آخر ضحايا مشفى دمشق
بداية حاولت مشفى دمشق ثنينا عن إنجاز هذا التحقيق, مبررة ذلك تارة بأنه يسيء لمشفى يراجعه يوميا أكثر من مئتي مريض وأخرى بأنه يضر بمستقبل أطرافه من أطباء ومخبريين والحقيقة أننا تمهلنا كثيراً قبل إنجاز هذه المادة,
لكننا حسمنا أمرنا في النهاية مستندين إلى أن هناك أكثر من شكوى على المشفى بينها لوالد طفل اتهمته المشفى ذاتها على صفحات جريدتنا أنه لجأ إلى الأطباء الشعبيين لعلاج طفله, فزارنا وأكد لنا أنه راجع أطباء معروفين وروى لنا قصة طفله في المشفى..
استندنا أيضاً إلى مبررات تتعلق بالمنطق: إذا ارتكب هؤلاء الأطباء والمخبريون خطأ يتعلق بالبديهيات مثل تحليل زمرة دم فما الذي سيضمن للمرضى الفقراء عدم ارتكاب أخطاء فادحة تودي بحياتهم? وهل مستقبل هؤلاء أهم من حياة الناس? والأهم من ذلك تعتقد المشفى في مبررها أن أمام الناس خيارات, إما الذهاب إلى مشفى خاص أو إلى مشفى حكومي?! معتبرة على ما يبدو أن الدعم الصحي, مثل دعم مادة المازوت, ال 10% من الشريحة الأغنى تستفيد من 52 ضعفاً من ال 10% الأشد فقراً, مع ملاحظة أن ال 10% في الحالتين تعني رقمين أحدهما في غاية الضآلة والآخر في غاية الكبر!!
وما دفعنا إلى الإقدام على المضي في هذا التحقيق أكثر هو الفضول, تصوروا أن يقال لكم مثلاً إن هناك أستاذ رياضيات يخطيء في جدول الضرب.. بالتأكيد, ستحاولون التحقق من الأمر واختبار الأستاذ إن وجدتم سبيلاً إليه.
لم تقبل المريضة في المشفى لأن أهلها لم يشخصوا مرضها
بدأت القصة يوم 28/12/2005 عندما راجعت الطفلة سمر ابراهيم المشفى لأول مرة حيث أجرى لها تحليل دم وتمت عملية النقل وتكرر الأمر بتاريخ 1/1/2006 وأيضا بتاريخ 5 و 8/1/2006 وكانت الزمرة في جميع هذه المرات هي (O+).
يوم 12/1/2006 كان درامياً, أسعفت الطفلة إلى المشفى الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر, كما يقول أهلها, وطلبوا في الإسعاف تحاليل دم من زمرة وتصالب وتعداد كالعادة, وبعد عشر دقائق كانت النتيجة جاهزة مع وحدة الدم, لكن هذه المرة أصبحت الزمرة AB+!!
تقول عمة المريضة: حينها قلت للمخبري خالد النابلسي إن زمرة الطفلة هي (O+) فرد بأننا لانفهم عمله وأن لديه مئتي تحليل, وإزاء إصراري, طلب إحضار الطفلة إلى المخبر وأخذ بنفسه عينة وحللها ثانية وظل مصراً أن الزمرة هي (AB+), عندها اعترضت لدى الدكتور خالد الحسين وطلبت من والدها تحليل الزمرة في مخبر خاص, وبالفعل أرسلنا عينة إلى مخبر مشفى الكندي وكانت النتيجة الزمرة (AB+) عندما عادت النتيجة من المخبر الخاص قالت العمة للطبيب المناوب خالد الحسين إذا كانت زمرة الأب (O+) وزمرة الأم (A+) فكيف يمكن لزمرة الابنة أن تصبح (AB+) فأجابها ألا تتدخل في هذه الأمور وأصر على نقل الدم للطفلة من زمرة (AB+).
تتابع العمة: لم تكد تمضي عشر دقائق على تركيب وحدة الدم للطفلة حتى ظهرت علامات التحسس فازرقت شفتاها واصفرت قدماها وارتفعت درجة حرارتها وتعرقت وضاق تنفسها.. فنادت الممرضة على الطبيب, حضر وقال: إن السبب هو سرعة الدم, فأبطأ نزوله وخرج!!
