رسالة انتحار
نبيل صالح: فوجئت مؤخرا بانتشار نص لي كنت قد نشرته في جريدة تشرين في 22 / 8 / 1990 بعنوان "فان غوغ يكتب رسالته الأخيرة" حيث تناقله مئات الناس على صفحات التواصل والمنتديات والإذاعات وكتب عنه نقاد مختصون في الصحافة المصرية والمغربية والأردنية والخليجية .. كما سجله العشرات بصوتهم على اليوتيوب تحت عنوان "رسالة انتحار" أو "الرسالة الأخيرة" معتقدين أن فان غوغ هو كاتب الرسالة رقم 66 وأنها وجدت في جيبه بعد انتحاره في تموز 1890 أي قبل مئة عام من كتابتي لها.. والواقع أني عشت حالة من الخيبة بعدما نشرته في "تشرين" ثم أثبته في نهاية كتابي "شغب" لعدم تفاعل أي من الفنانين السوريين مع هذا النص الأدبي الذي هو بمثابة دراسة في اللون الليلكي وعلاقته بالموت والحياة، مع تأويل جديد لانتحار فان غوغ وقطعه لأذنه قبل ذلك، وعمق رؤيته التي تفسر البعد النفسي للوحاته الشهيرة. وقد أدت خيبتي هذه إلى توقفي عن كتابة النقد الفني لأعمال فناني الحداثة في سورية، بل إني قلت لنفسي مواسيا إنهم مجرد ملونين أميين .. وبالعودة إلى النص أذكر أني كنت وقتها متأثرا بالفلسفة الوجودية وقد كتبته بعد تأمل استمر أربعين يوما لخط الأفق لحظة بزوغ الفجر، كنت أعمل وقتها حارسا ليليا لمشروع بناء جديد لصالة مطار دمشق الدولي، والتي تقع على تخوم ريف دمشق الممتدة نحو البادية، في أوائل ثمانينات القرن الماضي.. راقبت أيامها تدرجات الليلكي على خط الأفق، متقمصا شخصية فان غوغ ومتخيلا رسالته الأخيرة إلى أخيه ثيو التي يشرح له فيها سبب إقدامه على إنهاء حياته، وأثبت فيما يلي نصي الملتبس على عشاق فان غوغ وبعض الدراسات الأدبية والفنية والنفسية وحتى الجنائية التي أثارها هذا النص في مجمل البلاد العريية، حتى أن روائية مصرية كتبت رواية تستند على هذا النص بعنوان "بديعة" ! وأضفت في الختام بعض المختارات التي نشرت حوله باعتباره أفضل رسائل فان غوغ ..(التي لم يكتبها):
عزيزي ثيو:
إلى أين تمضي الحياة بي؟ ما الذي يصنعه العقل بنا؟ إنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو االكآبة... إنني أتعفن مللاً لولا ريشتي وألواني هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد.. كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن.. ماذا أصنع؟ أريد أن أبتكر خطوطاً وألواناً جديدة، غير تلك التي يتعثر بصرنا بها كل يوم. كل الألوان القديمة لها بريق حزين في قلبي. هل هي كذلك في الطبيعة أم أن عيناي مريضتان؟ ها أنا أعيد رسمها كيما أقدح النار الكامنة فيها. في قلب المأساة ثمة خطوط من البهجة أريد لألواني أن تظهرها، في حقول "الغربان" وسنابل القمح بأعناقها الملوية، وحتى "حذاء الفلاح" الذي يرشح بؤساً ثمة فرح ما أريد أن أقبض عليه بواسطة اللون والحركة.. للأشياء القبيحة خصوصية فنية قد لا نجدها في الأشياء الجميلة وعين الفنان لا تخطئ ذلك.
اليوم رسمت صورتي الشخصية :
ففي كل صباح، عندما أنظر إلى المرآة أقول لنفسي : أيها الوجه المكرر، يا وجه فانسان القبيح، لماذا لا تتجدد؟ أبصق في المرآة وأخرج ...
واليوم قمت بتشكيل وجهي من جديد، لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أن يكون: عينان ذئبيتان بلا قرار. وجه أخضر ولحية كألسنة النار. كانت الأذن في اللوحة ناشزة لا حاجة بي إليها. أمسكت الريشة، أقصد موس الحلاقة وأزلتها.. يظهر أن الأمر اختلط علي، بين رأسي خارج اللوحة وداخلها... حسناً ماذا سأفعل بتلك الكتلة اللحمية؟ أرسلتها إلى المرأة التي لم تعرف قيمتي وظننت أني أحبها.. لا بأس فلتجتمع الزوائد مع بعضها.. إليك أذني أيتها المرأة الثرثارة، تحدثي إليها... الآن أستطيع أن أسمع وأرى بأصابعي. بل أن إصبعي السادس "الريشة" لتستطيع أكثر من ذلك: إنها ترقص وتب وتداعب بشرة اللوحة...
أجلس متأملاً :
لقد شاخ العالم وكثرت تجاعيده وبدأ وجه اللوحة يسترخي أكثر.. آه يا إلهي ماذا باستطاعتي أن أفعل قبل أن يهبط الليل فوق برج الروح؟ الفرشاة، الألوان.. و.. بسرعة أتداركه: ضربات مستقيمة وقصيرة. حادة ورشيقة.. ألواني واضحة وبدائية. أصفر أزرق أحمر.. أريد أن أعيد الأشياء إلى عفويتها كما لو أن العالم قد خرج تواً من بيضته الكونية الأولى.
مازلت أذكر:
كان الوقت غسقاً أو ما بعد الغسق وقبل الفجر. اللون الليلكي يبلل خط الأفق.. آه من رعشة الليلكي، عندما كنا نخرج إلى البستان لنسرق التوت البري. كنت مستقراً في جوف الشجرة أراقب دودة خضراء وصفراء بينما "أورسولا" الأكثر شقاوة تقفز بابتهاج بين الأغصان، وفجأة اختل توازنها وهوت، ارتعش قلبي قبل أن تتعلق بعنقي مستنجدة. ضممتها إلي وهي تتنفس مثل ظبي مذعور.. ولما تناءت عني كانت حبة توت قد تركت رحيقها الليلكي على بياض قميصي.. منذ ذلك اليوم، عندما كنت في الثانية عشرة، وأنا أحس رحيقها الليلكي على بياض قميصي.. منذ ذلك اليوم وأنا أحس بأن سعادة ستغمرني لو أن ثقباً ليلكياً انفتح في صدري ليتدفق البياض.. يا لرعشة الليلكي ..
الفكرة تلح علي كثيراً فهل أستطيع ألا أفعل؟
كامن في زهرة عباد الشمس، أيها اللون الأصفر يا أنا. أمتص رحيقي من شعاع هذا الكوكب البهيج. أحدق وأحدق في عين الشمس، حيث روح الكون، حتى تحرقني عيناي. شيئان يحركان روحي : التحديق بالشمس، وفي الموت.. أريد أن أسافر في النجوم وهذا البائس جسدي يعيقني! متى سنمضي، نحن أبناء الأرض، حاملين مناديلنا المدماة .. ولكن إلى أين؟ - إلى الحلم طبعاً.
أمس رسمت زهوراً بلون الطين ..
بعدما زرعت نفسي في التراب، وكانت السنابل خضراء وصفراء تنمو على مساحة رأسي وغربان الذاكرة تطير بلا هواء. سنابل قمح وغربان. غربان وقمح.. الغربان تنقر في دماغي. غاق.. غاق.. كل شيء حلم، هباء أحلام، وريشة التراب تخدعنا في كل حين.. قريباً سأعيد أمانة التراب، وأطلق العصفور من صدري نحو بلاد الشمس.. آه أيتها السنونوة، سأفتح لك القفص بهذا المسدس: القرمزي يسيل. دم أم نار؟
غليوني يشتعل:
الأسود والأبيض يلونان الحياة بالرمادي. للرمادي احتمالات لا تنتهي: رمادي أحمر، رمادي أزرق، رمادي أخضر. التبغ يحترق والحياة تنسرب. للرماد طعم مر بالعادة نألفه، ثم ندمنه، كالحياة تماماً: كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلقاً بها.. لأجل ذلك أغادرها في أوج اشتعالي.. ولكن لماذا؟! إنه الإخفاق مرة أخرى. لن ينتهي البؤس أبداً...
وداعاً يا ثيو، سأغادر نحو الربيع.
نبيل صالح
خارج السرب: أيهم محمود
أعيد نشر هذا النص بعد استلامي رسالة قصيرة من نبيل صالح هذا نصها:
“هذا النص لي، كتبته قبل 15 عاما ونشرته في كتابي ” شغب” المطبوع بدمشق سنة 2006 يرجى إثبات الإسم والمصدر لما ينشر لديكم احتراما للحقوق الضائعة في هذا الوطن المضيع والسلام“
النص المنشور في موقعنا بعنوان ” رسالة (فان كوخ) الأخيرة “، و قد قرأته منذ زمن طويل في جريدة سورية و احتفظت بقصاصة الجريدة طيلة أكثر من خمسة عشر عاماً مع سؤال لم أستطع الإجابة عليه طيلة هذه المدة، هل هي نص أدبي أم ترجمة لرسالة فان كوخ الأخيرة؟. وقتها لم يكن يوجد انترنت و يصعب التحقق من هذه المعلومة.
تذكرت النص قبل بضعة أشهر و بحثت في الانترنت، عشرات المواقع ذكرته على أنه رسالة فان كوخ الأخيرة، ظننت أني حصلت على الجواب إذ ليس من المعقول أن تنشر مواقع مختلفة نصاً سبق أن نشر في جريدة سورية قبل خمسة عشر عاماً و تنسبه جميعها لفان كوخ.
عندما وصلتي رسالة نبيل صالح بحثت في أوراقي القديمة، كان هذه النص هو الورقة اليتيمة التي احتفظ بها لنص أدبي، النص ساحر بكل معنى الكلمة و شفاف و تشعر عندما تقرأه أن فان كوخ يحدثك و انه لم يمت، و أن ريشته تطاردك بألوانها و بضياع صاحب اليد التي تحركها، يخبرني الكاتب أنه نشرها في شغبه، و أخبره أن شغبه أصابني بالحيرة طيلة خمسة عشر عاماً عشت فيها مع صورة متخيلة لرسام يفتح جرحه على ورقة قبل أن يطلق على نفسه النار.
و رغم أن الكاتب معروف و لن ينشر تعقيباً على النص في موقعنا إلا في حال صحة ما قاله، رغم هذا عدت لأرشيف رسائل فان كوخ و قرأت رسالته الأخيرة و سأوردها بعد النص العربي، لم أكن أريد للصورة التي عاشت معي أن تموت، أردت أن أبحث في النص الانكليزي عن الكلمات الساحرة، الرسالة غنية ….لكنها ليست كالتي عاشت معي.
أورد الحكاية كما حدثت معي و أصحح بداية النص العربي و أضع “بقلم: نبيل صالح“، كما أضع صورة لقصاصة الورقة التي احتفظت بها و آثرت أن أصورها بالكاميرا لكي تحافظ على لونها القديم، كما أضع روابط كل رسائل فان كوخ و نص رسالته الأخيرة، و أضع في النهاية اعتذاراً للمؤلف و أنهي بذلك فصلا من فصول شغبه!؟.
أيهم محمود – فريق التحرير – خارج السرب
2011-08-26
حقيقة رسالة فان غوغ الأخيرة
سهيلة الزين: الرباط برس
جميعنا في يوم ما قرأنا الرسالة الشهيرة للفنان فان غوخ والتي يختمها ب"وداعا ثيو سأغادر نحو الربيع"، وهي الرسالة التي أخذت شهرة واسعة، لكن اتضح مؤخرا أن هاته الرسالة ليست رسالة أصلية من تأليف فان غوخ كما يعتقد البعض.
حاولنا البحث في تفاصيل الموضوع فوجدنا أنه في سنة 1980 أصدرت وزارة الثقافة السورية ترجمة لكتاب جامع لرسائل فان غوخ سبق ونشرها متحف فان غوخ الرسمي، ومن المفروض أن يحتوي الكتاب على 65 رسالة فقط كتبهم لأخيه ثيو ولا وجود للرسالة 66، وحقيقة الأمر أن الكاتب السوري (نبيل صالح) الذي قام بترجمة جميع الرسائل هو من كتب الرسالة الأخيرة من خياله فقط وأضافها للكتاب واشار الى ذلك بالفعل في الكتاب بشكل غير مباشر.
لكن ولأن الكاتب نفسه لم يتحدث في الأمر كثيرا، أصبح من الشائع أن هذا نص أصلي لرسالة فان غوخ الاخيرة، في حين انه نص أدبي مستقل تماما عن نصوص فان جوغ.
النص المشهور يبتدء بـ: "إلى أين تمضي الحياة بي؟ ما الذي يصنعه العقل بنا؟ أنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة". ويختتم بـ: "وداعاً يا ثيو، سأغادر نحو الربيع".
المحزن في الأمر هو أن الموضوع ارتبط في ذهن أناس كثر بأن النص من كتابة (فان جوخ) لأن نص الرسالة عبقري فعلا، وقادر عل خلق الشعور بالتعاطف والخوف والحزن، قادر على منحك مشاعر متدفقة.
المميز في الرسالة هو البعد عن رتابة الترجمات العادية التي تقتل في النصوص جمال اللغة العربية وقوة التشبيهات فيها واختيار الكلمات متناسق ودقيق/ وهذا كان سببا في انتشارها لأكتر من 30 سنة.
لكن في النهاية فإن حياة (فان جوخ) ونهايته ومآساته مؤثرين وفيهم ما يكفي من الدراما ورسائله الأصلية فيهم من البلاغة والإبداع الذي يمكن مقارنته بأعمال أدبية كبيرة، وربما أن هذا هو السبب الأساسي الذي استفز الكاتب "نبيل صالح" أدبيا وجعله يكتب بلسان (فان جوخ) رسالته الأخيرة.
رسائل فان جوخ الرائعة:
د. خالد المنتصر: المصري اليوم ـ الإثنين 1 ـ 11 ـ 2010 :
أعشق كتب السيرة الذاتية، خاصة الكتب التى تحتوى على خطابات كتبها المبدع الفنان، وفى رأيى الشخصى المتواضع أن أعظم كتاب خطابات فى العالم على مدى التاريخ هو الكتاب الذى جمع رسائل فان جوخ، وأهمها رسائله إلى أخيه ثيو.. إنها رسائل لا تقل روعة عن لوحاته، ولا ثراء وبؤساً عن حياته، إنها تهزك من الأعماق ولا يمكن أن تكون نفس الشخص بعد قراءتها، للأسف هذه الرسائل لم تترجم بعد إلى اللغة العربية، وأطلب من د. جابر عصفور أن يكون مشروعه المقبل فى مركز الترجمة تقديم هذه الوجبة الدسمة الرائعة من الرسائل للمتعطشين لفن فان جوخ، ليكون بمثابة اعتذار إلى هذا الفنان عما قاله فنان مصرى وأمّن عليه وزير مصرى بأن لوحة زهرة الخشخاش زبالة!
سأنسحب من المشهد وأترك لكم بعض الاقتباسات من خطاب فان جوخ الأخير إلى أخيه قبل انتحاره، ومن يرد الاطلاع على كل تلك الخطابات، عليه زيارة هذا الموقع البديع الذى يوثق تلك الخطابات باليوم والمكان والاسكتش
http://vangoghletters.org/vg/letters.html
يقول خطاب فان جوخ الأخير: «عزيزى ثيو: إلى أين تمضى الحياة بى؟ ما الذى يصنعه العقل بنا؟ إنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة، إننى أتعفن مللاً لولا ريشتى وألوانى هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد.. كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن، ماذا أصنع؟، أريد أن أبتكر خطوطاً وألواناً جديدة، غير تلك التى يتعثر بصرنا بها كل يوم، كل الألوان القديمة لها بريق حزين فى قلبى، هل هى كذلك فى الطبيعة أم أن عيناى مريضتان؟، ها أنا أعيد رسمها كما أقدح النار الكامنة فيها.
