غرونبرغ قرر أن يترك هولندا ليعيش ويعمل في مدينته الأحبّ نيويورك، إلا أنه حتى الآن يحرص على متابعة إصدار أعماله في أمستردام التي ولد فيها، ويزورها مرات كل عام. بقي أن نشير إلى أن كاتبنا الشاب عرف في الوسطين الهولندي والبلجيكي بسلاطة لسانه وانتقاده للعديد من الكتّاب المجايلين له أو السابقين عليه، في سخرية ميّزته عن زملائه، وهذا ما جعله كاتباً تسعى العديد من الصحف إليه حين تريد النيل من كاتب ما، أو افتعال ضجة لا مبرر لها. إلا أنه رغم هذه الصفات التي جعلت الكثيرين يعتبرونه كاتباً لن يملك أبداً القاعدة العريضة التي تجعله كاتباً مشهوراً، يثبت غرونبرغ يوماً بعد يوم قدرته وتميزه الأدبي مع كل كتاب جديد يصدر له، وهذا ما دفع لجنة تحكيم جائزة "البومة الذهبية" إلى أن تشير في حيثيات الجائزة لهذه السنة إلى مقدرة الكاتب على صنع سخرية غير محتملة من بطله الذي تنهار حياته شيئاً فشيئاً أمام عينيه وهو لا يقوى إلا على المناكفة، حتى تصل به الحال إلى الإنتحار ببطء وهو يتجول في صحراء أفريقيا بحثاً عن دافع يعيش لأجله.
تسرد الرواية التي وصفها تقرير لجنة التحكيم بأنها "الأكثر واقعية في أعمال أرنون غرونبرغ" حياة رجل أربعيني يدعى يورغان هوفميستر، تهرب زوجته وتتركه مع ابنتيه الشابتين، إلا أنها تعود قبل ثلاثة أيام من بدء حوادث الرواية ليتواصل شجارهما من جديد كأنها لم تغب لحظة واحدة. ثمة جملة تبدأ بها الرواية وتحدد محوراً زمنياً ومكانياً لن تخرج عنه على مدى صفحاتها الأربعمئة، على الرغم من استخدام الكاتب الفلاش باك والمونتاج والانتقال بين الأزمنة بأشكال مذهلة، سعى من خلالها إلى الاشتغال على تفتيت الزمن الواحد في أماكن متعددة. إلا أن الحوادث كلها تظل تدور في زمن الحفل الذي يشار إليه منذ الجملة الأولى: "يورغان هوفميستر واقف في المطبخ منهمكاً في تقطيع سمك التونة استعداداً للحفل". لا تنقضي شهور قليلة على هرب الأم حتى يفقد هوفميستر عمله كمحرر في الصحافة الأدبية، ويخسر أمواله التي كان أدخرها في أحد البنوك اللندنية، وفي حين يصدمه اكتشاف وجود علاقة بين ابنته الكبرى مع أحد سكان عمارتهم السكنية، يبدأ الأب بالتعامل مع ابنته الصغرى تيرزا، التي عانت سنوات مراهقة صعبة، على أنها المستحقة الوحيدة لحبه واهتمامه، فيروح يضيّق الخناق عليها باهتمامه وحرصه الزائدين، حتى تفاجئه ابنته المتذمرة بدعوة صديقها الجديد شكري ذي الأصول المغربية إلى منزلها للتعرف إلى والدها، وما أن تقع عينا الأب على الصديق الجديد لابنته حتى يناصبه العداء، ليس فقط لأنه من سيسرق ابنته، وهي الكائن الوحيد المستحق لحبه بعد صدمة الابنة الكبرى وهرب الزوجة الأم، بل أيضاً لأن عقل هوفميستر المشتت والغيور يربط مباشرة بين ملامح الصديق الجديد والإرهابي المصري محمد عطا الذي شارك في تدمير برجي "مركز التجارة العالمي" في نيويورك في الحادي عشر من أيلول 2001. وقبل أن يفيق الأب المسكين من صدمة ملامح صديق ابنته الجديد، حتى تخبره تيرزا بأنها سوف ترحل مع صديقها إلى ناميبيا كي يعيشا هناك.
بوصول الرواية إلى هذه النقطة الساخرة، يصعّد غرونبرغ من حال التوتر في عمله ومن خلطه بين الأزمنة وتذويب الفوارق بينها، باحترافية كبيرة، راصداً بعين ذئب التبدلات النفسية السريعة والمتعاقبة لبطله يورغان هوفميستر، وهذا ما ينعكس تالياً على التوتر داخل القارئ الذي يلهث خلف البطل حين يقرر السفر إلى ناميبيا بحثاً عن ابنته التي لم تكتب إليه حرفاً واحداً منذ غادرت أمستردام. يتتبع المؤلف بطله وهو يجول في صحراء هذا البلد الأفريقي كأنه يطلب من القارئ أن يبحث مع البطل، ليس فقط عن ابنته التي اختفت منذ سفرها، إنما عن معنى ما لحياة يورغان التي صارت هي الأخرى صحراء خالية، بعدما فقد كل شيء؛ عمله وماله وعائلته، ولم يبق أمامه إلا حقيقة فشله في كل ما حاول أن ينجح فيه.
في حفل الجائزة، صعد أرنون غرونبرغ لتسلم تمثال "البومة الذهبية" للمرة الثانية في أقل من خمس سنوات، وحين طالبه أحد أعضاء لجنة التحكيم بإلقاء كلمة قصيرة، لم يتوجه بالشكر إلى أحد من الحضور أو الى أعضاء لجنة التحكيم، إنما أشار إلى سعادته بالجائزة التي تتوج أربع سنوات من اشتغاله على روايته الصادرة لدى دار Nijgh & Van Ditmar أواخر العام الماضي، والتي سافر من أجلها ثلاث مرات إلى صحراء ناميبيا كي يكتب عن رحلة بطله الى هناك، كما أعلن عن تبرعه بمبلغ خمسة آلاف أورو مساهمة منه في تحقيق ترجمة هولندية لكتاب الباحث والمحامي الأميركي جوزف مارجوليس، "إساءة استخدام القوة الرئيسية" والذي يتناول فيه الأوضاع المأسوية لسجناء غوانتانامو.
عماد فؤاد
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد