في دمشق والجزائر عُشريّتان بلون أسود ومصير واحد
استخدم الجزائريون تعبير “العشرية السوداء” في وصف حربهم التي دارت بين الأعوام 1991 و2000 من القرن الماضي. لن يتأخّر السوريون عن استخدام التعبير نفسه للحديث عن الحرب التي شُنّت عليهم، بين الأعوام 2011 والفترة القصيرة المقبلة التي ستشهد نهاية حتمية للحرب. ذلك أن الظروف الداخلية والإقليمية والدولية، تتضافر للقول إن سوريا تعيش ربع الساعة الأخير من الحرب المُدمّرة.
تشترك العشريّتان في عناصر عديدة، من بينها، مسألة الديمقراطية كذريعة للتدخل الخارجي وكمطلب لفئات سياسية محلية محدودة التمثيل. التيارات الإسلامية المتشددة التي تتطلع إلى استعادة نظام الخلافة. وتبدّل المواقف الغربية من الضغط على النظامين والسعي لاقتلاعهما، إلى الخوف من الظاهرة الإسلامية والكفّ عن لعب ورقتها. الجيش الوطني الذي لعب دوراً إنقاذياً حاسماً في البلدين، ناهيك عن ابتعاد الناس عن المعارضة المُسلّحة، منذ الشهور الأولى التي انتشر العنف العشوائي والقتل المباح في البلدين إلخ.
ثمة عناصر اختلاف كثيرة أيضاً بين العشريّتين. فالمعارضة الجزائرية بكل تيّاراتها، رفضت في مناسبات عديدة، تدخّل الدول الأجنبية في صراعها مع السلطة، في حين كانت الحكومة الجزائرية ترد بعنف على كل محاولة أجنبية لدعم المُسلّحين ولو كانت في حدّها الأدنى. لذا أثارت أزمة عاصفة مع السودان بُعيْد تصريح للدكتور الراحل حسن الترابي، دافع فيه عن”الجبهة الإسلامية للإنقاذ”. وألغى الرئيس الجزائري الأسبق “اليمين زروال” لقاءً مع الرئيس الفرنسي حينئذ، جاك شيراك، لأنه أراد اجتماعاً بعيداً عن وسائل الإعلام كي لا يثير حفيظة الجماعات المسلّحة.
بالمقابل اجتمعت أكثر من 100 دولة أجنبية وعربية، لدعم المسلّحين وإسقاط النظام في سورية. وتدخّلت الجامعة العربية التي لم تجرؤ على إصدار بيان مناهض للحكومة الجزائرية، تدخّلت بقوّة في الحرب على سوريا، وجمّدت عضوية دمشق في الجامعة. وكان أمينها العام السابق نبيل العربي يجوب عواصم العالم لبث العداء ضد الحكومة السورية والمطالبة بإسقاطها.
يبقى العامل الأهم في العشريّتين هو منهج الخروج من الحرب. هنا يبدو التطابق صادماً إلى حد كبير، فقد استخدمت الجزائر أسلوب التفاوض مع أجنحة “الجبهة الإسلامية للإنقاذ”، والقتال حتى الموت مع “الجماعة الإسلامية المسلّحة”، وذلك بعد سن قانون للوئام واعتماد إصلاحات سياسية تُتيح للمستفيدين من هذا القانون الانخراط في العمل السياسي السلمي. وإذ نزعت التغطية السياسية عن العمل المُسلّح، تحوّل إلى ظاهرة إرهابية معزولة ينعقد الإجماع المحلي والأجنبي على التخلّص منها وهو ما تم بالفعل وأدّى إلى خروج الجزائر مُدمّاة من العشرية لكنها قابلة للحياة.ربع الساعة الأخير من الحرب السورية يتم وفق المنهج الجزائري، أي منح الحرية وعدم المُلاحقة والانفتاح السياسي للذين يقبلون المُصالحة، والحرب الضروس على المُسلّحين الذين هُزِموا في حمص وحلب والغوطة ودرعا وصولاً إلى إدلب التي من المقرّر أن تبدأ القوات السورية بشنّ حملة عسكرية لاستعادتها، فتنتهي الحرب على سوريا عسكرياً، فيما تتولّى المُصالحات حل مشاكل الأهالي في الاندماج مُجدّداً في بلداتهم وقراهم، وتتولّى المفاوضات في سوتشي توفيرَ سُبلِ الانخرط في العمل السياسي بشروطٍ دستورية، من المرجّح ألا تختلف كثيراً عن تلك التي اعتمدها الرئيس الأسد في الدستور الجديد الذي انتُخِب على أساسه رئيساً للجمهورية في ولايته الراهنة.