لكن وضع الطفلة ازداد سوءاً, فناديته ثانية, جاء وأوقف نقل الدم وأعطاها مضادات تحسس ووضع لها الأوكسجين مدعياً أنها ستتحسن, وما لبث أن قال إن صعوبة تنفسها لن يكفيه أوكسجين المشفى وطلب إخراج الطفلة إلى الهواء الطلق وإطعامها, وعاد بعدها ليتابع نقل وحدة الدم نفسها وفي الوريد نفسه, وغادر قسم الإسعاف إلى شعبة الأطفال ولم نعد نعرف كيف نجده ولا سيما أن حالة الطفلة أصحبت في غاية السوء.
في الساعة الثانية عشرة إلا ربعاً طلب لها د.إياد الرفاعي صورة للصدر وقال إن لديها ذات الرئة وأن علينا تسجيلها في مكتب القبول وأخذها إلى شعبة الأطفال, وهناك قالت لنا الطبيبة المناوبة علياء العلبي (شكراً على هذه الهدية, أنا نبهت عليهم في الإسعاف ألا يرسلوا لي أحداً بعد الساعة الحادية عشرة ليلاً!!), ثم فحصت الطفلة مع طبيب آخر وطلبا منا (إحضار ميزان حرارة وحب سيتامول), فبحثنا عن صيدلية مناوبة وأحضرناها.
ازدادت حالة الطفلة سوءاً وأدخلت غرفة الإنعاش وهناك أيضاً طلبوا منا إحضار (إبرة من قسم الإسعاف!!) وهنا عاد الطبيب المناوب خالد الحسين إلى الظهور وعندما نسأله عنها يجيبنا (عم يشتغلوا فيها!!) ولم نعلم بخبر وفاتها من الطاقم الطبي بل من العامل الذي سينقلها إلى البراد.
الدكتور خالد الحسين المناوب في قسم الإسعاف ليلة الحادثة لخص ما جرى على النحو التالي: ادعت العمة أن زمرة دم الطفلة هي (O+) فطلبت من المخبري خالد النابلسي إعادة التحليل والطفلة موجودة عنده في المختبر الإسعافي, فكانت النتيجة للمرة الثانية (AB+) وأكد لي أن التحليل والنتيجة صحيحان وأنه ليس قليل الخبرة في هذا المجال, عندئذ طلبت لقطع الشك باليقين تحليلاً من خارج المشفى, حيث أرسلنا في المرة الأولى عينة دم إلى مخبر مشفى الكندي, فلم يتمكن من إجراء التحليل بسبب تخثر الدم, فأعدنا سحبه بأنابيب شعرية وجاءت النتيجة موافقة لمخبر دمشق والزمرة هي (AB+), عندها طلبنا وحدة دم (AB+) بعد إجراء التصالب, والتصالب في حالة نقل الدم ضروري, فإذا كان إيجابياً أي إذا حدث تراص فذلك يعني أن الدم غير ملائم وإذا لم يحدث تراص فهو ملائم, وهكذا أرسلت لي وحدة الدم مسجلاً عليها جاهز للنقل ومكتوباً اسم الطفلة سمر ابراهيم ولم أعرف إن كان أجري التصالب أم لا!.
المخبري خالد النابلسي رفض التحدث بالأمر قبل انتهاء التحقيق لكنه أدلى بإفادتين واحدة أمام مخفر الميدان وجاء فيها: أسعفت الطفلة إلى المشفى بحدود الثالثة والنصف بعد الظهر وتم إحضار عينة من قبل الممرضة وتبين بعد الفحص أنها (AB+) وعندما اعترض الأهل طلبت منهم إحضار عينة ثانية للتأكد وفحصنا الدم مرة ثانية وبقيت الزمرة كما هي, وعند اطلاعي على إضبارة المريضة وجدت أنها أعطيت ثلاث مرات (O+) وبتاريخ 28/12/2005 أعطيت (AB+) من (قبل أحد الفنيين), ولذلك ووفقاً لما ورد في إضبارتها أول مرة, واعتماداً على عملي أعطيتها كيس دم يحمل الزمرة (AB+) حيث يجرى التصالب في بنك الدم لزمرة المريض وزمرة الكيس لشعبة أمراض الدم على طريقة كومبس (انتهت الإفادة).
الإفادة الثانية أدلى بها في تحقيق المشفى ويضيف فيها إلى ما قاله سابقاً: (لم يبرز الأهل أي وثيقة بالزمرة الدموية تؤكد أن زمرتها O+) ولم أكن أعلم أن المريضة لديها ارتصاص ذاتي في كرياتها الحمراء وهنا تم الاقتراح على بنك الدم إرسال عينة ثالثة لخارج المشفى للتأكد من الزمرة وكانت (AB+) وهذا ما جعلني متأكداً أن زمرتها (AB+) وعندها أحضرت وحدة دم من هذه الزمرة وأعطيته للإسعاف بسرعة (دون إجراء تصالب ما بين دم المريضة والكيس!!).
الدكتور حسن قباني اختصاصي صدرية ومكلف برئاسة لجنة تحقيق المشفى قال: سألنا العديد من الأشخاص عن ملابسات الحادثة ومنهم د.عيسى الشيخة أستاذ نقل الدم في المواساة فأفادنا بأن الوضع على النحو التالي: أعطيت الطفلة سمر ابراهيم نتيجة فقر دمها ومرضها الانحلالي المستبطن زمرة خاطئة عند تحليل الدم بالطريقة الروتينية, لأن لديها أضداداً أحدثت تراصاً ما أعطى زمرة خاطئة, والحل في الحالة الاعتيادية في حال وجود شك بالزمرة هو إجراء غسيل متكرر للكريات الحمر ومن ثم إعادة تحليل الزمرة, ويمكن حينها الوصول إلى النتيجة الصحيحة, لكن هذا الأمر لا يحدث روتينياً, أي ليس كل مريض دم يأتي نغسل كريات دمه, هذا يحدث فقط في حالات وجود شك بالزمرة!! ويقوم بهذا الإجراء فني نقل الدم, بعد التحاليل الثلاثة التي بينت أن زمرة المريضة (AB+) تم إحضار كيس دم دون إجراء تصالب بطريقة (كومبس), أيضاً لأن هذه الطريقة لا تتم بشكل روتيني, لأنها تتطلب وقتاً, أما في حالات الإسعاف فنعتمد الطريقة المباشرة (زمرة وتصالب).
عندما وضعنا هذه المعطيات أمام أكثر من طبيب مخبري وأكثر من طبيب متخصص بأمراض الدم أكدوا جميعهم أن الزمرة الدموية لا تتبدل إلا في حالات مرضية معينة وليست منها حالة انحلال الدم المناعي الذاتي أو سمة التلاسيميا وأكدوا أيضاً أن المريضة طالما أخذت خمس مرات من زمرة (O+) فمعنى ذلك أن هذه زمرتها خاصة وأن هذه الزمرة معطى عام ولا تأخذ إلا من (O+ أو O-) ولو نقل إليها دم (AB+) منذ البداية لكانت حدثت الوفاة حينها.
وحتى المخبري الذي حلل دم المريضة آخر مرة أكد لنا أن زمرة الدم لا تتغير وأنها من أبسط أنواع التحاليل ولا تستغرق أكثر من نصف ساعة!!.
على أي حال, رفض هؤلاء أن ننشر أسماءهم حتى لا يسيئوا -كما قالوا- إلى زملاء في المهنة ولأسباب أخرى رفضوا ذكرها.
نعود إلى د.خالد الحسين الذي روى لنا ما حدث بعد بدء عملية نقل الدم: ما إن أخذت الطفلة أكثر من نصف كيس دم (حوالى 350 سم3)أصيبت بترفع حروري, فعزوت ذلك إلى وجود ارتكاس عابر لنقل الدم, وحسب مراجع الطب الإسعافي عند الأطفال فإن الترفع الحروري ليس مضاد استطباب مطلق لنقل الدم, إذ يوقف النقل ويعطى أدوية ويتابع النقل بعدها, وفعلاً أوقفت النقل وأعطيت الأدوية اللازمة, لكن تطورت لديها أعراض أخرى عزوتها لسرعة نقل الدم حيث (كانت عدادات جهاز النقل من النوع الردىء) وسرعة النقل وكمية الدم المنقولة كبيرتان, بعد ذلك شخصت ما حدث على أنه فرط حمل سوائل وبداية قصور قلب احتقاني, فأعطيت الطفلة الأدوية اللازمة وأرحتها من النقل حوالى ساعتين, وعندما استقر وضعها طلبت من أهلها(إخراجها لتخفيض حرارتها) ورؤية لون البول وخلال هذه الفترة أكلت الطفلة وشربت كمية من السوائل واستقرت حالتها, فأعدت نقل الدم للمرة الثانية وكانت الساعة حينها الحادية عشرة ليلاً وخرجت من الإسعاف إلى سكن الأطباء للراحة وبعد ر بع ساعة اتصل بي د. إياد الرفاعي يخبرني أن حالة الطفلة تغيرت, فطلبت على الفور إيقاف نقل الدم وإعطاء الأدوية اللازمة وإجراء صورة شعاعية للصدر وقبولها في قسم العناية ونزلت لمتابعة حالتها, فوجدت والدها يحملها وهي بحالة غيبوبة وقصور تنفسي وشيك وأثناء ذلك حدث لها نزف رئوي وتوقف قلب وتنفس مفاجئان, أجري الإنعاش لمدة ربع ساعة, استجابت قليلاً ثم توفيت.
وتعلق عمة ا لمريضة: ظلت المريضة تراجع المشفى 16 يوماً ولم يخطر ببال أحد أن يشخص مرضها الحقيقي رفضوا قبولها عندهم وتعاملوا معها على أنها مجرد حالة إسعافية ولم تقبل إلا ساعة وفاتها, بعدها استلمناها جثة هامدة من دون شهادة وفاة أو تقرير خروج ولم أحصل حتى الآن على أي مستند بهذا الخصوص.
ويجيب د.خالد حسين بأن المريضة لم تقبل في المشفى لأن( أهلها ذكروا أن مرضها هو الفوال فقط!!) وهو لا يستدعي القبول في المشفى أما(مرض انحلال الدم فيستدعي ا لقبول والمعالجة!!).
ويشير حسين أنه لم يتمكن يومها من الاتصال بالاختصاصي المناوب د. حسين بركة بسبب (عدم تغطية للشبكة في الإسعاف !!) خاصة أن الوقت كان عيد أضحى.
حاول أهل الطفلة الحصول على وثائق تتعلق بحالتها الطبية من المشفى ومن المخبر الخاص وفوجئوا أنه ليس هناك ما يسمى بالتوثيق لدى الجهتين, ففي مشفى دمشق جاء في محضر اجتماع لجنة السجلات الطبية: (اطلع.. على إضبارة الطفلة, تم قبولها في المشفى عدة مرات وتم نقل الدم لها عدة مرات, ولكن لم يوثق في أي من أوراق الإضبارة زمرة دم الطفلة أو رقم كيس الدم الذي تم نقله).
أما في مشفى الكندي فلم يجد الأهل اسم الطفلة ولا تحليل الزمرة على الكشوف اليومية المسجلة لديهم بتاريخ 12/1/,2006 وقيل لهم إن لمدير المشفى له منصب مرموق.
حاولنا في هذا التحقيق ألا نتدخل في الجوانب الطبية التخصصية, نقلنا آراء الأطراف الطبية كما هي, تاركين لذوي الشأن الحكم, ومتسائلين في الوقت نفسه إذا كانت هذه هي الحال مع قضية تعتبر من بديهيات أبجدية الطب, فكيف يمكننا الوثوق أو التعاطي مع المسائل الطبية الأكثر تعقيداً? ليس ذلك فحسب, إذا كان التوثيق لحالة أي مريض يجري في عيادات بسيطة, فهل يعقل أن يغيب عن مشفيين واحدة قطاع عام وأخرى قطاع خاص?!!
ولو وجد مثل هذا التوثيق, هل كانت المريضة ستدفع حياتها ثمناً لاجتهادات في البديهيات?!!
أخيراً وضعنا بين قوسين كل العبارات خارج التخصص التي تعكس واقعاً إدارياً وخدماتياً أو التي تشير إلى تناقض صارخ مثل طلب ميزان حرارة أو سرنكات من صيدلية أو من قسم آخر, أم مثل أن الأهل لم يقولوا للطبيب ما مرض الطفلة الحقيقي, وكأن الطبيب يسمع التشخيص من أهل المريض!!.
لم يستطع الأطباء الاتصال ببعضهم لعدم وجود تغطية في الشبكة
سعاد زاهر
المصدر : الثورة
إضافة تعليق جديد