لماذا صمد النظام السوري

16-05-2014

لماذا صمد النظام السوري


الجمل ـ *برونو غيغ ـ ترجمة: "ستاليني"

هل مازال بالإمكان الحديث عن الأزمة السورية بشكل عقلاني؟ إننا نشك بذلك بسهولة لدى سماعنا الإبتهالات المتواصلة من الأكاذيب التي تحاصرنا من كل حدب وصوب وكأنها حقائق أولية عبر وسائل الإعلام العاملة غب الطلب . ولكن الوقائع هي الوقائع, إنها "عنيدة" ومقاومة لكل صنوف الإنكار الملحاح.
إنهيار الرواية الرافعة
منذ صيف العام 2011 تحتفي جوقة إفتتاحيات الصحافة الغربية بجنازة السلطة الدمشقية على شاكلة العناوين التالية: "الطاغية الدموي الذي يبيد شعبه", ألم تتم إدانة الرئيس السوري سلفاً؟ لو صدقناهم فإنه على وشك تسليم الروح. إن الإنهيار النهائي المنتظر هو مسألة أشهر لا بل أسابيع. وكما حدث في تونس ومصر وليبيا فإن الثورة المظفرة سوف ترسل الطاغية المستبد إلى مزبلة التاريخ.
في هذه الحرب الأهلية تم البحث بشكل عنيد وبطريقة "تبسيطية" لإظهارها كأنها حرب شخص واحد ضد الجميع. لكن هذه الرواية الرافعة سرعان ما انهارت مثل قصر من أوراق اللعب. لقد بقي سيناريو السقوط الحتمي لنظام متهالك نخره الفساد والقمع صورة ذهنية لا أكثر. بالرغم من الضغوط الداخلية والخارجية غير المسبوقة فقد صمد النظام السوري جيداَ.
بدفع من حكومات النفط الملكية في الخليج أحلت المعارضة السورية رغباتها محل الوقائع. وأنزلت إلى الشارع حشوداً من الذين أفقرتهم الأزمة الإقتصادية بهدف خلق توازن حاسم للقوى يكون ضمانة لنصر سريع. وبسبب العمى الذي تسبب به النجاح المذهل للثورة التونسية والمصرية لم تر المعارضة في بشار الأسد إلا بقايا من ماض يجب كنسه بواسطة التمرد. وبذلك دفعت المعارضة النظام البعثي إلى التخندق وإلى رد الفعل العنيف. بما أن ظهره إلى الحائط لم يبق للنظام من خيار سوى الإنتصار أو الموت. إن إختيار النظام للحل العسكري لا يفاجئنا بسبب موقف المعارضة وأيضاً بسبب تاريخه الخاص. منذ انقلاب 1970 فإن السلطة تتركز في أيدي مجموعة عسكرية ـ مدنية لا ترغب بتقاسمها مع أحد. إن إحتكار حزب البعث شبه الكلي للسلطة تم تنظيمه في إطار تحالف يجمع مختلف عائلات القومية العربية. وعلى القمة تمثل عشيرة الأسد مفتاح قنطرة السلطة.
إن مسؤولية دمشق في سفر الصراع الحالي بديهية, إنه نظام تسلطي ضاعت شرعيته الإيديولوجية عبر منظومة عشائرية وأظهر أنه عاجز عن تقديم بديل عن الوضع السائد. وفوق ذلك فقد ارتكب الخطيئة بتطبيقه منذ عشر سنوات وصفات صندوق النقد الدولي الليبيرالية في سياق أزمة إقتصادية فاقمها تتابع مواسم من الجفاف. ومن هذه الزاوية فإن الحرب الأهلية هي ثمرة لا مبالاته.
قام النظام بتقديم تنازلات عديدة مهمة خلال ربيع وصيف العام 2011: تعديل الدستور بحيث انتهى احتكار حزب البعث للسلطة, العفو والإفراج عن المعتقلين, تدابير ضريبية واجتماعية سخية, تنظيم انتخابات تشريعية. قامت المعارضة برفض هذه الإجراءات بإحتقار. لقد جرى كل شيء في تلك المرحلة كما لو أن خصوم النظام الواثقين بإسقاطه قد اختاروا اختبار الشارع كوسيلة لإنتصار القضية. لكن المسيرات الجماهيرية الضحمة المؤيدة التي جرت في دمشق وحلب وطرطوس ما بين حزيران وتشرين الثاني عام 2011 أجبرت المعارضة على الحذر. بالرغم من تآكل القاعدة الإجتماعية الريفية التي اهتزت بفعل الأزمة الإقتصادية فإن النظام البعثي لا زال يحافظ على شرعية شعبية.إن معاناة سكان الضواحي من رد فعل السلطات المحلية التسلطي أدى إلى الغليان, ولكن شرائح واسعة من سكان المدن الكبرى والتي أقلقها دفع الإحتجاجات وصعود الإسلام السياسي بقيت موالية ومؤيدة للنظام.