لا مبالغة في توقّعِ نهايةٍ سعيدةٍ للحرب على سوريا. ولا مُبالغة في تحديد ربع الساعة الأخير لهذه الحرب. فقد بات واضحاً لكل ذي بصيرة، أن الأطراف العربية والدولية المتورّطة فيها، قد خرجت منها أو هي في سبيلها إلى الخروج، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية التي تركت حلفاءها عُراةً في درعا والجنوب السوري، وتركت كُرد الشمال عُراةً بمواجهة رجب طيب أردوغان، ومن غير المستبعد أن تترك المُسلّحين في إدلب لمصيرهم ، فلا خيار لهم غير الاستسلام للرئيس التركي أو الهزيمة أمام الجيش السوري الذي يدرك أن معركة الشمال وإدلب بصورةٍ خاصة، يجب أن تنطلق في المدى المُرتَقب لأن الحكومة تتمتّع بأفضلية على المُسلّحين المُنهارين معنوياً والذين فقدوا هامش المناورة العسكرية، بينما تنعدم مبادرتهم السياسية. ناهيك عن احترابهم وإلغاء بعضهم البعض وسط غضبٍ عارمٍ من الناس الذين انهكتهم الحرب وباتوا ينتظرون نهايتها بفارغ الصبر.
ثمة من يعتقد أن نهاية الحرب تلوح حقاً، عندما تتوافر وسائل إعادة الإعمار، وأن الغرب لن يموّل إعماراً من دون تنازلات سياسية أساسية لصالح حلفائه في المعارضة السورية. هذا اعتقاد واقعي، سوى أن دمشق لا يمكنها القبول بتنازلات لصالح الغربيين وأنصارهم السوريين، بعد أن فشل هؤلاء في انتزاع هذه التنازلات بالقوّة المُسلّحة. ولماذا ترضخ سوريا وهي التي تمتلك بدائل عن التمويل الغربي. فالصين التي تمكّنت حتى الآن من الحصول على وعودٍ وعقودٍ مهمة في إعادة الإعمار، يمكنها أن تحرّر حكومة الرئيس الأسد من الابتزاز الغربي.
بالعودة إلى العشريّتين السورية والجزائرية يمكننا أن نتوقعَّ ليس فقط طُرُق الخروج من الحرب التي تكاد أن تكون واحدة في دمشق والجزائر، وإنما أيضاً المستقبل المنظور للبلدين في ظلّ انحدارٍ عربي لا قرار له.
معروف أن النظامين السوري والجزائري اعتمدا سياسة خارجية واحدة تقريباً، خلال ردحٍ طويلٍ من الزمن في الربع الأخير من القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة، ووقفت سوريا بقوّة إلى جانب الجزائر خلال العشرية السوداء، وكان بديهياً ألا تقطع الجزائر علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا على الضدّ من قرار الجامعة العربية.
إن اجتماع هذه العناصر بين سوريا المشرق وجزائر المغرب، يسمح بتوقّع الحديث عن قُطبٍ داخل العالم العربي يجمع البلدين ويحتفظ بقدرةٍ على التدخّل في شؤون العرب والمساهمة في رسم مصيرٍ مختلف لأجيالهم بعيداً عن الإملاءت الأميركية والتبعية المُطلقة للأجانب.
المصدر: فيصل جلول – الميادين
إضافة تعليق جديد