سنية صالح: قراءة الحياة من الجهة الأخرى
أن تطلب النجدة أثناء قراءتك الشعر، أن تخرج إلى الشارع عارياً وتصفع المارة، وتحطم زجاج السيارات، أن تعوي في البراري كالذئاب، وتشتم أنظمة الكون أثناء قراءتك الشعر، فذلك شبه معدوم. مع سنية صالح تفعل هذا، وخصوصاً لمناسبة صدور "الأعمال الكاملة"، منشورات وزارة الثقافة السورية، 2007. ثمة علاقة شديدة الغموض، وربما شديدة السرية، تنشأ بين شعرها وقارئه، إذ سرعان ما يكتشف أنه يقرأ سنية صالح لا كما يقرأ الشعر عادة، وأنه يتلقاه على نحو مغاير لما يتلقّى به الشعر عادة. ثمة أمكنة وممرات وبقع أخرى مجهولة في جسده يتسرب عبرها شعر هذه المرأة، كأن حواس أخرى وحدوسات أخرى يكتشفها القارئ لديه للمرة الأولى، أو أنها تتشكل لديه الآن، آن القراءة، وذلك بقوة الشعر، وقوة الكتابة، وقوة المعنى التي تتكثف على نحو باذخ لديها. ثمة علاقة من نوع خاص تقيمها الشاعرة بينك وبين العالم، علاقة تكون فيها: طالب ثأر.
هذا الاختلاف نتج، حقيقة، من نجاحها في أداء مهمة جليلة وبالغة الصعوبة واجهتها، اختيارياً، منذ البداية: مواجهة شعرين قويين تمردت عليهما وتجاوزتهما في كثير من التفاصيل: الشعر العربي الموروث، وشعر الحداثة الذي أطلق عليه في ما بعد "شعر الستينات" الذي كرسته مجلة "شعر" وأشاعته بريادة سنية صالح ويوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وشوقي أبي شقرا وآخرين. الشعر الأول واجهته مع شعراء الحداثة. فإذا كان هؤلاء اضطروا الى مواجهته بطريقة كادت تكون دموية، من حيث خروجهم النهائي والحازم، ليس فقط، على النص العمودي المقدس، إنما، أيضاً، على مقولاته. إذ إنهم رأوا، محقّين، أن العمود الرخامي الباهر الذي أنشأه الكلاسيكيون الأوائل، تحول مع التقليديين اللاحقين إلى عمود إسفلتي حالك لا يقوى على قول شيء، فدمّروه خالقين، عبر ذلك، الشعر العربي الحديث الذي لا يزال، بصورة من الصور، يدفع أثمان ذلك التدمير. فإذا كانت الحال كذلك، وهي كذلك، فإن الحال مع سنية صالح بدت مضاعفة ومشددة: فمن نافذة واجهت الشعر الموروث معهم بالحمية ذاتها والحزم ذاته، ومن نافذة أخرى واجهت شعر الحداثة ذاته الذي خرجت معه ومنه. طرح هؤلاء الشعراء أنفسهم بصفتهم شعراء رؤيا، والرؤيا مفهوم "جواني" ذي صلة بالإشراق. فالمعنى يتكون داخل القلب وينبثق إشراقياً، لذلك فإن ابن عربي يشبهها بـ"الرحم" التي تحمل عبء المعنى. أما الذي حدث لديهم فإنهم حولوا هذا المفهوم وجعلوه "برانياً"، خارجياً، يحدث في الإيديولوجيات الكبيرة الصاعدة آنذاك (القومية العربية، القومية السورية، الماركسية... الخ) وفي وضعيات صلبة آنذاك (وطن، أمة، جماهير، شعب... الخ) ثم نقلوه إلى الشعر، على أنه شعر حديث. حتى أن بعضهم سمّى تلك المرحلة الشعرية، "المرحلة التموزية" لكثرة المفردات التي تشير إلى ذلك: البعث، تموز... الخ. أما سنية صالح فأتت في الاتجاه المعاكس. قالت ما لم يقولوه، وكتبت بلغة لم يكتبوا فيها. وعوضاً من أن ترى الإيديولوجيات التبشيرية، رأت العالم يتساقط كبناء تعرّض لزلزال. وعوضاً من أن ترى الناس باعتبارهم "جماهير" و"شعباً"، رأت الإنسان الفرد يوالي انعزاله وتصدعه وفقدان علاقته بالعالم. وعوضاً من أن ترى العالم بيقينية إيديولوجية وتبشيرية، رأته بفقدان ثقة وبريبة وبشك وبتساؤلات شديدة العمق، وشديدة الكآبة أيضاً. إذ إن رؤياها "تفترق عن الرؤى... يومذاك"، على ما تقول خالدة سعيد في تقديمها لأعمال سنية صالح الكاملة. وتتابع الناقدة القادرة أنه في هذه الرؤيا "تتقدم حشود الأجنة والأطفال والدمى وأسراب الملائكة كالعصافير وجياد من الثلج ونساء مهانات وشعراء ومهرجين وعشاق وعبيد وأبطال حكايات وثوار خائنين" (ص 16). هذا العالم الأحشائي، الغائر، الغامض، والسري، هو العالم الذي لم تنفك الشاعرة العظيمة عن الحفر والتنقيب فيه وكتابته بحساسية شعرية نادرة، وهذا منح شعرها القدرة الفائقة على أخذ قارئه إلى عزلة لا تضاهى، وكآبة واخزة، وبكاء نشيجي. لكنه يضعه في قلب المستقبل، إذ إن سنية صالح تكتب في ما بعد، في المستقبل.