الكراهية الطائفية, رباط المعارضة

بتبني الإيديولوجيا العلمانية القومية العربية البعثية اصطدمت السلطة منذ قيامها بالعدائية الصريحة للإخوان المسلمين.و مع صعود موجة الإسلام السياسي أنكر الأخوان شرعية السلطة وتبنوا منذ نهاية السبعينيات استراتيجية تقوم على التمرد المسلح تمت ترجمتها من خلال موجة من التفجيرات الكبيرة. إن أهوال الحرب الأهلية الحالية تمتد جذورها في هذا المناخ من الصراع ما بين الحراك الإسلامي والنظام القومي منذ ثلاثين عاماً.
أثناء الحديث عن الأسباب الأصلية للأزمة يتم عموماً نسيان أمر مهم: الحرب الأهلية لم تبدأ عام 2011, ولكن في 16 حزيران 1979. في ذلك اليوم قامت عناصر مسلحة من الإخوان المسلمين بقتل 83 طالب ضابط علوي في مدرسة المدفعية في حلب. استدعت تلك المجزرة التي طالت قلب النخبة العسكرية قمعاً قاسياً بلغ ذروته في حماة, عام 1982, عندما سحق الجيش النظامي التمرد المسلح الذي قام به فصيل تابع للإخوان المسلمين وأدى إلى تصفية مائة من الكوادر المحلية لحزب البعث.
بالإضافة إلى ذلك ترتدي ضربة حلب عام 1979 بعداً تحذيرياً: إنها تنبئ بمناخ الكراهية الطائفية الذي يسود اليوم في سوريا والعراق. باستبعادهم السنة قام الخاطفون بدون خجل بعملية "تطهير طائفي" تقدم الحرب الحالية أبشع الأمثلة عنها . يجب أن يكون المرء أعمى حتى لا يرى أنه : في الماساة الدامية التي تضرب الشعب السوري, أصبحت كراهية " الكفر العلوي" بمثابة الرابط الإيديولوجي للمعارضة.
هذه المعارضة وبسبب تطرفها لم تعط النظام المبرر الذي يحلم به للتصلب فحسب: عندما يكون المطلوب إزالتك من الوجود علام التفاوض إذن؟ بل الأخطر من ذلك إنها وبشكل متعمد قامت بتحويل النضال السياسي إلى حرب دينية. وفي حالة كهذه من صعود التطرف المبرر بالنقاء المذهبي, من السخافة القول أن الطرفين يتقاسمان الأخطاء لأن النظام السوري وحلفاؤه في حزب الله لم يقوموا أبداً بإزكاء نار الكراهية الطائفية التي ينشرها يوماً بعد يوم الدعاة السعوديون الذين ينتشون بالإنتقام.
إن النظام السوري محايد على الصعيد الطائفي وهو يستفيد من الدعم بلا حدود الذي تقدمه السلطات الدينية السنية ومختلف الكنائس المسيحية. إن هذا النظام ,الذي تصفه الصحافة الغربية بأنه "علوي" مرددة القوالب الوهابية, ليس فقط حامي للأقليات بل هو ضمانة وجودها وحياتها كما تؤكد التجربة المريرة للسكان المتواجدين في مناطق يسيطر عليها المسلحون. ولا داع للتساؤل عن أي مستقبل يمكن أن يأمل به العلويون والشيعة والدروز والمسيحيون والأكراد في بلد تحت حكم القاعدة.

القطع مع الخطاب السائد المشوه

لفهم الصراع السوري يجب القطع مع التشوه الموجود في الخطاب السائد. إنهم يريدون إقناعنا بكل السبل أن الحرب التي تدمي سوريا منذ ثلاث سنوات هي بين نظام مكون من الجلادين ومعارضة متحمسة بشدة للديمقراطية. إن شيطنة النظام السوري وتحميله العار على جرائمه الشنيعة هي خرافة غربية وهي تمنح المتمردين المسلحين في نفس الوقت البراءة الأخلاقية والحل من الإثم. وقد رأينا في هذا الإطار الوظيفة الجوهرية التي لعبها الإتهام بالمجزرة الكيماوية حيث لم يتم الإهتمام بما أدلت به كارلا ديل بونتي الموظفة الرفيعة في الأمم المتحدة من تجريم للمتمردين منذ ربيع 2013 ولا بما أكده الخبيران من معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا الشهير جداً بأن الهجوم الكيميائي بتاريخ 21 آب 2013 أتى من مناطق المتمردين ولا بما قام به الصحفي الكبير سيمور هيرش من إدانة لأكاذيب المخابرات المركزية الأمريكية: إن التلاعب بالراي العام العالمي يتطلب تجريم نظام دمشق.
في نفس الوقت يتم العمل بسرعة على اسدال ستار من العفة على الأعمال الشائنة للمتمردين. إن الأعمال الوحشية التي ترتكبها الفصائل الجهادية, من قاطعي الرؤوس وآكلي الأكباد تخضع لحسابات الربح والخسارة في تغطية إعلامية تقوم بالفرز بين ضحايا جيدين وضحايا سيئين.لقد قرأنا في جريدة لوموند مثلاً أن الأعمال الوحشية التي قام بها المتمردون في معلولا هي من إختراع دمشق في الوقت نفسه الذي كان التلفزيون السوري يبث صوراً عن جنازات المسيحيين المدنيين ضحايا الهجوم الذي قامت به جبهة النصرة. إن هذه القراءة المشوهة الشائعة في معظم وسائل الإعلام الغربية عن الأزمة السورية أظهرت تفاهتها. لقد انقشع ستار الدخان عن معارضة سورية غير ديمقراطية أومتسامحة، فظهرت جحافل من المتعصبين الآتين من كل حدب وصوب لإرتكاب المجازر بالعلويين. وفي حين يتم الإستمرار بعرض بعض المفكرين المحترمين أمام الكاميرات وهم من المنفيين منذ مدة طويلة من أجل إضفاء المصداقية على معارضة خيالية يمكن التعايش معها يعلم الجميع من الذي يقود المسلحين في الميدان, وقد أصبحت أسطورة " الجيش السوري الحر", هذه القوقعة الفارغة, قديمة منذ زمن طويل. هل يجب علينا خداع أنفسنا بأن نصدق أن هؤلاء المتمردين جاهزون للمشاركة في عملية سياسية؟ إن ايديولوجيتهم الطائفية المعجونة بالكراهية الطائفية وممارساتهم العنيفة وانحرافاتهم المافيوية قد أثبتت العكس تماماً. حسب الإحصاءات التي يقدمها بشكل منتظم المرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو هيئة مقربة من المعارضة، فإن القوات الموالية للنظام هي التي تتكبد الخسائر الأفدح. علينا الإعتراف أننا أمام إبادة للجنس غريبة بعض الشيء حيث يموت من الجلادين عدد أكبر من ضحاياهم المفترضين.
من المؤكد أن نظام دمشق مازال لديه من الجنود المستعدين للموت من أجل الدفاع عن بلدهم الذي يتعرض لعدوان من قبل جماعات الجهاد العالمي الخارجين عن القانون والذين يخدمون كجيش من المشاة لدى القوى الغربية وملكيات البترول الفاسدة. منذ صيف 2013 يستعيد الجيش العربي السوري شيئاً فشيئاً الميدان في المحور الذي يربط دمشق بحلب عبر حمص واللاذقية وهو عصي على الإنهيار ويده هي العليا حتى و لو كانت السيطرة على الحدود الشمالية والشرقية وهي طرق استيراد المرتزقة الوهابيين ليست بيده حالياً. إن الحكمة تتطلب حتماً ان نقول أن الهجوم الناجح الذي تقوم به القوات الموالية يعزى إلى عوامل خارجية. لكن سيكون أكثر دقةً أن نقول أن المساعدة العسكرية التي يقدمها حزب الله والدعم المالي الإيراني وشحنات السلاح الروسية قد أدت إلى التوازن في مواجهة النفوذ المضاد الذي مثله هذا التحالف العملاق الدولي الذي أقسم منذ البداية على إسقاط النظام. لأن سوريا البعثية هي العقدة المركزية في محور المقاومة فقد تم وضعها على المفكرة الغربية الخاصة بالدول المارقة المعرضة لعدم الإستقرار (راجع مثلاً "لماذا تثير سوريا غضب أسياد العالم").
كميات هائلة من البترودولار قد تم صرفها على الفصائل الجهادية, شحنات الأسلحة الأمريكية الممولة من قطر, مساعدات عسكرية تركية على الحدود الشمالية, تعاون أجهزة الإستخبارات الغربية, عقوبات إقتصادية ظالمة وقاسية, تهديدات أمريكية وفرنسية, قصف اسرائيلي: كل تلك الوفرة الإستثنائية بالوسائل لم تؤد إلى سحب الروح من النظام البعثي. من الواجب علينا أن نقر أخيراً أن هذا النظام قد قاوم بهذه الطريقة وبدون أدنى شك لأن هناك جزء كبير من الشعب السوري يجد أسباباً كثيرة لدعم هذا النظام رغم كل أخطائه.

*برونو غيغ
28-نيسان-2014
برونو غيغ: خريج المدرسة الرسمية العليا وخريج المدرسة الوطنية للإدارة و كاتب لعدة مؤلفات من بينها " أسباب العبودية" (صادر عن دار النشر أرماتان, عام 2001) و كتاب " في جذور الصراع الإسرائيلي-العربي, عذاب الضمير الخفي للغرب" ( صادر عن دار النشر أرماتان, عام 2002).*ستاليني: اسم حركي لأحد قراء "الجمل"
المصدر : http://www.silviacattori.net/article5538.html
رابط المقال:
http://www.legrandsoir.info/pourquoi-le-regime-syrien-a-tenu-bon.html

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...