فى قلب المأساة ثمة خطوط من البهجة أريد لألوانى أن تظهرها، فى حقول «الغربان» وسنابل القمح بأعناقها الملوية، وحتى (حذاء الفلاح) الذى يرشح بؤساً.. ثمة فرح ما أريد أن أقبض عليه بواسطة اللون والحركة، للأشياء القبيحة خصوصية فنية قد لا نجدها فى الأشياء الجميلة وعين الفنان لا تخطئ ذلك، اليوم رسمت صورتى الشخصية.. ففى كل صباح، عندما أنظر إلى المرآة أقول لنفسى: أيها الوجه المكرر، يا وجه فانسان القبيح، لماذا لا تتجدد؟ أبصق فى المرآة وأخرج، واليوم قمت بتشكيل وجهى من جديد، لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أن يكون، عينان ذئبيتان بلا قرار، وجه أخضر ولحية كألسنة النار، كانت الأذن فى اللوحة ناشزة لا حاجة بى إليها، أمسكت الريشة، أقصد موس الحلاقة وأزلتها، يظهر أن الأمر اختلط على، بين رأسى خارج اللوحة وداخلها..
حسناً ماذا سأفعل بتلك الكتلة اللحمية؟، أرسلتها إلى المرأة التى لم تعرف قيمتى وظننت أنى أحبها.. لا بأس فلتجتمع الزوائد مع بعضها.. إليك أذنى أيتها المرأة الثرثارة، تحدثى إليها.. الآن أستطيع أن أسمع وأرى بأصابعى. بل إن أصبعى السادس «الريشة» لتستطيع أكثر من ذلك: إنها ترقص وتداعب بشرة اللوحة. أجلس متأملاً: لقد شاخ العالم وكثرت تجاعيده وبدأ وجه اللوحة يسترخى أكثر.. آه يا إلهى، ماذا باستطاعتى أن أفعل قبل أن يهبط الليل فوق برج الروح؟، أريد أن أعيد الأشياء إلى عفويتها كما لو أن العالم قد خرج تواً من بيضته الكونية الأولى.
أمس، رسمت زهوراً بلون الطين بعدما زرعت نفسى فى التراب، وكانت السنابل خضراء وصفراء تنمو على مساحة رأسى، وغربان الذاكرة تطير بلا هواء، سنابل قمح وغربان، غربان وقمح، الغربان تنقر فى دماغى، كل شىء حلم، هباء أحلام، وريشة التراب تخدعنا فى كل حين، قريباً سأعيد أمانة التراب، وأطلق العصفور من صدرى نحو بلاد الشمس، سأفتح لك القفص بهذا المسدس، القرمزى يسيل، دم أم النار؟، غليونى يشتعل، الأسود والأبيض يلونان الحياة بالرمادى، التبغ يحترق والحياة تتسرب، للرماد طعم مر، بالعادة نألفه، ثم ندمنه، كالحياة تماماً.. كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلقاً بها، لأجل ذلك أغادرها فى أوج اشتعالى، ولكن لماذا؟.. إنه الإخفاق مرة أخرى. لن ينتهى البؤس أبداً، وداعاً يا ثيو، سأغادر نحو الربيع».
(أفضل قراءة عثرت عليها عن النص)
نهاية «فان جوخ»: حادثة انتحار أم قتل بالخطأ
علي رضا: إضاءات
التبغ يحترق، والحياة تنسرب. للرماد طعم مر بالعادة نألفه، ثم ندمنه، كالحياة تمامًا: كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلقًا بها.. لأجل ذلك أغادرها في أوج اشتعالي.. ولكن لماذا؟! إنه الإخفاق مرةً أخرى. لن ينتهي البؤس أبدًا… وداعًا يا ثيو، سأغادر نحو الربيع.
الاقتباس السابق هو السطور الأخيرة في نص أدبي بعنوان «رسالة فان جوخ الأخيرة» للكاتب السوري «نبيل صالح»، إلا أن النص انتشر على أنه رسالة انتحار فان جوخ، الفنان الهولندي الشهير، التي كتبها بنفسه؛ ربما ذلك لأن الرسالة تحتوي على إشارات لأشهر أعمال فان جوخ وعلى بعض أقواله وبعض الاقتباسات من رسائله، في إطار أدبي قوي. فإذا لم تكن رسالته الأخيرة، فهي الملخص الأخير لحياته.
لكن الحياة التي تصفها تلك السطور حياة قاسية أليمة؛ يتقلب فيها صاحبها بين الأزمات العقلية والنفسية. وربما كانت مبررًا كافيًا لانتحاره في السابعة والثلاثين من عمره. إلا أن هناك نظرية بديلة تنتشر بقوة في الفترة الحالية، ومفادها أن فان جوخ لم ينتحر بل قُتل. لكن قبل أن نبحث في هذا السؤال، لابد أن نستعرض سيرة حياة فان جوخ، أشهر شهيد في تاريخ الفن، لأنه لا يمكن فهم النهاية إلا بفهم الطريق إليها من بدايته.
سيرته الذاتية
ولد فينسنت فان جوخ في مقاطعة ........الخ
رسايل فان جوخ لاخيه قبل انتحاره
تعتبر رسائل فان جوخ خير شاهد على جميع لحظات ومراحل حياته ابتداء من عام 1882م ، وكان معظم تلك الرسائل موجها إلى أخيه ثيو الذي كان يساعده بلا كلل ولا ملل وبجميع الطرائق الممكنة ، والذي لم يفقد الثقة به يوما من الأيام ، والذي لم يتحمل البقاء بعده حيا فمات بعد أقل من ستة أشهر من موت أخيه بعد أن تدهور عقليا وبدنيا . وهناك أيضارسائل أخرى من "فان جوخ" إلى صديقه "أميل برنارد" ، ولكنها لم تنشر إلا في عام 1950م . وهناك رسائل قليلة موجهة منه إلى والدته وإلى أخته. ومن رسائله يستطيع المرء إدراك رقته المنقطعة النظير وعطفه العميق وقصر نفسه بصورة كاملة على مثله الأخلاقية والفنية .
ويمتلك متحف فان كوخ الذي يقع في امستردام على 700 رسالة كتبها فنسنت فان كوخ ومعظمها كانت موجهة إلى أخيه ثيو . وحصل متحف فان كوخ من جامع تحف على مجموعة من 55 رسالة جديدة كتبها الرسام الهولندي. وقال المتحف إن الرسائل التي تم الحصول عليها حديثاً هي تراسل بين فنانين ولها أهمية كبيرة في فهم آراء فان كوخ وتطوره. وقال المتحف أن فان كوخ كتب الرسائل - التي غابت عن الأعين لمدة 60 عاماً- في الفترة من 1881 إلى 1885 إلى الفنان الهولندي انطون فان رابارد الذي كان يعيش في بروكسل. وفي الرسائل التي تضمنت بعض الرسوم لفان كوخ تبادل الفنانان النقاش بشأن أعمال كل منهما وأعمال أدبية وفنية أخرى. وضعّفت عرى الصداقة بين فان كوخ ورابارد بعد أن انتقد الأخير بشكل غير مألوف لوحة فان كوخ آكلو البطاطس وتوقفت الرسائل فيما بينهما فيما بعد .
اعتاد الفنان فنسنت فان كوخ-1853-1890- على مكاتبة أخيه ''ثيو'' طيلة اشتغاله على غمر أيامه ولياليه بالبياض المتجاسر على موهبة اللون واندفاعه، طيلة تلك السنوات كاد يبوح وهو يكتب ما يأسره، كاد يفشي ما لا يعرفه . واليكم الرسالة الأخيرة التي كتبها فنسنت فان جوخ إلى أخيه "ثيو" والتي وجدت في جيبه في اليوم الذي مات فيه هو اليوم التاسع والعشرون من يوليو/ تموز عام 1890م .
عزيزي ثيو:
إلى أين تمضي الحياة بي؟ ما الذي يصنعه العقل بنا؟ أنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو االكآبة... أنني أتعفن مللاً لولا ريشتي وألواني هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد.. كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن.. ماذا أصنع؟ أريد أن أبتكر خطوطاً وألواناً جديدة، غير تلك التي يتعثر بصرنا بها كل يوم. كل الألوان القديمة لها بريق حزين في قلبي. هل هي كذلك في الطبيعة أم أن عيني مريضتان؟ ها أنا أعيد رسمها كما أقدح النار الكامنة فيها. في قلب المأساة ثمة خطوط من البهجة أريد لألواني أن تظهرها، في حقول "الغربان" وسنابل القمح بأعناقها الملوية. وحتى "حذاء الفلاح" الذي يرشح بؤساً ثمة فرح ما أريد أن أقبض عليه بواسطة اللون والحركة... للأشياء لقبيحة خصوصية فنية قد لا نجدها في الأشياء الجميلة وعين الفنان لا تخطئ
ذلك.
اليوم رسمت صورتي الشخصية :
ففي كل صباح، عندما أنظر إلى المرآة أقول لنفسي : أيها الوجه المكرر، يا وجه فانسان القبيح، لماذا لا تتجدد؟ أبصق في المرآة وأخرج ... واليوم قمت بتشكيل وجهي من جديد، لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أن يكون: عينان ذئبيتان بلا قرار. وجه أخضر ولحية كألسنة النار. كانت الأذن في اللوحة ناشزة لا حاجة بي إليها. أمسكت الريشة، أقصد موس الحلاقة وأزلتها.. يظهر أن الأمر اختلط علي، بين رأسي خارج اللوحة وداخلها... حسناً ماذا سأفعل بتلك الكتلة اللحمية؟ أرسلتها إلى المرأة التي لم تعرف قيمتي وظننت أني أحبها.. لا بأس فلتجتمع الزوائد مع بعضها.. إليك أذني أيتها المرأة الثرثارة، تحدثي إليها... الآن أستطيع أن أسمع وأرى بأصابعي. بل أن إصبعي السادس "الريشة" لتستطيع أكثر من ذلك: إنها ترقص وتب وتداعب بشرة اللوحة...
أجلس متأملاً :
لقد شاخ العالم وكثرت تجاعيده وبدأ وجه اللوحة يسترخي أكثر... آه يا إلهي ماذا باستطاعتي أن أفعل قبل أن يهبط الليل فوق برج الروح؟الفرشاة. الألوان. و... بسرعة أتداركه: ضربات مستقيمة وقصيرة. حادة ورشيقة..ألواني واضحة وبدائية. أصفر أزرق أحمر.. أريد أن أعيد الأشياء إلى عفويتها كما لو أن العالم قد خرج تواً من بيضته الكونية الأولى.
مازلت أذكر:
كان الوقت غسقاً أو ما بعد الغسق وقبل الفجر. اللون الليلكي يبلل خط الأفق... آه من رعشة الليلكي. عندما كنا نخرج إلى البستان لنسرق التوت البري. كنت مستقراً في جوف الشجرة أراقب دودة خضراء وصفراء بينما "أورسولا" الأكثر شقاوة تقفز بابتهاج بين الأغصان وفجأة اختل توازنها وهوت. ارتعش صدري قبل أن تتعلق بعنقي مستنجدة. ضممتها إلي وهي تتنفس مثل ظبي مذعور... ولما تناءت عني كانت حبة توت قد تركت رحيقها الليلكي على بياض قميصي.. منذ ذلك اليوم، عندما كنت في الثانية عشرة وأنا أحس رحيقها الليلكي على بياض قميصي.. منذ ذلك اليوم، عندما كنت في الثانية عشرة وأنا أحس بأن سعادة ستغمرني لو أن ثقباً ليلكياً انفتح في صدري ليتدفق البياض... يا لرعشة الليلكي ...
الفكرة تلح علي كثيراً فهل أستطيع ألا أفعل؟
كامن في زهرة عباد الشمس، أيها اللون الأصفر يا أنا. أمتص من شعاع هذا الكوكب البهيج. أحدق وأحدق في عين الشمس حيث روح الكون حتى تحرقني عيناي. شيئان يحركان روحي : التحديق بالشمس، وفي الموت.. أريد أن أسافر في النجوم وهذا البائس جسدي يعيقني! متى سنمضي، نحن أبناء الأرض، حاملين مناديلنا المدماة .. ولكن إلى أين؟ - إلى الحلم طبعاً.
أمس رسمت زهوراً بلون الطين ..
بعدما زرعت نفسي في التراب، وكانت السنابل خضراء وصفراء تنمو على مساحة رأسي وغربان الذاكرة تطير بلا هواء. سنابل قمح وغربان. غربان وقمح...الغربان تنقر في دماغي. غاق... غاق.. كل شيء حلم. هباء أحلام، وريشة التراب تخدعنا في كل حين.. قريباً سأعيد أمانة التراب، وأطلق العصفور من صدري نحو بلاد الشمس.. آه أيتها السنونو سأفتح لك القفص بهذا المسدس: القرمزي يسيل. دم أم نار؟
غليوني يشتعل:
الأسود والأبيض يلونان الحياة بالرمادي. للرمادي احتمالات لا تنتهي: رمادي أحمر، رمادي أزرق، رمادي أخضر. التبغ يحترق والحياة تنسرب. للرماد طعم مر بالعادة نألفه، ثم ندمنه، كالحياة تماماً: كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلقاً بها... لأجل ذلك أغادرها في أوج اشتعالي.. ولكن لماذا؟!إنه الإخفاق مرة أخرى. لن ينتهي البؤس أبداً... وفي نهاية الأمر لن يتحدث عنا سوى
لوحاتنا ..
وداعاً يا ثيو، سأغادر نحو الربيع.
تفردت ''الرسالة الأخيرة '' بطريقة مختلفة لقول الصعب، لصياغة الجمل اللازمة لتعريف سر اللون، علاقته بالطبيعة، حركته الدائمة في نبض روحه المتصاعدة نحو الأعالي، ليس ذلك فحسب بل تفسير السر، السر الذي صاحبه وهو يحيا صعوبة الحياة وندرة الأمل.
هي الرسالة الوحيدة المكثفة بقدرتها على تكسير المشاهد العميقة في ذاكرته. كأنه يكتب لذاته ما سوف يعرفه قبل الموت، أو كأنه يدون ما يعرفه الموت عنه. موهبة متقدة تتخطى لغة المراسلة المكرسة في تلك الحقبة، لكونها لا تتقن تنميق الكلمات، بل لا تصبر على خط حروف لا تكتمل. رسالة غريبة وهي تأتي مبددة توالى المعاني والأخبار، كلمات تمعن في تشويش المعرفة نحو اللون والطبيعة، ممهورة بالرغبة الكامنة في اللحاق بغرابة اللحظة ذاتها.
هكذا قلق وتوتر موصول فعلاً باجتراحات لا بد منها لينضج المشهد أكثر، ذخيرة حقيقية لتعليم الألم، للتدريب على حالة الذعر المصاحب للفن وهو يتجرأ على العالم، أو يحاول تمثيله بأقل الحيل ارتباكاً. مثل هذا المختبر لا يرتكز في عمقه على مبدأ التواصل الأخباري مع الآخر، كما يراه البعض، ولا على تأسيس مكان للذاكرة، بل على تجويد خبرة الموهبة وعلاقتها مع الأدوات التعبيرية ، أراد'' فان كوخ'' حتماً أن يكتب لأخية ليخلق الجسر التواصلي بينه وذاته اولاً، ليعرف مبتغى كل هذا التخريب الحادث لوقته أمام اللوحة ، قبلها، بعدها. كل موهبة لها أن تتقصى مرادها وهي تقرأ رسائله، ببصيرة تماحك بصيرته وتقتص منها بهدوء من يرى. سرد''فان كوخ'' لمشكل الفن التشكيلي ليس الا تعبيراً لفداحة الفن بشكله العام، يتطابق مرتآه مع الفنون الأخرى، تلك الناهضة من القلب لا الورق.
أن تكون “الرسالة الأخيرة” للفنان فان كوخ محملة بهذا السيل من التفاصيل والتفاسير والحدوس حول العملية الفنية، كل هذا القلق والتوتر المتخفي بين السطور، تمثل مشاهد الحياة عبر ادارجها في مخيلته لنرى على اللوحة الجذور الهائجة المتفحمة والغربان المنتشره واللهيب اللوني الذي يستشرف الأفق، الرسالة الأخيرة التى حققها وحيداً قبل الموت، منتحراً في غياب السنابل الذهبية، بعد أن انجز العديد من التجارب الفنية التي تشي بمدى شسع رؤاه.
المذهل في هذه الكتابة التي عاندت الوقت وتنقلت عبر قسوة الاهمال والنسيان التي عانى منها الفنان “فان كوخ”، قدرتها على ايصال حقيقة الموهبة، ومواضع توترها امام البياض الذي يقف بمواجهة ابداع الحياة حيث الحقول والغيوم والاشجار، حيث اللون الحي، تحد مهيب اضطلع به، وضاعفه بتمرير تلك المشاهد كلها عبر مصفاة الذات، عبر نير التجربة الانسانية والروحية لديه، عبر سحل اصابعه لتجيد البوح.
لا مكان امام مثل هذا العمق المبدع لحضور الأنا وزوادته من غرور شائع، موهبة لاهية عن سرد نوازع الذات ومبالغاتها،كما يحدث عند الكثير من الموهوبين الذين ما أن يبدأوا الكتابة عن تجاربهم الفنية، حتى تراهم يتحولون الى مداحين يعددون منجزاتهم وما سعوا لتحقيقة وما قيل عنهم.. الى آخر تلك العناوين الضاجة بالنرجسية ومآلاتها . هكذا نراه دوماً، في كل رسائله التي تناولت اعماله المنجزة، ثمة اشارات تعدت الثمانمائة اشارة نقدية، لم يكن يحاور أخية “ثيو” بل أدغم المشافهة بحديث روحاني خاص مع البياض الخالي منه، اللوحة ببريقها العذب، ذاته المتوجعة، الحياة بكل تفاصيلها المرحة.
مضاهاة الطبيعة تحديه الوحيد، امتيازه النهم وهو لا يتأخر عن كل رصد لتحولاتها، اليأس والانكسار والهزيمة شكلت أهم المعابر التي كان من خلالها يثير المواجهة تلو الأخرى، لم يصب بانهزامات معطلة عن النبوغ الابداعي بالمعنى المتداول بل تحديات وحواجز استطاع مواجهتها فنياً بقوة الموهبة ونفوذ طاقة التعبير التي لا تقهر.
دوماً عندما أتلهى عن وقتى الراهن بقراءة رسائل الموهوبين، اتلقى الدرس مشمولاً بصمت عميق وتركيز على الهدوء الذي يسود كلمات تصوغ تجلياتها، كلما اعيد قراءة السطر اكتشف اختلال المعنى الأول واحتلال المخيلة بمعنى آخر، مختلف وأشد غوراً من الأول، وهكذا لا ينتهي الدرس الذي يتصاعد كما الزوبعة.
وبذات البندقية التي كان يطلق رصاصها في الفضاء، وهو أمام اللوحة ليتحصل على مشهد حقيقي لطيور مذعورة تحلق في الفضاء، طيور تشبه روحه المشتته في عالم لا يعي ما يحدث لهذه الحياة.. شد الزناد على صدغين صامتين على الدوام،
لنقرأ رصاصته الأخيرة
منتدى جمعية تكوين للفنون التشكيليه
اعتاد الفنان فنسنت فان كوخ-1853-1890- على مكاتبة أخيه ''ثيو'' طيلة اشتغاله على غمر أيامه ولياليه بالبياض المتجاسر على موهبة اللون واندفاعه، طيلة تلك السنوات كاد يبوح وهو يكتب ما يأسره، كاد يفشي ما لا يعرفه . واليكم الرسالة الأخيرة التي كتبها فنسنت فان جوخ إلى أخيه "ثيو" والتي وجدت في جيبه في اليوم الذي مات فيه هو اليوم التاسع والعشرون من يوليو/ تموز عام 1890م .
عزيزي ثيو:
إلى أين تمضي الحياة بي؟ ما الذي يصنعه العقل بنا؟ أنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو االكآبة... أنني أتعفن مللاً لولا ريشتي وألواني هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد.. كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن.. ماذا أصنع؟ أريد أن أبتكر خطوطاً وألواناً جديدة، غير تلك التي يتعثر بصرنا بها كل يوم. كل الألوان القديمة لها بريق حزين في قلبي. هل هي كذلك في الطبيعة أم أن عيني مريضتان؟ ها أنا أعيد رسمها كما أقدح النار الكامنة فيها. في قلب المأساة ثمة خطوط من البهجة أريد لألواني أن تظهرها، في حقول "الغربان" وسنابل القمح بأعناقها الملوية. وحتى "حذاء الفلاح" الذي يرشح بؤساً ثمة فرح ما أريد أن أقبض عليه بواسطة اللون والحركة... للأشياء القبيحة خصوصية فنية قد لا نجدها في الأشياء الجميلة وعين الفنان لا تخطئ ذلك.
اليوم رسمت صورتي الشخصية :
ففي كل صباح، عندما أنظر إلى المرآة أقول لنفسي : أيها الوجه المكرر، يا وجه فانسان القبيح، لماذا لا تتجدد؟ أبصق في المرآة وأخرج ... واليوم قمت بتشكيل وجهي من جديد، لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أن يكون: عينان ذئبيتان بلا قرار. وجه أخضر ولحية كألسنة النار. كانت الأذن في اللوحة ناشزة لا حاجة بي إليها. أمسكت الريشة، أقصد موس الحلاقة وأزلتها.. يظهر أن الأمر اختلط علي، بين رأسي خارج اللوحة وداخلها... حسناً ماذا سأفعل بتلك الكتلة اللحمية؟
أرسلتها إلى المرأة التي لم تعرف قيمتي وظننت أني أحبها.. لا بأس فلتجتمع الزوائد مع بعضها.. إليك أذني أيتها المرأة الثرثارة، تحدثي إليها... الآن أستطيع أن أسمع وأرى بأصابعي. بل أن إصبعي السادس "الريشة" لتستطيع أكثر من ذلك: إنها ترقص وتب وتداعب بشرة اللوحة...
أجلس متأملاً :
لقد شاخ العالم وكثرت تجاعيده وبدأ وجه اللوحة يسترخي أكثر... آه يا إلهي ماذا باستطاعتي أن أفعل قبل أن يهبط الليل فوق برج الروح؟الفرشاة. الألوان. و... بسرعة أتداركه: ضربات مستقيمة وقصيرة. حادة ورشيقة..ألواني واضحة وبدائية. أصفر أزرق أحمر.. أريد أن أعيد الأشياء إلى عفويتها كما لو أن العالم قد خرج تواً من بيضته الكونية الأولى.
مازلت أذكر:
كان الوقت غسقاً أو ما بعد الغسق وقبل الفجر. اللون الليلكي يبلل خط الأفق... آه من رعشة الليلكي. عندما كنا نخرج إلى البستان لنسرق التوت البري. كنت مستقراً في جوف الشجرة أراقب دودة خضراء وصفراء بينما "أورسولا" الأكثر شقاوة تقفز بابتهاج بين الأغصان وفجأة اختل توازنها وهوت. ارتعش صدري قبل أن تتعلق بعنقي مستنجدة. ضممتها إلي وهي تتنفس مثل ظبي مذعور... ولما تناءت عني كانت حبة توت قد تركت رحيقها الليلكي على بياض قميصي.. منذ ذلك اليوم، عندما كنت في الثانية عشرة وأنا أحس رحيقها الليلكي على بياض قميصي.. منذ ذلك اليوم، عندما كنت في الثانية عشرة وأنا أحس بأن سعادة ستغمرني لو أن ثقباً ليلكياً انفتح في صدري ليتدفق البياض... يا لرعشة الليلكي ...
الفكرة تلح علي كثيراً فهل أستطيع ألا أفعل؟
كامن في زهرة عباد الشمس، أيها اللون الأصفر يا أنا. أمتص من شعاع هذا الكوكب البهيج. أحدق وأحدق في عين الشمس حيث روح الكون حتى تحرقني عيناي. شيئان يحركان روحي : التحديق بالشمس، وفي الموت.. أريد أن أسافر في النجوم وهذا البائس جسدي يعيقني! متى سنمضي، نحن أبناء الأرض، حاملين مناديلنا المدماة .. ولكن إلى أين؟ - إلى الحلم طبعاً.
أمس رسمت زهوراً بلون الطين ..
بعدما زرعت نفسي في التراب، وكانت السنابل خضراء وصفراء تنمو على مساحة رأسي وغربان الذاكرة تطير بلا هواء. سنابل قمح وغربان. غربان وقمح... الغربان تنقر في دماغي. غاق... غاق.. كل شيء حلم. هباء أحلام، وريشة التراب تخدعنا في كل حين.. قريباً سأعيد أمانة التراب، وأطلق العصفور من صدري نحو بلاد الشمس.. آه أيتها السنونو سأفتح لك القفص بهذا المسدس:
القرمزي يسيل. دم أم النار؟
غليوني يشتعل:
الأسود والأبيض يلونان الحياة بالرمادي. للرمادي احتمالات لا تنتهي: رمادي أحمر، رمادي أزرق، رمادي أخضر. التبغ يحترق والحياة تنسرب. للرماد طعم مر بالعادة نألفه، ثم ندمنه، كالحياة تماماً: كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلقاً بها... لأجل ذلك أغادرها في أوج اشتعالي.. ولكن لماذا؟!إنه الإخفاق مرة أخرى. لن ينتهي البؤس أبداً..
وداعاً يا ثيو، سأغادر نحو الربيع
في العُزلة .. فان غوخ يهمس وحدّاد يُدوِّن
رنوة العمصي: العربي الجديد
9 أغسطس 2015
"إنني أتعفّن مللاً لولا ريشتي وألواني هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد...".
"كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن.. قمت بتشكيل وجهي من جديد، لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أن يكون: عينان ذئبيتان بلا قرار. وجه أخضر ولحية كألسنة النار. كانت الأذن في اللوحة ناشزة لا حاجة بي إليها. أمسكت الريشة، أقصد موس الحلاقة وأزلتها.. يظهر أن الأمر اختلط علي، بين رأسي خارج اللوحة وداخلها... حسنا ماذا سأفعل بتلك الكتلة اللحمية؟
أرسلتها إلى المرأة التي لم تعرف قيمتي وظننت أني أحبها.. لا بأس فلتجتمع الزوائد مع بعضها.. إليكِ أذني أيتها المرأة الثرثارة، تحدثي إليها...". من رسالة فان غوخ الأخيرة لأخيه ثيودور قبل موته.
كدراما كسولة جدًا، قد يروق للبعض أن يلتقط طرف الحكاية من آخر الخيط ثم يتوقف، أن يلوك حكاية فان غوخ، فيختزلها في رسّام مجنون قطع أذنه وأرسل بها لحبيبته من مصحّته النفسيّة، ثم انتحر. لكنه - فان غوخ - منذ البداية لم يكن قابلًا للفهم الكسول، أو للتصنيف ضمن سياقات اعتيادية، هذا طوال حياته القصيرة جدًا لأهله ومحيطه، فكيف به بعد الموت.
سبعةٌ وثلاثون عامًا، هذا كل الوقت الذي حظي به، 1100 رسم، 900 لوحة و800 رسالة، هذا كل ما حظينا به منه، غير أنه، لمن أراد، يكفي لفهم غير مبتسر، وقد أراد الشاعر البحريني قاسم حدّاد في كتابه الموسوم بـ"أيها الفحم يا سيّدي - دفاتر فنسنت فان غوخ"، الصادر عن دار مسعى للنشر والتوزيع، أن يجمع هذا الأثر، يعيد به بعث فان غوخ، تشكيله، دمًا وروحًا، ثم يستنطق قلبه ولسانه، بما لم يبح به بين السطور، وبين ارتعاشات إصبعه على اللوحة.
144 رسالة صاغها قاسم حدّاد، كأنما بلسان روح فان غوخ، أكمل بها الفراغ، ليس الفراغ الناقص، ولكن ذلك المشحون بالإحباطات، الخيبات، قصص الحبّ غير المكتملة، اغتراب الروح والانفصال عن المحيط، رسائل ساق من خلالها حدّاد مزيدًا من الأسئلة والتفسيرات أيضًا، تشارك وفان غوخ لا الحكاية فقط، وإنما الحالات التي انطوت عليها أفعاله التي لا تعود غريبة، بعد أن نقرأها مفسّرة ومُمَنطَقة حسب فلسفة فان غوخ وتقديراته، بل إن القارئ ربما يجد نفسه منساقًا لأفعاله التي بدت غريبة الأطوار أو عنيفة آنذاك، ويشعر مع قراءة النص، أنه ربما كان ليتصرف وفقًا لهذا المعنى على النحو ذاته!
يبدأ قاسم الرسائل الأولى متلمّسًا الطريق نحو فان غوخ، فيبدو فيها لا يزال يخلق تلك العلاقة معه، يتحدث عنه بضمير الغائب كأنما عين ترقبه من الخارج، ثم يقترب في الرسائل التالية بأن يخاطبه مناديًا إيّاه بيا صديقي.. يا أنا.. ثم ما يلبث أن يتّحد به ويتحدّث على لسانه، كأنما عملية تماهٍ واتحاد ما جرت تدريجيًا أثناء عملية الكتابة التي تمّت في غابات الهضبة المطلة على مدينة شتوتغارت الألمانية، أثناء استضافة حدّاد من قبل (أكاديمية العزلة) في شتاء 2012.
حالة التماهي تلك التي نشأت خلال الكتابة، بقرار مسبق أو من دونه، وجدت لها مناطق التقاء واضحة، يتحد فيها مبدعان، ويشعر معها القارئ، رغم معرفته بأن هذه الرسائل المكتوبة بيد قاسم حداد، إنما هي على لسان فان غوخ، يصير رغم قبوله لحالة التلبّس تلك، يشعر بأن المبدعِين يتقاسمون حالات الشقاء ذاتها، وأن ما يقاسيه فان غوخ، هو بطريقة ما نفسه ما يقاسيه حدّاد، وربّما كثير من المبدعين الخارجين عن السياق العام. فنجد أن بعض الرسائل التي صاغها حدّاد على لسان فان غوخ لها أثرٌ سابقٌ في نصوص وشعر قاسم حدّاد في إصدارات سابقة، عندما كان النص يعكسُ حالة فرديّة خالصة، وذلك في مناطق اشتباك عدّة، وحيث مفاهيم متعددة شكّلت محاور بحث وتساؤل في نصوص حدّاد، كما في حياة فان غوخ ورسائله، مثل الحب، الله، الموت، العائلة والفن...
وبالرغم من اشتغال حداد على توسيع نطاق حالة غوخ التي قيل بأنها الجنون، لتطاله وتطال المبدعين عامة، ثم ليجعل القارئ يفهمها، بل يتفهمها، ويتفاعل معها، فقد عمل ببراعة على التحليل الشخصي والدقيق للحالات النفسية الشاهقة التباين في مزاج فان غوخ خلال يومه، وعبر ما يُعتقَد بأنها يوميّات وعاديّات، كما لم يقف قاسم حدّاد في رسائله، أو رسائل فان غوخ التي همس بها في أذنه وقال اكتب، عند تفسيرات المؤرخين لأفعاله، إذ يرفض حدّاد، على سبيل المثال، فكرة أن غوخ قد انتحر، ويعتبر بأن هذا فعل لا يصدر عن هذا الفنان الجميل النبيل، ويميل ربما إلى الروايات الأخرى الأقل رواجًا، التي من بينها موته طبيعيًا أو مقتله، وهو إذ يعيد تحليل الفرضيّات، يعيدها من خلال البناء المحكم الذي شيّده لهذه الشخصية من خلال اللوحة والنص، فيضع تفسيراته على لسان فان غوخ، كأنما الرجل يردّ عن نفسه الأقاويل!
ورغم انحياز الشعراء للنص، إلا أن قاسم هنا، يضعنا في حيرة السؤال، من أين هي البداية أمن الكلمة أم من الصورة/ الرسم؟ لكنك إذ تحتار، تصير ترتضي فرضيّة أن البداية من المعنى وهو الذي يستحث الأداة أيًا كانت، شعرًا، رسمًا، موسيقى...
(كاتبة وشاعرة بحرينية)
الرسالة الأخيرة: مبدعون يخاطبون العالم قبل الإنتحار
هاني لبيب: موقع: مبتدا قبل الخبر
فان جوخ رسام هولندى، واحد من أشهر هؤلاء المنتحرين، مصنف كأحد فنانى الانطباعية، تتضمن رسومه بعضًا من أكثر القطع شهرة وشعبية وأغلاها سعرًا فى العالم. عانى من نوبات متكررة من المرض العقلى، توجد حولها العديد من النظريات المختلفة، وأثناء إحدى هذه الحوادث الشهيرة، قطع جزء من أذنه اليمنى. كان من أشهر فنانى التصوير التشكيلى. اتجه للتصوير التشكيلى للتعبير عن مشاعره وعاطفته. فى آخر خمس سنوات من عمره رسم ما يفوق 800 لوحة زيتية.
كتب رسالته الأخيرة إلى أخيه، قبل انتحاره قال فيها:
(عزيزى ثيو:
إلى أين تمضى الحياة بى؟ ما الذى يصنعه العقل بنا؟ إنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة...
...إننى أتعفن مللا لولا ريشتى وألوانى هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد.. كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن.. ماذا أصنع؟ أريد أن أبتكر خطوطا وألوانا جديدة، غير تلك التى يتعثر بصرنا بها كل يوم.
كل الألوان القديمة لها بريق حزين فى قلبى. هل هى كذلك فى الطبيعة أم أن عينىّ مريضتان؟ ها أنا أعيد رسمها كما أقدح النار الكامنة فيها.
فى قلب المأساة ثمة خطوط من البهجة أريد لألوانى أن تظهرها، فى حقول (الغربان) وسنابل القمح بأعناقها الملوية. وحتى (حذاء الفلاح) الذى يرشح بؤسا.. ثمة فرح ما أريد أن أقبض عليه بواسطة اللون والحركة... للأشياء القبيحة خصوصية فنية قد لا نجدها فى الأشياء الجميلة وعين الفنان لا تخطئ ذلك.
اليوم رسمت صورتى الشخصية ففى كل صباح، عندما أنظر إلى المرآة أقول لنفسى:
أيها الوجه المكرر، يا وجه فانسان القبيح، لماذا لا تتجدد؟
أبصق فى المرآة وأخرج...
واليوم قمت بتشكيل وجهى من جديد، لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أن يكون:
عينان ذئبيتان بلا قرار. وجه أخضر ولحية كألسنة النار. كانت الأذن فى اللوحة ناشزة لا حاجة بى إليها. أمسكت الريشة، أقصد موس الحلاقة وأزلتها.. يظهر أن الأمر اختلط على، بين رأسى خارج اللوحة وداخلها... حسنا ماذا سأفعل بتلك الكتلة اللحمية؟
أرسلتها إلى المرأة التى لم تعرف قيمتى وظننت أنى أحبها.. لا بأس فلتجتمع الزوائد مع بعضها.. إليك أذنى أيتها المرأة الثرثارة، تحدثى إليها... الآن أستطيع أن أسمع وأرى بأصابعى. بل إن إصبعى السادس (الريشة) ليستطيع أكثر من ذلك: إنها ترقص وتداعب بشرة اللوحة...
أجلس متأملا:
لقد شاخ العالم وكثرت تجاعيده وبدأ وجه اللوحة يسترخى أكثر... آه يا إلهى ماذا باستطاعتى أن أفعل قبل أن يهبط الليل فوق برج الروح؟ الفرشاة. الألوان. و... بسرعة أتداركه: ضربات مستقيمة وقصيرة. حادة ورشيقة.. ألوانى واضحة وبدائية. أصفر، أزرق، أحمر.. أريد أن أعيد الأشياء إلى عفويتها كما لو أن العالم قد خرج توًا من بيضته الكونية الأولى.
مازلت أذكر:
كان الوقت غسقا أو ما بعد الغسق وقبل الفجر. اللون الليلكى يبلل خط الأفق... آه من رعشة الليلكى. عندما كنا نخرج إلى البستان لنسرق التوت البرى. كنت مستقرًا فى جوف الشجرة أراقب دودة خضراء وصفراء بينما (أورسولا) الأكثر شقاوة تقفز بابتهاج بين الأغصان وفجأة اختل توازنها وهوت. ارتعش صدرى قبل أن تتعلق بعنقى مستنجدة. ضممتها إلى وهى تتنفس مثل ظبى مذعور... ولما تناءت عنى كانت حبة توت قد تركت رحيقها الليلكى على بياض قميصى.. منذ ذلك اليوم، عندما كنت فى الثانية عشرة وأنا أحس رحيقها الليلكى على بياض قميصى.. منذ ذلك اليوم، عندما كنت فى الثانية عشرة وأنا أحس بأن سعادة ستغمرنى لو أن ثقبًا ليلكيًا انفتح فى صدرى ليتدفق البياض... يا لرعشة الليلكى...
الفكرة تلح على كثيرًا فهل أستطيع ألا أفعل؟ كامن فى زهرة عباد الشمس، أيها اللون الأصفر يا أنا. أمتص من شعاع هذا الكوكب البهيج. أحدق وأحدق فى عين الشمس حيث روح الكون حتى تحرقنى عيناى.
شيئان يحركان روحى: التحديق فى الشمس، وفى الموت.. أريد أن أسافر فى النجوم وهذا البائس جسدى يعيقنى! متى سنمضى، نحن أبناء الأرض، حاملين مناديلنا المدماة..
- ولكن إلى أين؟
- إلى الحلم طبعًا.
أمس رسمت زهورًا بلون الطين بعدما زرعت نفسى فى التراب، وكانت السنابل خضراء وصفراء تنمو على مساحة رأسى وغربان الذاكرة تطير بلا هواء. سنابل قمح وغربان. غربان وقمح... الغربان تنقر فى دماغى. غاق... غاق.. كل شىء حلم. هباء أحلام، وريشة التراب تخدعنا فى كل حين.. قريبًا سأعيد أمانة التراب، وأطلق العصفور من صدرى نحو بلاد الشمس.. آه أيتها السنونو سأفتح لك القفص بهذا المسدس:
القرمزى يسيل. دم أم النار؟
غليونى يشتعل:
الأسود والأبيض يلونان الحياة بالرمادى. للرمادى احتمالات لا تنتهى: رمادى أحمر، رمادى أزرق، رمادى أخضر. التبغ يحترق والحياة تنسرب. للرماد طعم مر بالعادة نألفه، ثم ندمنه، كالحياة تمامًا: كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلقا بها... لأجل ذلك أغادرها فى أوج اشتعالى.. ولكن لماذا؟! إنه الإخفاق مرة أخرى. لن ينتهى البؤس أبدًا...
وداعًا يا ثيو، سأغادر نحو الربيع).
"اليأس والكفر بالأمل" غذاء الانتحار كما يرى علم النفس
موقع دوت مصر:
"عزيزى ثيو: إلى أين تمضى الحياة بى؟ ما الذى يصنعه العقل بنا؟ إنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة، إننى أتعفن مللًا لولا ريشتي وألواني هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد.. كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن، ماذا أصنع؟".
يجلس فان جوخ أمام لوحته الأخيرة، يتأملها، يبحث عن أمل أخير بين ألوانها، لا يجده فلقد تاه هو وأمله بين الألوان الباهتة، يقرر الانتحار لكن قبل هذا الفعل دائمًا ما تكون رسالة أخيرة، فيحضر ورقة لتحمل سطورها نص رسالته السابقة.
في محبسه الانفرادي يجلس الأمين العام لمجلس الدولة المستشار وائل شلبي، يرفض الطعام، يرفض الحديث أو استكمال التحقيق معه في قضية الرشوة التي تورط فيها مع جمال الدين محمد إبراهيم اللبان مدير عام التوريدات والمشتريات فى مجلس الدولة، هذه القضية المعروفة إعلاميًا بـ" قضية مغارة على بابا والملايين".
يطلب شلبي رؤية أسرته، لكن لا أحد يستجيب له، وبعد ساعات من التحقيق، وإصابته بإغماء، وتهديده بالانتحار، يؤكد محاميه "موكلي انتحر، هدد بالانتحار وفعلها، لم يتحمل كل هذه الضغوط".
"الهروب والانتحار وسيلة يراها بعض البشر الطريق الأنسب لإنهاء كافة الأزمات، يصفه البعض بالفعل الشجاع، بينما يؤكد آخرون أن أكثر صور الجبن الإنساني تطرفًا هو الهروب بالانتحار".
اضطراب ثالوث العلاقة الإنسانية
من منظور نفسي "الإنسان أي كان وظيفته أو عمره أو جنسيته بيكون عنده ثالوث يتمثل في علاقته بربه وبالآخرين وبنفسه(الأنا)، أي اضطراب في أي ضلع للمثلث ده بيأثر على المثلث كله، والمنتحر حينها يُصاب بخلل، لا أحد يستطيع معرفة أسباب الانتحار بالفعل، لكننا نقدم تخمينات من منظور نفسي".. هذا ماقاله دكتور أحمد ثابت لـ "دوت مصر" عن الانتحار.
وترى دكتور ميرفت العماري استشاري الطب النفسي، أنه من الوارد أن يكون لدى المستشار معلومات لن يستطع الإفصاح عنها، لكن الوضع الذي فيه وخوفه من السجن يحتم عليه التحدث، ربما كان مظلومًا لكن الضغوطات كانت أكبر منه، عاش في صراع كبير مع نفسه، ومن ثم جاء قرار العزلة الإرادية قرر أن ينعزل عن العالم كله فانتحر.
"يتواصل شلبي مع أحد أقاربه عبر الهاتف، يتناول ما يقرب من 9 أكواب قهوة، يدخل إلى محبسه ويغلق ورائه الباب، فيقررأن ينعزل عن العالم الخارجي بإرادته".
ويضيف محاميه "نصحنا شلبي ألا يقدم على هذه الخطوة مهما كانت الضغوط لكنه لم يستمع لأي شخص".
التردد في اتخاذ قرار البقاء على "قيد الحياة" أو الرحيل، السلبية، الهواجس، أكثر المشاعر التي تصاحب معظم المقبلين على قرار الانتحار؛ القرار ليس سهلًا على أي شخص، مهما كانت شخصيته، الشخص المنتحر قد يكون خائفًا من مواجهة الشعب أو أسرته أو ضميره، لأنه قد يكون يشعر بالعار.
ويشير دكتور أحمد ثابت إلى أن قدراتنا الفردية تتفاوت في مواجهة المشاكل والصعاب؛ بعضنا يلجأ للانتحار ويهرب سريعًا من المشاكل، آخر يقتحمها لكي يتجاوز كل العقبات، وثالث لا ينظر إليها ويسير في طريقه؛ لذا التنشئة الاجتماعية والإيمان بالله والديانات تلعب دورًا مهمًا في هذا الأمر.
وتؤكد دكتور ميرفت أن الإنسان وقت الانتحار يشعر أنه ضئيل جدًا، غير قادر على فعل أي شيء أمام المشكلة التي تواجهه، فيقرر أن يدخل في إغمائة أبدية، وهذا القرار لا يكون وليد اللحظة أبدًا بل يكون له استعداد نفسي سابق، ويجب أن نعرف تاريخ شخصيته وحجم المشكلة لنحدد هل بالفعل يمتلك القدرة على الانتحار أم لا؟ لأنه من الممكن ألا يكون هذا الشخص قد انتحر من الأساس؟!
"الأسود والأبيض يلونان الحياة بالرمادي، التبغ يحترق والحياة تتسرب، للرماد طعم مر، بالعادة نألفه، ثم ندمنه، كالحياة تماماً.. كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلقاً بها، لأجل ذلك أغادرها فى أوج اشتعالي، ولكن لماذا؟.. إنه الإخفاق مرة أخرى، لن ينتهي البؤس أبدًا، وداعًا يا ثيو، سأغادر نحو الربيع".. رسالة فان جوخ الأخيرة قبل الانتحار.
انتحار أديب في العريش
أسيوط فيس توك:
«إلى أين تمضى الحياة بي؟ ما الذى يصنعه العقل بنا؟ إن الأشياء تفقد بهجتها وتقودنا نحو الكآبة.. إننى أتعفن مللا.. كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن.. ماذا أصنع؟ أريد أن أبتكر خطوطا وألوانا جديدة، غير تلك التى يتعثر بصرنا بها كل يوم، اليوم رسمت صورتى الشخصية , ففى كل صباح عندما أنظر إلى المرآة أقول لنفسى: أيها الوجه المكرر، لماذا لا تتجدد؟ وأبصق فى المرآة وأخرج.
لقد شاخ العالم وكثرت تجاعيده، فعندما كنت فى الثانية عشرة، كنت أشعر بأن سعادة ستغمرنى، لو أن ثقباً انفتح فى صدرى .. الفكرة تلح على كثيراً فهل أستطيع ألا أفعل؟.. أريد أن أسافر فى النجوم، وهذا البائس جسدى يعيقني! سوف أطلق العصفور من صدرى نحو بلاد الشمس.. سأفتح له القفص بهذا المسدس.
وداعاً، سأغادر نحو الربيع».
هذه الكلمات من الرسالة الأخيرة للرسام العالمى الشهير " فان جوخ " قبل أن ينتحر.
ما الذى يدعو شاباً موهوباً ان يتخذ قراراً بإنهاء حياته؟
فى اليوم نشرت صفحات الحوادث والمواقع الإخبارية خبر انتحار شاب فى سيناء، لكن هذه المصادر لم تذكر أن هذا الشاب هو مؤلف ناشئ، انتحر وهو مازال فى سنوات الحلم، ألقى بنفسه من الدور الرابع فى إحدى بنايات العريش، العريش الذى اختارها لنفسه وطناً، بعدما اختارت له الحياة محافظة أسيوط مسقط رأس فى19/1/1975، حيث قضى الكاتب الناشئ عبد الظاهر المكاوى الشهير "بأبو علم " طفولته وأول شبابه فى الصعيد ؛ كان صديقاً للكتاب ولكل ما يمكن قراءته، ليس لديه سوى حلم واحد، أن يصبح فى يوم من الأيام كاتباً مثل هؤلاء الذين يقرأ لهم، يدعونه هم لكل التفاعلات الثقافية ومعارض الكتب، ويدعوهم هو لحفلات توقيع كتبه.
*روابط لمن يرغب بالمزيد
https://www.alzeet.com/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D9%81%D8%A7%D9%86-%D8%BA%D9%88%D8%AE/
https://www.makalcloud.com/post/dmvmuttui
http://www.almayadeen.net/articles/blogculture/847039/%D8%B1%D9%82%D8%B5%D8%A9-%D8%AA%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85-%D8%A3%D8%B3%D8%B7%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%AC%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%83
http://www.alkhaleej.ae/supplements/page/1999d834-26ec-42db-bba2-8bd49fb26132
https://soundcloud.com/lama-dalbah/px41j0wclkiu
http://www.rosaelyoussef.com/news/details/296249
https://soundcloud.com/somaya-fady/jbgzp4ophngk
http://www.3ain.net/Article/27402/%D9%81%D9%89-%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9%89-%D8%B1%D8%AD%D9%8A%D9%84-%D9%81%D8%A7%D9%86-%D8%AC%D9%88%D8%AE-%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%81-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%86%D8%B5-%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%B1%D9%87
http://bushraalturiri.blogspot.com/2016/08/blog-post_17.html
https://www.elwatannews.com/news/details/2375792
http://maktaba-amma.com/?p=10920
https://www.youtube.com/watch?v=A_zncb6YZkk
https://www.ida2at.com/van-goghs-end-a-suicide-or-accidental-death/
تسجيل بصوت أحمد قطليش:
https://soundcloud.com/ahmed-n-katlish/oe9euxkueawl?utm_source=soundcloud&utm_campaign=share&
tm_medium=facebook
https://www.youtube.com/watch?v=T23dLgFHXXQ
https://www.google.com/search?q=%D9%81%D8%A7%D9%86+%D8%AC%D9%88%D8%AE+%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D9%8A%D8%B1%D8%A9&source=lnms&tbm=vid&sa=X&ved=0ahUKEwjG65_K1JvjAhXSMewKHVdlClMQ_AUIECgB&biw=1280&bih=869
https://www.youtube.com/watch?v=X6AP1env5hw&feature=youtu.be&fbclid=IwAR2GBaQJab3mYae_kTbXItrSJKObBRgVwQjH9eIZIVZ32HhtlESL1MYndiY
التعليقات
عبقري .. وساحر
لا أدري ..ربّما ..هل تماهيت مع روح فانسان ..هل خاطبتك في لحظة تجلّي .. رغم أنّ الزّمن قد وطأ هذه الكلمات منذ سبعة عشر عاماً ولكنّها لا تزال تشعّ سحراً!! "إلى أين تمضي الحياة بي ؟" ليس فان كوخ من يسأل ..إنه سؤال أبدي. "وحتى (حذاء الفلاح) الذى يرشح بؤسا".. لماذا تمعن في تعذيبنا ؟؟ "ورعشة الليلكي" .. "والفكرة التي تلحّ علي" ..حسناً الأفضل أن .."أغادرها في أوج اشتعالي ". اللعنة عليكم .. أين كأس الويسكي وسيجارتي . جميل أنّ من كتب هذه اللوحة ليس فان كوخ .. والأجمل أنني أستطيع أن أخاطب كاتبها. لك كلّ الحب والتّقدير.
(الجمل): لك مكانة معرفية عليا بين قراء الجمل..وعسى أن نلتقي يوما ..
إضافة تعليق جديد