فاقم صعوبة مهمتها من جهة، وأضاف الى شعرها تلك الخصوصية في حقل الشعر العربي، وذلك الوخز الناعم والمختبئ في تلقيها، كونها امرأة في مجتمع لم يتوان عن النظر، بلا هوادة، إلى فعل الكتابة باعتباره ذكورياً، وعن النظر إلى الشعر باعتباره فحولياً. فلم تغيّر الشاعرة طبيعة المقولات فحسب، إذ إن هذه لا تتغيّر من تلقاء نفسها، بل غيّرت الطريقة المتبعة في استعمال اللغة باعتبارها مكان سكنى العالم، والأفق الذي يُكتشف ويُبنى فيه. وربما هذا ما جعل قارئ سنية صالح يشعر بالانزواء والعزلة والرغبة الحارقة بالنحيب، إذ إنه، ربما، للمرة الأولى ينظر إلى العالم من وجهة نظر أنثوية، أو ينظر إليه بوصفه أنثى. إذ إنها، كما تقول خالدة سعيد، كتبت بلسان "الجوهر الأنثوي الخالق المطعون المسحوق عبر التاريخ..." وإنها "تبني المشهد الهائل للجسد الأنثوي في مصارعه وتحولاته ومعجزاته" (ص17).
لن يمر الموضوع ببساطة. أن تتجرأ امرأة على دخول مقر الرجال المحمي بحرّاس أشداء، وتخلخله وتغيّر موازينه، وتنتزع اعترافاً (جائزة "النهار" 1961 عن قصيدة "جسد السماء")، فذلك شأن خطير ولن يمر من دون عقاب. واجتمعت البطريركية كلها، وقررت القرار الفاجع الذي دمغ الثقافة العربية بدمغة سوداء، وتسبب للقصيدة العربية في مستوياتها العليا بجرح لم يزل نازفاً، وأفقدها إمكانا مهما لأن تكون أكثر رحابة وغنى وتنوعاً، هذا القرار هو إقصاء سنية صالح من بستان الله: الشعر.
صدور "الأعمال الكاملة" لها (شعر، قصة، مقالات نقدية، حوارات) يمكن اعتباره مناسبة للاحتفاء، بلا انقطاع وبلا هوادة، بهذه الشاعرة التي كتبت، تحت العلاج الكيميائي "ذكر الورد"، واحداً من أهم الكتب الشعرية العربية وأخطرها على الإطلاق. وهي مناسبة، ليس لإعادتها إلى بستان الله فحسب، بل لتسليمها مفاتيحه (مع أن قراءة سنية صالح لا تحتاج الى مناسبة). وما جعل "الأعمال الكاملة" كاملة حقاً، هو المقدمة التي كتبتها خالدة سعيد باقتدار وحب كبيرين.
تشكل "الأعمال الكاملة" فرصة ذهبية للقارئ المحترف لأن يقرأ ويعيد ترتيب منظومته الشعرية والمعرفية، ويعيد ترتيب نظام الإشارات لديه.
قراءة سنية صالح قراءة الحياة من الجهة الأخرى.
خضر الآغا
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد